رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 4 يناير، 2016 0 تعليق

الرِّبَا… تَحريمه وصُوره المُعاصرة (2)

ذكرنا في الحلقة السابقة حرمة الربا والإجماع على ذلك، والأدلة من القرآن الكريم. وها هي ذي الأدلة من الأحاديث النبوية:

وأما ما جاء في السُّنة المشرفة:

1- فعن أبي هريرة رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «اجْتَنبوا السّبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشركُ باللهِ، والسِّحرُ، وقتلُ النفسِ التي حَرّم الله إلا بالحق، وأكلُ الرّبا، وأكلُ مالِ اليتيم، والتولّي يومَ الزَّحف، وقَذفُ المُحْصناتِ المؤمنات الغافلات». أخرجه البخاري.

     قوله «اجْتَنبوا» ﺍلاﺟﺘﻨﺎﺏ: ﻫﻮ ﺍلاﺑﺘﻌﺎﺩ ﻭﻋﺪﻡ ﺍﻟﻤﻘﺎﺭﺑﺔ.  وﺍﻟﻤﻮﺑﻘﺎﺕ: ﻗﺎﻝ الإﻣﺎﻡ ﺍﻟﻨﻮﻭﻱ وغيره: ﻫﻲ ﺍﻟﻤﻬﻠﻜﺎﺕ.  وأعظمها: الشرك بالله -تعالى- وهو المهلك الذي ليس معه رجاء، إذا مات عليه الإنسان فله النار، خالداً مخلداً فيها أبد الآباد، قال تعالى:  {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}  (المائدة: 72). فلذا بدأ به.

ثم ذكر من الموبقات المهلكات: أكل الرّبا، بعد الشرك والسحر وقتل النفس وكفى بذلك تنفيراً وتحذيراً، وبياناً لخطره وفحشه.

2- وعن جابر رضي الله عنه قال: «لَعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم آكلَ الربا ومُوكله، وكاتبه وشاهديه». رواه مسلم.

وزاد أحمد وأصحاب السنن الأربعة: وقال: «هم سَواءٌ».

     فلعْنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، يعني: الطرد من رحمة الله.  وإنما لعنَ الرسول صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله؛ لأنه طريقٌ ووسيلة للظلم، والإثراء غير المباح؛ لأنه استغلال لضرورة الإنسان وحاجته، وفيه مخالفة صريحة لقوله صلى الله عليه وسلم : «المسلمُ أخُو المسلم، لا يَظلمه ولا يُسلمه، ومَنْ كان في حاجة أخيه، كان اللهُ في حاجته، ومن فرَّج عن مسلمٍ كُربة، فرَّج اللهُ عنه كُربة مِن كُرَب يَوْم القيامة». رواه مسلم.

وآكل الربا، أي: آخذه وإنْ لم يأكل به، وإنما خصّ بالأكل؛ لأنه أعظم أنواع الانتفاع، كما قال تعالى: {إنَّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما}.

     (ومؤكله): بهمز أو بواو، أي: مُعطيه لمن يأخذه. قال الخطابي: سوَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين آكل الربا وموكله؛ إذْ كلٌ لا يتوصل إلى أكله إلا بمعاونته ومشاركته إياه، فهما شريكان في الإثم، كما كانا شريكين في الفعل، وإنْ كان أحدهما مغتبطا بفعله لم يستفضله من البيع، والآخر منهضماً لما يلحقه من النقص، ولله -عز وجل- حدودٌ فلا تتجاوز وقت الوجود من الربح والعدم، وعند العسر واليسر، والضرورة لا تلحقه بوجه في أنْ يوكله الربا؛ لأنه قد يجد السبيل إلى أن يتوصل إلى حاجة بوجه من وجوه المعاملة، والمبايعة ونحوها.

وقوله «وكاتبه وشاهديه» قال النووي: فيه تصريح بتحريم كتابة المترابيَّيْن، والشهادة عليهما، وبتحريم الإعانة على الباطل» وقال -أي: النبي صلى الله عليه وسلم : «هم سواء» أي: في أصل الإثم، وإنْ كانوا مختلفين في قدره.

 3- وعن سَمُرَةَ بْن جُنْدُبٍ رضي الله عنه  قال: كَان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  إِذا صَلَّى صلاةً، أَقْبَلَ علينا بِوَجْهه فقال: «مَنْ رَأَى منكُم اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟» قال: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّها، فيقُولُ ما شاءَ اللَّهُ، فسأَلَنَا يوما فقال: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟» قُلْنَا: لا، قال: «لَكِنِّي  رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، ... وفيه: قال: فَانْطَلَقْنَا حتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فيه رَجُلٌ قَائِمٌ علَى شَاطِئِ النَّهَرِ، ورجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذي فِي النَّهَرِ فَأَرادَ أَنْ يَخْرُجَ؛ فَرَمَى الرَّجُلَ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ، فَرَدَّهُ حيثُ كَان، فَجَعَلَ كُلَّما أَرادَ أَنْ يَخْرُجَ؛ رَمَى فِي فِيه بِحَجَر،ٍ فَيَرْجِعُ كما كَان، فَقُلْتُ: مَا هذا؟ قالا: انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا... قال: والَّذِي رأَيْتَهُ في النَّهَرِ: آكِلُوا الرِّبَا..». رواهُ الْبُخَارِيُّ في الصَّحِيحِ.

فهذه الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقصَّها على أصحابه -رضي الله عنهم- فيها موعظة بليغة، وتذكرة جليلة، ورؤيا الأنبياء وحيٌ كما هو معلوم؛ إذْ الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، كما صحّ في الحديث عند البخاري.

فهذا الرجل يسبح في نهرٍ من الدم الخبيث، ويريد الخروج والخلاص من هذا النهر الدموي، لكنه كلما أراد الخروج، تلقاه ذلك الرجل فيرميه بحجر في فمه فيرجع إلى سباحته فيه.

فالنهر الخبيث إشارة إلى المكسب الخبيث - الربا - الذي كان يتعاطاه في الدنيا.

وأيضاً: إنما أُلقم آكل الربا في عذابه بالبرزخ حَجراً، والحجر لا فائدة فيه لبدنه؛ بل هو مما يضره ويؤذيه، كما كان في الدنيا يزيد ماله بشيءٍ أخبر الله -تعالى- أنه لا بركة فيه، بل مما يضره ويؤذيه؛ فالجزاء من جنس العمل.

فهذه بعض الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، الدالة على حُرمة الربا، وأنه من الكبائر الشنيعة، فلا بد من أنْ نُعرف الربا لغة واصطلاحا:

أ- تعريف الربا في اللغة:

أصل الربا في اللغة: هو الزيادة، يقال: ربا الشيء يربو، إذا زاد، وهو إما في الشيء نفسه، كقول الله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (الحج: 5).

وقال تعالى: {َنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (النحل: 92). أي: أكثر عدداً يقال: أربى فلان على فلان، إذا زاد عليه.

وإما في مقابلة، كدرهم بدرهمين.

وإنما قيل للمرابي ذلك، لزيادته المال الذي له على غريمه؛ بسبب الأجل الذي يُؤخره إليه.

انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (11/8) وفتح الباري لابن حجر (4/313).

 ب: تعريف الربا شرعاً:

أما الربا في الشرع: فهو الزيادة في أشياءَ مخصوصة، والزيادة على الدَّيْن مُقَابل الأجل مطلقاً. وقيل: هو الزيادة في بيع شيئين يجري فيهما الربا. وهو يطلق على شيئين: يطلق على ربا الفضل، وربا النسيئة.

 أنواع الربا:

هو أنواع كثيرة، وأشهرها: ربا الفَضْل، ربا النَّسيئة، وقد أجمعت الأمة على تحريمهما.

 أولاً: ربا الفضل:

هو الزيادة في أحد البدلين الربويين المتفقين جنساً.

مثاله: أنْ يشتري شخص من آخر ألف صاع من القمح، بألفٍ ومائتي صاعٍ من القمح، ويتقابض المتعاقدان العوضين في مجلس العقد.

فهذه الزيادة - وهي مائتا صاع من القمح - لا مقابل لها، وإنما هي فضل.

 حكمه: حرَّمت الشريعة الإسلامية ربا الفضل في ستة أشياء: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح.

     فإذا بيع واحدٌ من هذه الأشياء الستة بجنسه، حَرُمت الزيادة والتفاضل بينهما؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرُّ بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء».

     وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمرٍ جَنيب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أكُلُّ تمرِ خيبر هكذا؟» فقال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا، بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تفعلْ، بِع الجَمعَ بالدَّراهم، ثم ابتع بالدراهم جَنِيباً».

 فالرجل الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم أميرا على خبير، فجاء بتمر جَنِيب، وهو نوع من أعلى التمر، وقيل: الذي خرج منه حشفه، وقيل: الذي لا يخلط بغيره.

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أكل تمر خيبر هكذا؟» فقال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا - أي الجنيب  - بالصاعين - أي من الجمع، والصاعين - من الجنيب - بالثلاثة من الجمع.

     فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تفعل بع الجَمع «وهو التمر الرديء المجموع من أنواع مختلفة» بالدراهم ثم ابتع - أي: اشتر بالدراهم تمراً جنيباً، ليكون صفقتين، فلا يدخله الربا، فليس هذا حيلة في بيع الربوي بجنسه متفاضلاً؛ لأنه حرام، بل توصل إلى تحصيل تملكه ببيع جائز.

وفي رواية فقال: «لا تفعلوا، ولكنْ مِثلاً بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا».

ويقاس على هذه الأشياء الستة، ما شاركها في العلة، فيَحرم فيه التفاضل. فَعِلَّة الربا في هذه الأشياء: الكيل والوزن، فيحرم التفاضل في كل مكيل وموزون. فيقاس على الذهب والفضة: الحديد والنحاس والرصاص ونحوها من المعادن.

ويقاس على المكيلات كل المطعومات المكيلة: كالزبيب والأرز والذرة والدخن ونحوها.

ثانياً: ربا النَّسيئة:

وهو الأشهر عند أهل الجاهلية، من الأميين والكتابيين، فمن بعدهم ممن هو على طريقهم وشاكلتهم في زمننا هذا من الجاهليين العصريين.

وذلك أنّ أهل الجاهلية كان أحدُهم إذا حلّ سداد دينه على غريمه، فطالبه به، فيقول الغريم - المَدين - له: زدْني في الأجل، وأزيدك في المال، فيفعلان ذلك، ويقولون: سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح، أو عند حلول الأجل لأجل التأخير.

وأيضا منه:  تأخير القبض في بيع كل جنسين اتفقا في علّة ربا الفضل، ليس أحدهما نقداً.

مثاله: أن يبيع شخصٌ ألف صاع من القمح، بألف ومائتي صاع من القمح لمدة سنة، فتكون الزيادة مقابل امتداد الأجل، أو يبيع كيلو شعير بكيلو بر، ولا يتقابضان.

 حكمه: التحريم، فإنّ النصوص الواردة في القرآن والسنة، المحرمة للربا والمُحذِّرة من التعامل به، يدخل فيها هذا النوع من الربا دخولاً أولياً، وهذا هو الذي كان معروفاً في الجاهلية، وهو الذي تتعامل به البنوك الربوية في هذا العصر.

     فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر الذهب والفضة: «ولا تبيعوا منها غائباً بناجز». والناجز: الحاضر.  وفي لفظٍ: «ما كان يداً بيد، فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا». ولقد كان الربا منتشراً في عصر الجاهلية انتشاراً كبيراً، وقد عدوه من الأرباح العظيمة - في زعمهم - التي تعود عليهم بالأموال الطائلة، فقد روى الإمام الطبري - رحمه الله - بسنده في تفسيره عن مجاهد أنه قال: «كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه». (جامع البيان في تفسير آي القرآن: 3/67).

وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حلّ أجل الدين، قال من هو له لمن هو عليه: أتقضي أم تُربي؟ فإذا لم يقض زاد مقداراً في المال الذي عليه، وأخّر له الأجل إلى حين، وقد كان الربا في الجاهلية في التضعيف أيضاً. 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك