رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 27 سبتمبر، 2016 0 تعليق

النيات في قــراءة القرآن الكريم(8)


تلاوة القرآن تَزيد المسلم خشيةً وخوفا من ربِّه تعالى لأن المؤمنين عند ذكر الله تقشعر جلودهم وتوجل قلوبهم وتبكي أعينهم من خشية الله تعالى

ما يُحدثه أهل البدعة من الصياح والصراخ والشهيق والاضطراب الشديد عند سماع القرآن وذكر الله فمن عمل الشيطان ومما زيّنه لأهل البدع

 

 

تعظيم النيات واستحضارها، هي تجارة قلوب الصالحين، من الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان، والعلماء الربانيين؛ فإنهم كانوا يعملون العمل الواحد ولهم فيه نياتٌ كثيرة، يحصل لهم بها أجورٌ عظيمة على كل نية، فعندما تتعدد النيات على العمل الواحد، والطاعة الواحدة، يتضاعف الأجر، وتكثر المثوبة، فتكسب أجراً على كل نيه تنويها على العمل الواحد الذي تؤديه مرة واحدة، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: «النيِّة أبلغ من العمل»، ونستكمل في هذه الحلقة الكلام عن بعض النيات، التي يَحسن أنْ نَنْويها عند قراءة القرآن الكريم:

خشية الله عز وجل

     نقرؤه بنيّة خشية الله عز وجل، فإن تلاوة القرآن مما يَزيد المسلم خشيةً وخوفا من ربِّه تعالى: فقد وصف الله تعالى عباده المؤمنين في القرآن، أنهم عند ذكر الله، وتلاوة القرآن، أنهم تقشعر جلودهم، وتوجل قلوبهم، وترق أفئدتهم، وتبكي أعينهم من خشية الله تعالى، فمن ذلك:

1- قال الله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمِنْ يُضْلِل اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} الزمر: 23.

     والاقشعرار: هو انتفاض شعر الجلد، وقيامه من الخوف والفزع، فيرتعد الجسد من الخوف رِعدة وانتفاضة يسيرة، لا تخرج عن حدّ الاعتدال.

     قال ابن كثير رحمه الله: «قوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَي: هذهِ صِفَةُ الْأَبْرارِ، عندَ سَماعِ كلامِ الْجَبَّارِ، الْمُهَيْمِنِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، لِما يَفهمُونَ منه مِنَ الْوَعدِ والْوَعيدِ، والتَّخوِيفِ والتَّهدِيدِ، تَقْشَعِرُّ منه جُلودُهم مِنَ الخَشيَةِ والخَوْفِ، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} لِما يَرْجُون ويُؤمِّلون مِنْ رحْمَتِهِ ولُطْفِهِ، فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِغيرِهِم مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ وُجُوهٍ:

- أَحدُها: أَنَّ سَمَاعَ هؤُلاء هو تِلَاوَةُ الْآيَاتِ، وسماعُ أُولَئِكَ نَغَمات لِأَبْيَاتٍ، مِنْ أَصْوَاتِ القَيْنات.

- الثَّاني: أَنَّهُمْ إِذا تُلِيَتْ عليهم آيَاتُ الرَّحْمَنِ، خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيَّا، بِأَدَبٍ وخَشْيةٍ، ورَجَاءٍ ومحبَّةٍ، وفَهْمٍ وعلْمٍ.

- الثالثُ: أَنَّهم يَلْزمونَ الْأَدَبَ عند سَماعها، كما كان الصَّحابةُ -رضي اللَّهُ عنهم- عند سَمَاعِهِم كلَامَ اللَّهِ مِنْ تلاوَةِ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم تَقْشَعِرُّ جُلُودُهم، ثُمَّ تَلينُ مع قُلُوبهم إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، لمْ يَكُونُوا يتصارخُون، ولا يَتَكَلَّفُونَ ما ليس فيهم، بل عندهم مِنَ الثَّبَاتِ وَالسُّكُونِ والْأَدبِ والْخشْيةِ، ما لا يَلحقُهُم أَحدٌ في ذلك؛ ولهذا فَازُوا بالقِدح المُعَلّى، في الدُّنْيا والْآخرة.

     قال عبد الرَّزَّاق: حدّثنا مَعْمَر قال: تَلَا قَتَادَةُ رحمه اللَّهُ: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) قال: «هذا نَعْتُ أَولِيَاءِ اللَّهِ، نَعتهُم اللَّهُ بِأَنْ تَقْشَعِرَّ جُلُودُهم، وتبكيَ أَعيُنُهُم، وتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهم إِلى ذِكْر اللَّهِ، ولم يَنْعَتْهُم بذَهابِ عُقُولِهم والْغَشَيَانِ عليهم، إِنَّما هذا في أَهلِ البدعِ، وهذا مِنَ الشَّيْطَانِ؟!» انتهى (تفسير ابن كثير).

المؤمنون الصادقون في دينهم

2- وقال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} الأنفال: 2-4.

     فيقول سبحانه: إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم {الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم} خافت وفرقت قلوبهم، وقيل: إذا خُوفوا بالله انقادوا خوفاً من عقابه. (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) تصديقاً ويقينا. وقال عمير بن حبيب وكانت له صحبة: إنَّ للإيمان زيادةً ونقصانا، قيل: فما زيادته؟ قال: إذا ذكرنا الله -عز وجل- وحمدناه، فذلك زيادته، وإذا سهونا وغفلنا، فذلك نقصانه.

(وعلى ربهم يتوكلون) أي: يفوضون إليه أمورهم، ويثقون به ولا يرجون غيره، ولا يخافون سواه.

(أولئك هم المؤمنون حقا) يعني: يقينا. قال ابن عباس: برئوا من الكفر. قال مقاتل: حقاً لا شك في إيمانهم.

     وفيه دليل: على أنه ليس لكلّ أحدٍ أنْ يصفَ نفسه بكونه مؤمناً حقاً، لأنّ الله -تعالى- إنما وصف بذلك قوماً مخصوصين، على أوصاف مخصوصة، وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه.

     وقال ابن أبي نجيح: سأل رجلٌ الحسن فقال: أمؤمنٌ أنت؟ فقال: إنْ كنتَ تسألني عن الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والجنة والنار، والبعث والحساب، فأنا بها مؤمنٌ، وإنْ كنت تسألني عن قوله (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) الآية، فلا أدري أمنهم أنا، أم لا؟ (البغوي).

خشوع القلب

3- وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَل مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْل فَطَال عَلَيْهِمُ الأْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} الحديد: 16.

     يقول تعالى: أما آن للمؤمنين أنْ تخشع قلوبهم لذكر اللّه، أي: تلين عند الذكر والموعظة، وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له، وتسمع له وتطيعه، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «ما كان بين إسلامنا، وبين أن عاتبنا اللّه بهذه الآية: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه) الآية، إلا أربع سنين» رواه مسلم والنسائي.

     وقوله تعالى: {ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبل فطالَ عليهم الأمدُ فقست قلوبهم} نَهَى اللّهُ -تعالى- المؤمنين، أنْ يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم، من اليهود والنصارى لما تطاول عليهم الأمد، بدَّلوا كتاب اللّه الذي بأيديهم! واشتروا به ثمناً قليلاً ونبذوه وراء ظهورهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه؛ فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعدٍ ولا وعيد. وقوله (وكثير منهم فاسقون) أي: في الأعمال، فقلوبهم فاسدة، وأعمالهم باطلة، كما قال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية يُحرفون الكلم عن مواضعه} أي: فسدت قلوبهم فقست، وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، وتركوا الأعمال التي أُمروا بها، وارتكبوا ماُ نهوا عنه؛ ولهذا نهى اللّه المؤمنين أنْ يتشبهوا بهم في شيءٍ من الأمور الأصلية والفرعية. (ابن كثير).

 الذين أنعم الله عليهم

4- قوله تعالـى: {أُولَـَئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّيْنَ مِن ذُرّيّةِ ادَمَ وَمِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ ‏نُوحٍ وَمِن ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ وإِسْرَائِيلَ وَمِمّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمَـَنِ خَرّواْ سُجّداً وَبُكِيّاً} مريم: 58‏.

     ‏يقول تعالـى ذكره لنبـيه - صلى الله عليه وسلم -: هؤلاء الذين اقتصصتُ علـيك أنبـاءهم فـي هذه ‏السورة، الذين أنعم الله علـيهم بتوفـيقه، فهداهم لطريق الرشد، من الأنبـياء من ذريه آدم، ومن ‏ذرية من حملنا مع نوح فـي الفُلك، ومن ذرية إبراهيـم خـلـيـل الرحمن، ومن ذرية إسرائيـل، ومـمن ‏هدينا للإيـمان بـالله، والعمل بطاعته (واجتبـينا) أي: ومـمن اصطفـينا، واخترنا لرسالتنا ووحينا.

‏     وقوله تعالـى ذكره: (إذَا تُتلـى عَلَـيهِمْ آياتُ الرّحمنِ) يقول: إذا تتلـى علـى هؤلاء الذين أنعم الله ‏علـيهم من النبـيـين أدلة الله، وحُججه التـي أنزلها علـيهم فـي كتبه، خرّوا لله سُجداً، استكانةً له، وتذللاً ‏وخضوعا لأمره وانقـياداً، (وَبُكِيّا) يقول: خرّوا سُجّدا وهم بـاكون، والبُكِيّ: جمع بـاك. وقد يجوز أنْ يكون البكيّ، هو البكاء بعينه. وعن إبراهيـم: قرأ ‏عمر بن الـخطاب سورة مريـم فسجد، وقال: هذا السجود، فأين البكيّ؟ يريد: فأين البكاء.‏ (الطبري مختصرا).

     فَأَمَّا الْوَجل: فهو الخوفُ والخَشْيةُ مِنَ اللَّهِ تعالَى لِمَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنَ الرَّهْبةِ عندَ ذِكْرِ عَظَمَتِهِ وجَلاَلِهِ وَنَظَرِهِ إِلَى الْقُلُوبِ وَالأْعْمَال، وَذِكْرِ أَمْرِ الآْخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ، فَيَقْشَعِرُّ الْجَلْدُ بِسَبَبِ الْخَوْفِ الآْخِذِ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ، وَخَاصَّةً عِنْدَ تَذَكُّرِهِمْ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالتَّفْرِيطِ فِي جَنْبِ اللَّهِ.

     وَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فَهِيَ مَا يَحْصُل مِنْ لِينِ الْقَلْبِ وَرِقَّتِهِ وَسُكُونِهِ، وَذَلِكَ إِذَا سَمِعُوا مَا أُعِدَّ لِلْمُتَّقِينَ مِنْ جَزِيل الثَّوَابِ، وَذَكَرُوا رَحْمَتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَصِدْقَ وَعْدِهِ لِمَنْ فَعَل الطَّاعَاتِ وَاسْتَقَامَ عَلَى شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ يَصْحَبُ الْخَشْيَةَ الْبُكَاءُ وَفَيْضُ الدَّمْعِ «انتهى. «الموسوعة الفقهية «(21/253-354):

تنبيهان:

- الأول: أما ما يُحدثه أهل البدعة من الصياح والصراخ، والشهيق والاضطراب الشديد، عند سماع القرآن، وذكر الله، فمن عمل الشيطان، ومما زيّنه لأهل البدع، كما سبق في كلام ابن كثير رحمه الله.

- الثاني: إذا لم تحدث هذه القشعريرة عند تلاوة القرآن أو سماعه، فلا يعني ذلك بالضرورة أن التالي أو السامع ليس ممن يخشى الله، إذا كان مستحضرا معاني القرآن، ولكن يكون حاله من الخشية أقل من حال المقشعر الوجل، الذي ينفعل قلبه وجلده وعينه للذكر، كما أن البكاء من خشية الله ليس شرطا في حصول الخشية، إلا أن حال الباكي أكمل.

     فالذي ذكره الله من ذلك هو حال الكمال في الخشية، ولا يعني نقص القشعريرة، أو انتفاءها، أن الخشية منتفية بالكلية؛ بل قد يكون ذلك لنقصان حاله من الكمال والخشية، وقد يكون ذلك في وقت دون آخر.

     قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «مَا يحصل عِنْد الذّكر الْمَشْرُوع من الْبكاء، ووجل الْقلب، واقشعرار الجسوم: فَمن أفضل الأَحْوَال الَّتِي نطق بهَا الْكتاب... وَأما السّكُون، قسوةً وجفاء: فهذَا مذْمُوم «انتهى من «مختصر الفتاوى المصرية» (ص/100).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك