رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 29 ديسمبر، 2015 0 تعليق

الرِّبَا… تَحريمه وصُوره المُعاصرة

هذا بحث مختصر في حرمة الربا، وصوره القديمة والمعاصرة، والفرق بينه وبين البيع ، وآثاره الاقتصادية وأضراره على المجتمعات والدول.

ولا شك أن الربا آفة من الآفات، إذا أصابت الاقتصاد فإنها تنتشر فيه كانتشار السرطان في جسم الإنسان ، وكما يعجز الأطباء عن علاج السرطان أحيانا؛ فإن رجال الاقتصاد والمفكرين والساسة، عجزوا عن علاج بلايا الربا وتدميره للدول .

والربا من المحرمات في الشريعة الإسلامية، التي أجمع المسلمون على تحريمها، بل الربا محرم في جميع الأديان السماوية، وجاء تحريمه في الإسلام بأدلة قاطعة من القرآن والسنة والإجماع ، وإنْ اختلف الفقهاء في بعض فروعه.

ولقد جاء التحذير والترهيب من الربا في كتاب الله -عز وجل- وسُنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع ومناسبة، بل لا تكاد تقف على معصية وكبيرة من الكبائر في كتاب الله كالربا؛ فهي الحرب المعلنة ، من الله ورسوله على صاحبها، -عياذاً بالله تعالى- من ذلك .

والنصوص في تحريم هذه المُوبقة الخبيثة، كثيرة جداً ومشهورة :

فأما ما ورد في القرآن الكريم:

1- فقد قال الله -تعالى-: {الّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}(البقرة: 275-276).

فيقول تعالى: {الذين يأكلون الربا}، أي يتعاملون به ، وإنما خصَّ الأكل؛ لأنه معظم المقصود من المال {لا يقومون}، يعني يوم القيامة من قبورهم {إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان}. أي: يصرعه الشيطان، وأصل الخبط: الضرب والوطء، وهو ضربٌ على غير استواء، يقال: ناقةٌ خبوط، للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائمها {من المسّ} أي: الجنون، ومس الشيطان، يقال: مُسّ الرجل فهو ممسوس، إذا كان مجنونا. (تفسير البغوي).

ومنه قول الله -عز وجل-: {إنَّ الذين اتقوا إذا مَسّهم طَائفٌ من الشيطان تذكروا} (الأعراف : 201).

ومعنى الآية: أنْ آكل الربا يُبعث يوم القيامة ، وهو كمثل المصروع المجنون.  وعن سعيد بن جبير قال: يُبعث آكلُ الربا يوم القيامة، مجنوناً يُخنق .   أي: هذه علامة آكل الربا يوم القيامة في ساحات المحشر . وقوله تعالى: {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا}. أي: لا فرقَ، إنْ زِدْنا الثمن أولَ البيع، أو عند حلول الأجل! فكذبهم الله تعالى!

     وذلك الذي نزل بهم، لقولهم هذا، وهو استحلالهم الربا، وذلك أنّ أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حلّ ماله على غريمه، فطالبه به، فيقول الغريم - المدين - لصاحب الحق: زدْني في الأجل، حتى أزيدك في المال ، فيفعلان ذلك، ويقولون: سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح، أو عند المحل لأجل التأخير!

قال تعالى: {وأحلّ اللهُ البيعَ وحرّم الربا} تكذيبٌ من الله -تعالى- لهم،  يعني جل ثناؤه: قد أحل الأرباح في التجارة والشراء والبيع, وحرم الربا، يعني الزيادة التي يزيدها ربُّ المال بسبب زيادته غريمه في الأجل, وتأخيره دينه عليه، يقول -عز وجل-: وليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع, والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل، سواء!

وقوله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه} تذكيرٌ وتخويف، وهو التذكير والتخويف الذي ذكّرهم وخوفهم به في آيات القرآن, وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب (فانتهى) عن أكل الربا وتاب منه, وارتدع عن العمل به وانزجر. (فله ما سلف) أي: ما مضى من ذنبه، وما أكلَ وأخذ قبل النهي. مغفورٌ له.  وقيل: (فله ما سلف) ما كسب من المال فلا يجب ردّه، قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربّه في ذلك، أي: قبل العلم والتوبة .

(وأمرُه إلى الله) أمره بعد النهي إلى الله -تعالى- إنْ شاءَ عصمه حيث يثبت على الانتهاء ، وإنْ شاء خذله، فيعود لأكل الربا (ومن عاد) بعد التحريم إلى أكل الربا، مستحلاً له {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.

وأما من أكل الربا وهو غير مستحلٍّ له، فلا يُخلد في النار إذا كان مسلماً مؤمنا، كما هي القاعدة في الذنوب والكبائر عند أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج والمعتزلة.

 2- وقال تعالى في تمام الآيات السابقة: {يَمْحقُ الله الرَّبا ويربي الصّدقات والله لا يُحب كل كفارٍ أثيم}(البقرة : 276).

فيخبر الله -تعالى- أنه يَمحق الربا، أي: يذهبه، إما بأنْ يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يَحرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يُعذبه به في الدنيا ، ويعاقبه عليه يوم القيامة، كما قال تعالى : {قل لا يَستوي الخَبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث }(المائدة : 100).

وقال تعالى: {ويجعل الخبيثَ بعضَه على بعض فيَرْكُمَه جميعاً فيجعلَه في جهنم}(الأنفال : 37). وقال : {وما آتيتم مِنْ ربا ليَربُو في أموالِ الناسِ فلا يَربُو عند الله}(الروم : 39). (من تفسير ابن كثير ) .  وقال ابن جرير : في قوله : {يَمحق الله الربا} وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الربا وإنْ كَثُر ، فإلى قُلٍّ».

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد  في بلفظ : «إنَّ الربا وإنْ كثر، فإن عاقبته تصير إلى قُل».

وقد رواه ابن ماجة: عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما أحدٌ أكثرَ من الربا، إلا كان عاقبةُ أمرِه إلى قِلَّة». وصححه الألباني .

وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود ، والجزاء من جنس العمل .

     وقوله: «ويربي الصدقات» قرئ بضم الياء والتخفيف ، من : ربا الشيء يربو، وأرباه يربيه، أي: كثَّره ونماه ينميه. وقرئ: «ويُربِّي» بالضم والتشديد، من التربية، كما روى البخاري : عن  أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ تصدّق بعدل تمرةٍ من كسبٍ طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب ، وإنّ الله ليقبلها بيمينه، ثم يُرَبِّيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه ، حتى يكون مثل الجبل».

     وقوله: {والله لا يُحب كل كفار أثيم}، أي: لا يحب كفور القلب ، أثيم القول والفعل، ولابد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قَسَم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح؛ فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة؛ فهو جحود؛ لما عليه من النِّعمة، ظلومٌ آثمٌ بأكل أموال الناس بالباطل .

      ثم قال -تعالى-مادحاً للمؤمنين بربهم، المطيعين أمره، المؤدّين شكره، المحسنين إلى خَلْقه في إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، مخبراً عما أعد لهم من الكرامة ، وأنهم يوم القيامة من التبعات والعقوبات آمنون ،  فقال: {إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ وأقاموا الصلاةَ وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }(البقرة : 277).

 3- ثم قال تعالى في تمام الآيات السابقة أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}(البقرة 278-279).

     قال الإمام أبو جعفر الطبري: «وذُكر أنّ هذه الآية نـزلت في قومٍ أسلموا، ولهم على قوم أموالٌ من رباً كانوا أرْبوه عليهم، فكانوا قد قبضوا بعضَه منهم، وبقي بعضٌ، فعفا الله -جل ثناؤه- لهم عما كانوا قد قبضوه، قبل نـزول هذه الآية، وحرّم عليهم اقتضاءَ ما بقي منه».

وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار، قال ابن جريج قال ابن عباس: (فأذْنوا بحربٍ ) أي: استيقنوا بحرب من الله ورسوله .

وروى بعد ذلك : عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا : خُذْ سلاحك للحرب! وقرأ : {لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ}، قال: ذلك حين يبعث من قبره .

وروى: عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : {فإنْ لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله}، فمن كان مقيماً على الربا لا ينزع عنه، فحقٌ على إمام المسلمين أنْ يَستتيبه، فإنْ نزع وإلا ضَرب عنقه .

3- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(آل عمران :130).

هذا النهي عن أكل الربا أضعافا مضاعفة، وهو كما قال مجاهد : كانوا يبيعون البيع إلى أجل، فإذا حلّ الأجل زادوا في الثمن على أنْ يؤخروا .

وقرئ «مضعفة» ومعناه: الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدَّين، فكان الطالب يقول: أتقضي أم تربي؟ كما تقدم في (البقرة).

وقوله (مضاعفة) إشارة إلى تكرار التضعيف عاماً بعد عام، كما كانوا يصنعون; فدلت هذه العبارة المؤكدة على شناعة فعلهم وقبحه؛ لذلك ذكرت حالة التضعيف خاصة .

      وقوله تعالى: (واتقوا الله ) أي : في أموال الربا فلا تأكلوها، ثم خوّفهم فقال: {واتقوا النار التي أُعدَّت للكافرين}. قال كثير من المفسرين: وهذا الوعيد لمن استحلّ الربا ، ومن استحل الربا فإنه يكفر، وقيل: معناه اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان، فتستوجبون النار; لأنَّ من الذنوب ما يستوجب به صاحبه نزع الإيمان، ويخاف عليه منه، من ذلك عقوق الوالدين .

وفي هذه الآية: دليل على أنَّ النار مخلوقة ، ردّاً على الجهمية ; لأن المعدوم لا يكون مُعداً كما هو معلوم .

ثم قال : (وأطيعوا الله) يعني : أطيعوا الله في الفرائض (والرسول) في السنن، وقيل: أطيعوا الله في تحريم الربا، والرسول فيما بلغكم من التحريم. (لعلكم ترحمون). أي: كي يرحمكم الله سبحانه .

 4- ومن الآيات في حُرمة الربا: قول الله -سبحانه وتعالى- في شأن اليهود؛ حينما نهاهم عن الربا، وحرَّمه عليهم، فسلكوا طريق الحيل لإبطال ما أمرهم به، واستباحة المحرّم، فقال سبحانه في ذلك: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}(النساء: 161).

      فقوله: «وأخذهم الربا وقد نهوا عنه» أي: في التوراة «وأكلهم أموال الناس بالباطل» من الرشا في الحُكم ، والمآكل التي يصيبونها من عوامّهم؛ فبسبب ذلك عاقبناهم بأنْ حرَّمنا عليهم طيبات كانت حلالا لهم، فكانوا كلما ارتكبوا كبيرة، حرَّم عليهم شيئاً من الطيبات التي كانت حلالا لهم، قال الله تعالى: {ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون}(الأنعام : 146).

{وأعْتدنا للكافرين منهم عذاباً أليما}. أي : ينتظرهم في الآخرة .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك