رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 1 أغسطس، 2016 0 تعليق

النيّـــات في قــراءة القرآن الكريم(4)

المؤمن المهتدي بالقرآن يستبصر به في جميع مطالبه ومقاصده ويسير عليه ويهتدي به فيَأمن بذلك من الشقاء ويسعد بدنياه وأخراه

في القرآن العظيم تبيانٌ لكلِّ شيءٍ مما يحتاجه الناس في حياتهم كلها الدينية والدنيوية العقدية والتشريعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية

 

تعظيم النيات واستحضارها، هي تجارة قلوب الصالحين، من الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، والعلماء الربانيين، فإنهم كانوا يعملون العمل الواحد ولهم فيه نياتٌ كثيرة، يحصل لهم بها أجورٌ عظيمة على كل نية؛ فعندما تتعدد النيات على العمل الواحد، والطاعة الواحدة، يتضاعف الأجر، وتكثر المثوبة، فتكسب أجراً على كل نيه تنويها على العمل الواحد الذي تؤديه مرة واحدة، وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: «النيِّة أبلغ من العمل». ونستكمل في هذه الحلقة الكلام عن بعض النيات، التي يَحسن أنْ نَنْويها عند قراءة القرآن الكريم:

نَحتسبُ قراءته سَبباً لنُزول رحماتِ ربِّنا علينا وقد قرَّر الله -سبحانه- أنَّ كتابه وكلامه، رحمةٌ للمؤمنين والمؤمنات، في آيات كثيرة من كتابه الكريم، فمن ذلك:

1- قال سبحانه {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} الأنعام: ١٥٧.

يقول الطبري: فقد جاءكم كتابٌ بلسانكم عربي مبين، حُجة عليكم واضحة بينة من ربكم {وهدى}، يقول: وبيان للحق، وفرقان بين الصواب والخطأ، {ورحمة} لمن عمل به، واتبعه.

2- وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الأعراف: ٥٢.

أي: بهذا الكتاب تحصل للمؤمنين الرحمة، وهي الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وينتفي عنهم الضلال والشقاء، والعذاب والسخط.

3- وقال سبحانه: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الأعراف: ٢٠٣.

فالمؤمن المهتدي بالقرآن، يستبصر به في جميع مطالبه ومقاصده، فعنده الدليل على طريقه الذي يتبعه، ويسير عليه ويهتدي به، فيَأمن بذلك من الشقاء، ويسعد بدنياه وأخراه.

4- وقال -عز وجل-: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} يونس: ٥٧.

فالمؤمن وحده، تحصل له الرحمة بالقرآن دون غيره من الناس، وصلاح الحال والمآل.

5- وقال -عز وجل-: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} هود: ١٧.

فكل الكتب السماوية – وأعظمها القرآن الكريم – هي رحمةٌ للخَلق، وهداية لهم، من الجهالة والضلالة والشقاوة.

6- وقال سبحانه {وما أَنزلنا عليكَ الكتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} النحل: ٦٤.فالمقصد الأعلى لإنزال الكتاب: الحُكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهو هداية للعالمين في كل شؤونهم.

7- ومثلها: قوله سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} النحل: ٨٩.

ففي القرآن العظيم، تبيانٌ لكلِّ شيءٍ مما يحتاجه الناس في حياتهم كلها، الدينية والدنيوية، العقدية والتشريعية، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها.

8- وكذا قوله سبحانه {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} النمل: ٧٧.  فيؤكد الله -تعالى- هذا الأمر فيقول {وإنه لهدى}. وغيرها من الآيات.

نحتسبُ قراءته لطمأنينةِ قلوبنا، وسَكينة أنفسنا، وراحة أرواحنا فتلاوة القرآن الكريم، فيها الراحة والطمأنينة والسكينة، كما أخبر ربنا بذلك في آيات:

1- يقول الله -تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد: 28.

فقوله: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} قال قتادة: سكنتْ إلى ذكر الله، واستأنست به. انتهى.

     فالنفوس تطمئن بقراءة القرآن، والأرواح تسكن بذلك وتستريح، ومعلوم أنَّ سعادة الإنسان في هذه الحياة، هي في اطمئنان قلبه، وراحة باله، واستقرار نفسه، وقد أرشد الله -تعالى- عباده في كلمةٍ موجزة حكيمة، إلى الوسيلة التي تُحقّق لهم هذه السعادة، وتَقِيهم من عذابِ القلق والهمِّ، والحُزن والاضْطراب، وآلام الجزع والهلع، وشقاء الشك والارتياب، فقال جلَّ ثناؤه، وهو أصدق القائلين: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد: 28.

     ولا بدَّ أنْ نعلم: أنّ ذكر الله -تعالى- الذي تطمئن به القلوب تماماً، ليس هو مجرد ترديد اللسان للآيات، أو لاسمٍ من أسماء الله -تعالى-، أو صفةٍ من صفاته، وإنما هو بتذكّر ألوهيته ووحدانيته وربوبيته، وعظمته وقوته وقدرته، وقهره وعزته، واستشعار رأفته ورحمته، واستحضار حكمته وعدالته في قضائه وقدره، وشرعه وأحكامه.

2- وعن أَبي هُريرةَ - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «ما اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعالَى، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، ويَتَدَارَسُونَهُ بينهم، إِلَا نَزَلَتْ عليهم السَّكِينَةُ، وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وذَكَرَهُمُ اللَّهُ فيمَنْ عِنْدَهُ». رواه مسلم. فقوله «ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله» أي: المسجد، وأُلحق به نحو مدرسة ورباط.  «يتلون كتاب الله ويتدارسونه» أي: يشتركون في قراءة بعضهم على بعض، ويتعهدّونه خوف النسيان.

     «إلا نزلت عليهم السكينة» السكينة: فعيلة، صيغة مبالغة، من السُّكون، والمراد هنا: الوقار والرحمة أو الطمأنينة  «وحفّتهم الملائكة» أي: أحاطت بهم ملائكة الرحمة. نقرؤه ليَذْكُرنا اللهُ -عز وجل-، كما وَعَدنا بذلك، وهي من أعظم المقاصد.  فالله -تعالى- يذكر من يَذكره، كما أخبر بذلك سبحانه، وأخبر بذلك رسوله -صلى الله عليه وسلم -.

1- قال الله -تعالى- {فاذكروني أذكركم} البقرة: 152.

فيا لها من مكافأةٍ عظيمة، ويا له من تفضّلٍ وكرم، من الرب الكريم الوهاب، أنه -جلّ جلاله وعز سلطانه-، يَذكر عباده الذين يذكرونه، مكافأة لهم على ذكرهم إياه، إنه الفضل الذي لا يفيضه إلا الله سبحانه، الذي لا عادَّ لعطاياه، ولا حاسب لفضله.

قال الحسن البصري:‏ إنّ اللّه يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويعذب من كفره.‏

وقال الحسن البصري أيضا: اذكروني فيما افترضتُ عليكم، أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي.‏

2- ويقول الله -عز وجل-: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} العنكبوت: 45.

وللمفسرين في قوله -تعالى- {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أقوال:  قال ابن الجوزي -رحمه الله-: «قوله -تعالى-: {ولذِكر الله أكبر} فيه أربعة أقوال:

- أحدها: ولذكر الله إياكم، أكبر من ذكركم إياه، وبه قال ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد. والثاني: ولذكر الله -تعالى- أفضل من كل شيء سواه، وهذا مذهب أبي الدرداء، وسلمان، وقتادة. والثالث: ولذكر الله -تعالى- في الصلاة، أكبر مما نهاك عنه من الفحشاء والمنكر، قاله عبد الله بن عون. والرابع: ولذكر الله -تعالى- العبدَ - ما كان في صلاته - أكبر من ذكر العبدِ لله -تعالى-، قاله ابن قتيبة «انتهى من «زاد المسير» {3/ 409}.

     واختار غير واحد من المحققين والمفسرين القول الثالث، وهو أنّ حصول ذكر الله بالصلاة، أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «يَعنِي: أَنَّ الصَّلاةَ تَشتَملُ على شيئَينِ: على تَرْكِ الفَواحِشِ والمُنْكراتِ، أَي: إِنَّ مُواظبَتَها تَحْمِلُ على تَرْكِ ذلك.

وتَشتَملُ الصَّلاةُ أَيضا: على ذِكْرِ اللَّهِ -تعالى-، وهو المطلوبُ الأَكبرُ؛ ولهذا قال -تعالى-: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أَي: أَعْظَمُ منَ الْأَوَّلِ».

3- وعن أنَس - رضي الله عنه - قال:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -:‏ ‏«قال اللّه -عزّ وجلّ-: يا ابن آدم، إنْ ذكرتَني في نفسِك، ذكرتُك في نفسي، وإنْ ذكرتني في ملأٍ، ذكرتُك في ملأ من الملائكة - أو قال: في ملأٍ خيرٍ منه - وإنْ دنوت مني شبراً، دنوتُ منك ذراعاً، وإنْ دَنوت مني ذراعاً، دَنوتُ منك باعاً، وإنْ أتيتني تمشي أتيتك هرولةً‏». أخرجه البخاري.

4- وفي حديث أَبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - السابق: عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «ما اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعالَى، يَتْلُونَ كتَابَ اللَّهِ، ويَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُم، إِلَّا نَزَلَتْ عليهم السَّكِينَةُ، وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وذَكَرَهُمُ اللَّهُ فيمَنْ عِنْدَهُ». رواه مسلم.

فقوله «وذكرهم الله «أي: أثنى عليهم أو أثابهم {فيمن عنده} من الأنبياء وكرام الملائكة.

ولا أعظم ولا أجلّ؛ من أنْ يذكرك الله فيمن عنده!

5- وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي: «إنَّ الله أمرني أنْ أَقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} البينة:1. قال: وسمَّاني؟! قال: «نعم». فبكى.

وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأُبيّ: إن الله -عز وجل- أمرني أنْ أقرأ عليك. قال: آلله سمّاني لك؟ قال: «اللهُ سمّاك لي». فجعَلَ أُبيّ يبكي. متفق عليه.

فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بن كعب: إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} فقال أبي: وسمّاني؟ أي: هل نصَّ علي باسمي؟ أو قال: اقرأ على واحدٍ من أصحابك، فاخترتني أنت؟ فقال له: «الله سماك لي» أي: ذكرك لي بالاسم، فبكى أبيٌ - رضي الله عنه -، إما فرحاً وسروراً بذلك، وإما خشوعاً وخوفا من التقصير في شكر تلك النعمة.

قال القرطبي: تعجّب أُبي من ذلك؛ لأنَّ تسمية الله له، ونصّه عليه، ليقرأ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - تشريفٌ عظيم، فلذلك بكى إما فرحاً وإما خشوعا.

وقال أبو عبيد: المراد بالعرض على أبي، ليتعلّم أبي منه القراءة ويتثبت فيها، وليكون عرض القرآن سُنة، وللتنبيه على فضيلة أبي بن كعب، وتقدمه في حفظ القرآن، وليس المراد أن يستذكر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا بذلك العرض.

وقال القرطبي: خصّ هذه السورة بالذكر؛ لما اشتملت عليه من التوحيد والرسالة والإخلاص، والصحف والكتب المنزلة على الأنبياء، وذكر الصلاة والزكاة، والمعاد وبيان أهل الجنة والنار، مع وجازتها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك