رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 1 يوليو، 2020 0 تعليق

الصدقات عن الأموات

 

أُثير هذا السؤال وتداوله الناس، وهو: ما حكم التعاون بين الأهل والأقارب وغيرهم، على إقامة مشروع وقفي لميت، أو صدقة عنه، ونشر ذلك في وسائل التواصل لمن أراد المساهمة فيه؟ ونجيب عن ذلك من خلال هذا المقال.

- أولا: انتفاع الميت بما يُوهب له منْ ثواب الصَّدقات من الأحياء، دلّت الأدلة الكثيرة على مشروعيته، ووصوله للأموات، وكذلك الدُّعاء لهم، بالمغفرة والرحمة وغيره، وهو أفضل وأعظم، ومما يَستدل به على جواز الصّدقة عن الميت:

حديث عائشة -رضي الله عنها

     حديث عائشة -رضي الله عنها-: «أنّ رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أمي افْتُلِتَتْ نفْسُها، وأظنُّها لو تكلمت تصدَّقت، فهل لها أجرٌ إنْ تصدَّقت عنها؟ قال: «نَعَمْ» رواه البخاري (1388)، ومسلم (1004)، قال النووي -رحمه الله-: «وفي هذا الحديث: أنّ الصَّدقة عن الميت، تَنْفع الميت، ويَصِله ثوابها, وهو كذلك بإجماع العلماء, وكذا أجْمعوا على وصول الدعاء، وقضاء الدين، بالنصوص الواردة في الجميع». انتهى من (شرح مسلم للنووي).

حديث ابن عباس -رضي الله عنهما

حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: «أن سعد بن عبادة توفِّيت أمُه وهو غائبٌ عنها، فقال: يا رسول الله، إنَّ أمي توفِّيت وأنا غائبٌ عنها، أينفعُها شيءٌ إنْ تصدَّقتُ به عنها؟ قال - صلى الله عليه وسلم-: «نعم»، قال: فإني أُشْهِدُك أنَّ حَائطي المِخْراف، صدقةٌ عليها». رواه البخاري (2756) و(2762).

حديث أبي هريرة  رضي الله عنه 

     وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- قال: «إنَّ مما يَلْحقُ المؤمنَ من عمله، وحَسَناته بعد موته، عِلماً علَّمَه ونشره، أو ولداً صَالحاً تَركه، أو مُصْحفاً ورَّثه، أو مَسْجداً بناه، أو بيتاً بناه لابن السبيل، أو نَهْراً أجْراه، أو صَدقةً أخْرجها مِنْ ماله في صحته وحياته، تلحقه من بعد موته». رواه ابن ماجة في سننه بإسناد حسن.

حديث سعد بن عبادة - رضي الله عنه

     وعن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء». رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن، ففي هذا الحديث: أنَّ من أفضل ما تتصدق به عن الميت، هو توفير الماء، بحفر بئر، أو ما أشبه ذلك، في الأماكن الفقيرة والعطشى، التي يحتاج أهلها فيها إلى الماء.

الأدلة العامّة

     ومن الأدلة العامة قول الله -سبحانه-: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} التوبة: 71، قال الطبري: «وأَمَّا المُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَات, وهُمْ المُصَدِّقُونَ بِاَللَّهِ ورَسُوله وآيَات كِتَابه, فإِنَّ صِفَتهمْ أَنَّ بَعْضهمْ أَنْصَار بَعْض وَأَعْوَانهمْ»، وقال القرطبي: «أي قلوبهم متحدة في التوادّ والتَّحاب والتَّعاطف»، وقال ابن كثير: «أي يتناصرون ويتعاضدون».

وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى

      وقول الله -سبحانه-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} المائدة:2، فالتعاون في الإسلام: أنْ يُعينَ بعضُ المسلمين بعضًا على الخَير والبر، قولاً وفعلاً، قال الشيخ عبدالرحمن السعدي: «الإعانة هي: الإتيان بكلّ خَصلة من خصال الخير المأمور بفعلها، والامتناع عن كل خَصلة من خصال الشر المأمور بتركها، فإنّ العبد مأمور بفعلها بنفسه، وبمعاونة غيرِه من إخوانه المؤمنين عليها، بكل قول يبعث عليها، وينشط لها، وبكل فعل كذلك وكل معصية وظلم يجب على العبد كفُّ نفسه عنه، ثم إعانة غيره على تركه». (تيسير الكريم الرحمن).

مَنْ اسْتطاعَ أنْ ينفعَ أخاه فليفعَلْ

     وعن جابر - رضي الله عنه -: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ اسْتطاعَ أنْ ينفعَ أخاه فليفعَلْ». رواه مسلم، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثلُ المؤمنين في تَوادّهم، وتَراحمهم وتَعاطفهم، كمثل الجسدِ الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر». متفق عليه، وغيرها من الأدلة الكثيرة.

محلُّ اتفاقٍ بين العلماء

وهذا الأمر محلّ اتفاقٍ بين العلماء، وقد نقلَ هذا الاتفاق غيرُ واحدٍ من العلماء، كابن المبارك، والنووي، وابن عبد البر، وابن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم، وهم أئمة الإسلام، وإليهم المَرجع في نقل الإجماع والاختلاف، وهذه بعض نُصوصهم في المسألة:

مِنْ البِّر أنْ تُصلي لأبويك

     روى مسلم في مقدمة صحيحه (1/29): عن ابن المبارك -رحمه الله- تضعيفه لحديث: «إنّ مِنْ البِّر بعد البر، أنْ تُصلي لأبويك مع صلاتك.. «ثم قال: ولكن ليس في الصّدقة اختلاف، قال شارحه النووي -رحمه الله-: مَنْ أراد برّ والديه، فليتصدَّق عنهما، فإنّ الصدقة تصلُ إلى الميت، وينتفع بها، بلا خلاف بين المسلمين، وهذا هو الصواب. انتهى.

وقال الموفّق ابن قدامة في المغني: «فصل: وأيّ قربةٍ فعلها، وجعل ثوابها للميت المسلم، نفعه ذلك إن شاء الله، أما الدعاء والاستغفار والصدقة، وأداء الواجبات فلا أعلم فيه خلافاً إذا كانت الواجبات مما يدخله النيابة». انتهى من (المغني) (2/226).

الصدقةُ تَصلُ إلى الميت

     وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «الأئمةُ اتَّفقوا على أنّ الصدقةَ تَصلُ إلى الميت، وكذلك العبادات المالية كالعتق». انتهى. وقال أيضاً: «الصَّدقة عن الموتى ونحوها، تصلُ إليهم باتفاق المسلمين». (جامع المسائل) (4/270)، فلا يُشْترط لصحة الصدقة عن الميت، أنْ تكون منْ أقارب الميت، أو من أبنائه، بل تصحُّ الصدقة من البعيد، كما تصحّ من القريب.

فتوى اللجنة الدائمة

وقد وُجِّه هذا السؤال للجنة الدائمة الفتوى، بالمملكة العربية السعودية، وهو:

     توفي لدينا شاب من أهل الخير والصلاح، ومن طلبة العلم، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، هذا ما نحسبه عليه ولا نزكي على الله أحدا، ولم يتزوج بعد، وكان يعمل مدرسا -عليه رحمة الله-، فقرّر أحد زملائه جمع مبلغ من المال من المسلمين، لعمل مشروع خيري باسمه، ويقول لمن تبرع بالمال: انْوِ بهذا العمل أنه عن فلان، أي: اجعلوا نيته عن فلان، وبعد جمع المال سيبني به المتبرع مسجدا في دولة الصومال باسم هذا المتوفى، ليكون صدقة جارية له، وقد عارضه بعض المسلمين على هذا العمل، بحجة الخوف من الوقوع في الشرك لبعض المسلمين هناك، لغلوهم فيه، واعتقادهم فيه اعتقادات باطلة، لماذا بُني له مسجد ونحو ذلك، فهل يجوز جمع الأموال باسم الميت، وجعل النية له،ويتصدّق أو يعمل بها مشروع خيري أم لا؟

فكان الجواب: التبرع بالمال مِنْ أقرباء الميت وأصحابه، من غيرِ الزكاة، لجعله صدقة جارية للميت، من القُرْبات المشروعة، والأولى ألا يُكتب على المسجد اسم من بني له المسجد، حذراً من الغلو فيه». انتهى. اللجنة الدائمة الفتوى رقم (16399).

فتوى الشيخ ابن باز -رحمه الله

ووجه هذا السؤال للشيخ العلامة ابن باز -رحمه الله-: يسأل سؤالاً آخر ويقول: أنا تصدّقت عن والدي، فهل يصيبني الأجر نفسه، حيث إنّ والدي متوفى، وأرجو بيان الأوجه التي يمكن الإنفاق فيها عن الميت، وهل الدعاء أفضل من هذا كله؟

     فكان الجواب: «الصدقة عن الميت مشروعة ومفيدة، ونافعة للميت، وقد ثبت في الصحيحين: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن ذلك، قال له رجل: «يا رسول الله، إنَّ أمي ماتتْ أفلها أجْر إنْ تصدقت عنها؟ قال: نعم فالصدقة تنفع الميت، ويرجى للمتصدق مثل الأجر الذي يحصل للميت، لأنه مُحسن متبرع، فيُرجى له مثل ما بذل، كما قال صلى الله عليه وسلم : «منْ دلَّ على خيرٍ، فله مثلُ أجر فاعله».

     قال: فالمؤمن إذا دعا إلى خيرٍ، أو فعلَ خيرًا في غيره، يرجى له مثلُ أجره، فإذا تصدَّق عن أبيه أو عن أمه، أو ما أشبه ذلك، فللمتصدق عنه أجر وللباذل أجر، وهكذا إذا حجَ عن أبيه، أو عن أمه، فله أجر ولأبيه وأمه أجر، ويرجى أنْ يكون مثلهم أو أكثر، لفعله الطيب، وصلته الرحم، وبرّه لوالديه، وهكذا أمثال ذلك فضل الله واسع.

     قال: وقاعدة الشرع في مثل هذا: أنَّ المُحْسن إلى غيره له أجرٌ عظيم، وأنّه إذا فعل معروفًا عن غيره، يُرجى له مثل الأجر الذي يحصل لمن فعل له ذلك المعروف، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». انتهى من موقع الشيخ الرسمي.

وعليه، فيصحُّ أنْ يتصدّق الشخص عن قريبه أو صاحبه الميت، أو يحفر له بئراً، أو يبني له مسجداً، وغيرها من أعمال البر والخيرات، بنية الثواب عنه، فهذا كله مما يلحق الميت أجره إن شاء الله، وهبة ثواب الصَّدقة للميت مما ينفعه - بإذن الله - وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء، كما سبق بيانه.

الإكثار من الدعاء

     وأما أفضلُ الطرائق لنفع الأموات الإكْثار منَ الدعاء لهم، كما قال الله -تعالى-: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} (الحشر:10)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْه ِ وَ سَلَّمَ-: «إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟ فَيُقَالُ:باسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ».رواه ابن ماجة بإسنادٍ صحيح (3660)، وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ، وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَال: «اسْتغفرُوا لأخِيكم، واسألوا له التَّثبيت، فإنه الآن يُسْأل». رواه أبو داود، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صَليتُم على المَيّت، فأخْلصوا له الدعاء».أخرجه أبو داود (3199)، وابن ماجه (1497)، وقال الله -تعالى- عن الوالدين: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} الإسراء: 24، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ، انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ، إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». رواه مسلم.

تنبيه أخير

     ولابد من التنبيه أخيرًا إلى أنَّ السّعي في هذه الأعمال المشروعة ليس هو لأجل التباهي، ولا التفاخر، ولا من أجل تخليد الذكرى للأشخاص الذين جُعلت لهم هذه الصدقات والمشاريع، إنما هو لأجل وُصول الثواب والأجر لهم، ولمن تبرع لهم من المسلمين والمسلمات، فإنّ الله -تعالى- لا يَقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له، وموافقاً لشرعه، وكل عملٍ لا يُقصد به وجه الله، فلا خير فيه، قال الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} الكهف: 110.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك