رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 23 أغسطس، 2016 0 تعليق

النيّات في قراءة القرآن الكريم (6)

الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي وتلاوة القرآن من أعظم الطاعات وأجلّ القربات كما أن الإيمان يزيد بالعلم الشرعي والقرآن العظيم هو أصل العلوم كلها

من نيّاتنا بقراءة القرآن أننا نريد أنْ نزداد علماً بربنا  وإيماناً به  ومعرفة له  فنزداد له حُبّاً وذُلاً وافتقاراً

 

 تعظيم النيات واستحضارها، هي تجارة قلوب الصالحين، من الصحابة -رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، والعلماء الربانيين؛ فإنهم كانوا يعملون العمل الواحد ولهم فيه نياتٌ كثيرة، يحصل لهم بها أجورٌ عظيمة على كل نية، فعندما تتعدد النيات على العمل الواحد، والطاعة الواحدة، يتضاعف الأجر، وتكثر المثوبة، فتكسب أجراً على كل نيه تنويها على العمل الواحد الذي تؤديه مرة واحدة، وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: النيِّة أبلغ من العمل.

ونستكمل في هذه الحلقة الكلام عن بعض النيات، التي يَحسن أنْ نَنْويها عند قراءة القرآن الكريم:

سبباً لزيادة إيماننا

     نحتسبُ قراءته أنْ يكونَ سبباً لزيادة إيماننا، وقوة يقيننا؛ فالإيمان يزيد بالطاعات، كما هو مذهب أهل السُّنة والجماعة، وينقص بالمعاصي، وتلاوة القرآن من أعظم الطاعات، وأجلّ القربات، كما أن الإيمان يزيد بالعلم الشرعي، والقرآن العظيم هو أصل العلوم كلها .

 1- قال تعالى: {وإذا ما أٌنزلتْ سورةٌ فمنهم من يقولُ أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مَرضٌ فزادتهم رِجساً إلى رجسهم وماتُوا وهم كافرون}( التوبة : 124 - 125).

 نزداد علماً بربنا

     ومن نيّاتنا بقراءة القرآن: أننا نريد أنْ نزداد علماً بربنا ، وإيماناً به، ومعرفة له؛ فنزداد له حُبّاً وذُلاً وافتقاراً: فالقرآن الكريم مليء بأسماء الله تعالى الحسنى، وصفاته العلى، وأفعاله الحكيمة، والإخبار عن نفسه سبحانه، ومن كلام ربنا نعلم صفاته وأسمائه وفعاله؛ فإنه أعلم بنفسه، ولا نعلم عنه تعالى شأنه، إلا ما علّمنا إياه، أو علّمنا أعلم الخلق به، وهو رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى . وقد نبّه الله -تعالى- إلى ذلك في كتابه:

1- كما قال تعالى: {يَعلم ما بينَ أيديهم وما خلفهم وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاء}(البقرة : 255).  فقوله: {إِلا بِمَا شَاءَ} أي: ما شاء من الذي علّمهم الله إياه، وهو استثناء، وقد أعيد العامل وهو حرف (الباء). بما يحتمل أن تكون ما مصدرية، فالتقدير على ذلك: إلا بمشيئته. ويحتمل أنْ تكون موصولة، والتقدير: إلا بالذي شاء . وعلى التقدير الثاني، يكون العائد محذوفاً ، وتقديره: إلا بما شاءه .

فبذلك نعلم أنه لا أحد يطّلع على علم الله من شيء ، إلا بما أعلمه الله -تعالى-، وأطلعه عليه.

     قال أبو جعفر الطبري في الآية: يعني - تعالى ذكره - بذلك: أنه المحيط بكل ما كان، وبكل ما هو كائن علما، لا يخفى عليه شيء منه .

قال : عن الحكم : {يعلم ما بين أيديهم) الدنيا (وما خلفهم) الآخرة .

وقال مجاهد: (يعلم ما بين أيديهم) ما مضى من الدنيا (وما خلفهم) من الآخرة.

وكذا عن ابن جريج والسدي .

     قال : وأما قوله: (ولا يُحيطون بشيءٍ من علمه إلا بما شاء ) فإنه يعني - تعالى ذكره - : أنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء، محيطٌ بذلك كله، محص له دون سائر من دونه، وأنه لا يعلم أحدٌ سواه شيئاً إلا بما شاء هو أنْ يعلمه، فأراد فعلمه، وإنما يعني بذلك: أن العبادة لا تنبغي لمن كان بالأشياء جاهلا، فكيف يعبد من لا يعقل شيئا ألبتة من وثن وصنم؟! يقول: أخلصوا العبادة لمن هو محيط بالأشياء كلها، يعلمها، لا يخفى عليه صغيرها وكبيرها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .  فعن السدي: (ولا يحيطون بشيء من علمه) يقول: لا يعلمون بشيءٍ من علمه (إلا بما شاء) هو أنْ يعلمهم .

     فربنا -سبحانه- قد أحاط علما بكل شيء، وأحاط بالأمر، أي أَحْدق به من جوانبه كلها ، وأحاط به علمُه ، وأحاطَ به علماً.

      والمراد أنّ الخَلق الذين في السماوات والأرض المذكورين آنفاً، لا يحيطون ولا يعلمون شيئاً من علم الله -عز وجل-، إلا ما أراد الله -عز وجل- أنْ يُطلعهم عليه.

فالعلم هنا بمعنى المعلوم، أي: ولا يُحيطون بشيءٍ من معلوماته، إلا ما شاء الله أن يعلموه .

     وما علّمنا الله -عز وجل- كثيرٌ بالنسبة لنا، قليل لمعلومه -تعالى- كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا}( الإسراء : 85).

     قال البقاعي: ولما بيّن قهره لهم بعلمه، بيّن عجزهم عن كلِّ شيء من علمه، إلا ما أفاض عليهم بعلمه، فقال: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ) أي: قليل ولا كثير (مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ)؛ فبان بذلك ما سبقه؛ لأنّ من كان شامل العلم، ولا يعلم غيره إلا ما علَّمه، كان كامل القدرة، فكان كل شيء في قبضته، فكان منزهاً عن الكفؤ، متعالياً عن كل عجزٍ وجهل، فكان بحيث لا يقدر غيرُه أنْ ينطقَ إلا بإذنه؛ لأنه يُسبب له ما يمنعه مما لا يريده (نظم الدرر  1/497 ) .

     وقال العلامة ابن عثيمين: (مِن علمه) يحتمل من علم ذاته وصفاته، يعني: أننا لا نعلم شيئاً عن الله وذاته وصفاته، إلا بما شاء؛ مما علمنا إياه. (شرح الواسطية 1/171 ) . فمعلوماته -عز وجل- يدخل فيها علمه بذاته وبأسمائه وبصفاته وأفعاله.

     ومما علمنا الله -سبحانه- عن أسمائه وصفاته : قوله تبارك وتعالى : {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(الحشر : 22-24 ).

     فعلّمنا في هذه الآيات الكريمة : أنه الرحمن الرحيم ، أي : المتصف بالرحمة الواسعة، التي شملت خَلقه ووسعتهم، وأنه المَلِك الذي له المُلك كله، وله الأمر والنهي على جميع خلقه، وأنه القدوس السلام، أي: المُبرّأ من كلّ عيبٍ، السالم من كل نقص، إلى آخر ما جاء في هذه الآيات من الأسماء الحسنى، والصفات العلى لربنا سبحانه.

     فكل اسم من تلك الأسماء المذكورة، يتضمن من صفات الكمال ما يدل عليه، وقد يتضمن الاسم صفةً واحدة، وقد يتضمن أكثر من صفة، بحسب ما يدل عليه من ذلك ، مثل صفة « الأحد» فهي تدل على الكمال المطلق ؛ كما تدل على نفي صفة الولادة والتولد، كما دلّ على ذلك آية أخرى ، وهي قوله في سورة الإخلاص: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد}(الإخلاص :3 .

 وأما غير تلك الصفات المشتقة من الأسماء؛ فمنها بعض الصفات المتعلقة بالذات ، مثل:

صفة الوجه، كما في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}(الرحمن :27).

     وصفة اليدين، كما في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}(المائدة :64). وصفة العين، كما في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}(طه :39 ).

وصفة النفس ، كما في قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}(الأنعام :54).

     وصفة الكلام، كما في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}(النساء:164)، وهذه الصفة من الصفات الفعلية أيضاً .  وصفة المعية ، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}(الحديد :4).  وأما الصفات الفعلية التي لم تشتق من الأسماء، فهي:  صفة الاستواء، كما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(طه :5). فأعلمنا سبحانه في كتابه: أنه استوى على عرشه ، أي : علا وارتفع عليه . وقد قال ذلك في سبع آيات من كتابه: أنه {اسْتَوَى الْعَرْشِ}.

     وأنه فوق خلقه أجمعين، فقال -سبحانه- عن ملائكته الكرام الذين في السموات: {يخافون ربهم من فوقهم}(النحل: 50). وقال سبحانه: {سبح اسم ربك الأعلى}(الأعلى : 1).

     ومنها: صفة الرضا، كما في قوله تعالى: {رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}(المائدة: 119).  وصفة المحبة، كما في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}(المائدة :54). وصفة الكُره ، كما في قوله تعالى: {وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ}(التوبة :46). وصفة الغضب ، كما في قوله تعالى: {وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ} (النساء :93).

صفة المجيء والإتيان ، كما في قوله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}(الفجر :22).

وقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ}(البقرة :210).

     والخلاصة أن الصفات الواردة في كتاب الله: منها ما اشتق من أسماء الله الواردة في القرآن، مثل (الله) يتضمن صفة الألوهية، و(الرب) يتضمن صفة الربوبية، و(السميع) يتضمن صفة السمع، و(البصير) يتضمن صفة البصر، و(الحكيم) يتضمن صفة الحكمة، و(العليم) يتضمن صفة العلم، وهكذا في باقي الأسماء .

      وكذلك كما نحن نتعلم أشياء عن أسماء الله -عز وجل- وعن صفاته، من قراءة كتابه وتدبره، فكذلك نتعلم من القرآن الكريم دينه وشريعته، من الأحكام الشرعية، والحلال والحرام، والعبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك.

     وكذلك الأحكام الكونية ، وعلم ما خلق سبحانه في الأرض من جبال وبحر ونهر وشجر ودواب وأنعام، وما في السماء من شمسٍ وقمر، ونجومٍ وكواكب، ورياح وسحاب ومطر، ورعد وبرق .

وهو الذي أعلمنا أنَّ السماوات مخلوقة بغير عمدٍ، وأنَّ عددها سبع: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}(الرعد: 2).

     وأنه {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} (الملك :3 ).  وقوله : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}(البقرة :189).

      وهكذا بقية المعلومات، لا نُحيط بشيء منها علماً، إلا بما شاء الله، حتى المعلومات التي أمامنا، يجهلها الكثير منا إلا إذا شاء الله -تعالى- أنْ نطلع عليها. فبذلك يتضح أننا لا نعلم شيئاً مما يعلمه الله، إلا بما شاء، ولا نحيط بشيء مما يتعلق بصفاته ولا بذاته إلا بما شاء؛ فبذلك يتبين كمال علمه -عز وجل-.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك