رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 2 مايو، 2016 0 تعليق

الجَــــدَل في الكتاب والسُّنة (8)

يكثر في أيامنا هذه الجدل والنقاش في أمور كثيرة، والتنازع بموضوعات مختلفة، والتحاور في وسائل التواصل المتنوعة، ولابد للمسلم من التزام الحدود الإسلامية في ذلك، ومراعاة الضوابط الشرعية، والآداب المرعية؛ فالمؤمن لا يخرج في شيء من نواحي حياته عن شريعة ربه {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} الأنعام، ونستكمل الحديث عن أهم الفوائد من مناظرة ابن عباس -رضِي الله عنه- للخوارج الحرورية فنقول:

هذه المُناظَرة فيها فوائدُ كثيرةٌ جدًّا لِمَن َتَدبَّرها، في العقيدة وغيرها للعلماء وللدُّعاةَ في واقِعنا المُعاصِر، ولاسيَّما وأنَّ صاحبها حبر الأمَّة وفقيهها عبدالله بن عباس -رضِي الله عنهما- الذي دعا له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم  بالفقه في الدين، وقد جمعت بعض هذه الفوائد فيما يأتي:

- الفائدة الأولى: حرْص أهل الحقِّ والمعتقد الصحيح، على هداية مَن ضلَّ الطريق، كما حرَص ابن عباس على هداية الخوارج؛ بل وأرجع معه ألفين منهم إلى الحقِّ.

- الفائدة الثانية: مُشاوَرة أهل الحقِّ من الحكَّام الشرعيين والعُلَماء الربَّانيين، كما فعل ابن عباس مع علي -رضي الله عنهم- جميعًا قبل أن يأتي الخوارج.

- الفائدة الثالثة: جَواز مُناظَرة أهل الباطل، من المُبتَدِعة والكفَرَة؛ لبيان الحق وإقامة الحجة، بل واستِحباب أو وجوب ذلك أحيانا، إذا كان هناك مصلحة مُتَحقِّقة.

- الفائدة الرابعة: نصحُ الدُّعَاة بعضهم بعضًا في مجال الدعوة، وحرصُهم على إخوانهم، كما قال علي لابن عباس -رضِي الله عنهم-: إني أخافُهم عليك، وكان قد اشتَهَر عن الخوارج استِحلال دماء المسلمين، كما وصَفَهم رسول الله صلى الله عليه وسلم  بقوله: «يَقتُلون أهل الإسلام، ويَدَعون أهل الأوثان» متفق عليه.

وكانوا قد قتلوا عبدالله بن خباب -رحمه الله- وبقروا بطن أمِّ ولده.

- الفائدة الخامسة: توكُّل الداعِيَة على الله -عز وجل- وحسن ظنَّه بربه، في طريق الدعوة إلى الله -تعالى- فعليٌ -رضِي الله عنهم- لما قال لابن عباس: أخافُهم عليك، قال ابن عباس: كلاَّ إن شاء الله.

- الفائدة السادسة: تشكيك أهل الباطل في مُعتَقداتهم وتصوُّراتهم وهديهم، حتى يَسهُل انقيادهم للحقِّ، كما تعمَّد ابن عباس قبل مناظرة الخوارج، لبس أحسن الحُلَل وترجَّل، وهو يعلم أنهم سيَستَنكِرونه، فيبيِّن لهم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم  فعَلَه، وأنَّ القرآن أنكر على مَن حرَّمه، وبهذا تَضعُف ثقتهم بمَواقِفهم.

- الفائدة السابعة: تَرسِيخ الداعِيَة لأصول الدين، والمنهاج الحقِّ الذي يَحمِله عند ِمُخالِفه، كما قال ابن عباس للخوارج: أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم  وصهره، وعليهم نزَل القرآن، فهم أعلم بتأوِيله منكم، وليس فيكم منهم أحد.

     وهذا ربطٌ لهم بهدي الصحابة ومنهجهم؛ فالذين صَحِبُوا النبي صلى الله عليه وسلم  أَوْلَى بفَهْمِ الحقِّ ومعرفته من غيرهم، فهم الذين مدَحَهم الله في القرآن الذي تتلونه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر: 8- 9).

     فالمعنى: أن الله -تعالى- وصَف المهاجرين بالصدق، والأنصار بالفلاح، وهم مَن نزل عليهم القرآن، فهم أَوْلَى منكم بمعرفة تفسيره وأحكامه منكم، فكيف تُخالِفونهم وتُناصِبُونهم العداء وتخرجون عليهم؟ وفيهم أيضاً أمير المؤمنين علي ابن عمِّ رسول الله[، وزوج ابنته فاطمة التي هي بَضْعة منه؟! وهؤلاء جميعا ليس فيكم منهم أحد؟ ولم ينحز واحدٌ منهم إليكم، ولا فهم الذي فهمتم من القرآن.

- الفائدة الثامنة: وضع عامَّة أهل البِدَع والضَّلال نصوص الوحيَيْن في غير موضعها، كما استدلَّت الخوارج هاهنا على ترك السماع من ابن عباس؛ لأنه قرشيٌّ! والله يقول عن قريش: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}(الزخرف: 58).

فالآية نزلت في مُشرِكي قريش الذين يُخاصِمون النبي صلى الله عليه وسلم  بالباطل، وليس في المسلمين والمؤمنين، فكيف بابن عباس وهو صحابي جليل، وترجمان القرآن؟! إنَّما جاءهم ليَرُدَّهم إلى الحقِّ، ويُكلِّمهم بكتاب الله وسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم  فكيف يجعَلونه من أهل هذه الآية؟

 وفي ثنايا هذه المُناظَرة الكثير من جهل الخوارج بنصوص كتاب الله -تعالى- وتنزيلها غير موضعها، أو عدم فهمها أصلا.

- الفائدة التاسعة: عدم الاغتِرار بظاهر صَلاح الحال أو السَّمْت؛ لأنَّ الدين مَبناه على العلم والإيمان والعمل جميعا، لا بمجرد الاجتهاد والعمل على جهل، كحال الخوارج هنا، ولا بمجرد العلم دون عمل كحال كثيرٍ من الناس، فابن عباس رضي الله عنه  يقول عن الخوارج: وما أتيتُ قومًا قطُّ أشدَّ اجتِهادًا منهم، مُسهِمة وجوههم من السهر! كأنَّ أيديهم ورُكَبهم تثنى عليهم، لكنَّهم مع ذلك هم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يقرؤون القرآن لا يُجاوِز حَناجِرَهم» في الحديث المتَّفَق عليه. وكثيرٌ من المسلمين اليوم، يغترون بحماس أهل الزيغ والضلال، أو يَغتَرُّون بطاعتهم أو بأعمالهم، ويُتابعُونهم على طريقهم ومنهاجهم، فتقع الفِتَن والمِحَن، والزيغ والضلال عن طريق السلف.

- الفائدة العاشرة: حِكمة المناظر، وحُسْنُ سياسته، في إدارة المُناقَشات والمُناظَرات، سبب لظهور الحق وانتصاره على الباطل، ويَظهَر هذا جليًّا من أسئلة ابن عباس رضي الله عنه  للخوارج، فقد قال لهم أولاً: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  وابن عمِّه.

وهذا كي يضبط ابن عباس الحوار معهم فلا يَتَشعَّب، وقال لهم: هل عندكم شيء غير هذا؟

ثم قال لهم ابن عباس كذلك مُشتَرِطًا: أرأيتُكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جلَّ ثناؤه وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم  ما يردُّ قولكم، أترجعون؟ وهذا أيضًا من علم ابن عباس وحكمته، وحُسْنِ سياسته في حوارِه.

ثم كان يسألهم بعد كلِّ تفنيد شبهة: أخرجت من هذه؟! فيقولون: نعم، حتى أتى على جميع شبههم.

- الفائدة الحادية عشرة: ومما يستفاد من المناظرة أيضا: إيضاح الحق، ومناقشة العالم لشُبَه المُخالِفين، مهما رآها ضعيفة، وإن كانوا من أهل البِدَع أو الكفر، وعدم الاكتِفاء بالاستِخفاف بها وازدِراء أصحابها؛ بل الواجب مُناقَشة كلِّ مَن ضلَّ عن الحقِّ وإن تهافَتَتْ شُبهاته؛ لأن تَوضِيحها بالحكمة واللين مَظِنَّة رُجُوع أصحابها عنها، وترْك ذلك مَظِنَّة تَمَسُّك أصحابها بها.

وابن عباس لم يَتعالَ عن مُناقَشة عقولٍ الخوارج وإن كانت بهذه البَلادَة، وشبهاتهم بهذه السَّذاجَة، وهذا هو واجب الدُّعاة إلى الله في كلِّ زمان.

- الفائدة الثانية عشرة: تنوُّع أحوال أهل البِدَع، فمنهم مَن هو صادِق في مَوقِفه وإن أخطَأَ، ومنهم مَن هو مُتَّبِع لهواه، كما انقَسَم الخوارج هنا فريقَيْن؛ أحدهما: رجع إلى الحقِّ والجماعة، والآخَر أبى إلا أن يقاتل ثم يقتل على البدعة!

- الفائدة الثالثة عشرة: تذكير الداعِيَة والمناظر لِمُخالِفِيه بالله -عز وجل- حتى تلِين قلوبُهم للحقِّ ولا يُكابِروا، كما كان يقول ابن عباس للخوارج: أنشدكم بالله،... أنشدكم بالله، فكانوا يقولون: بلى، بل هذا أفضل. فالعبد يحتاج للتذكير بالله في خصوماته دومًا، ليُصَحِّح نيَّته، ويرضى بالحقِّ ويقبله.

- الفائدة الرابعة عشرة: الحاجة إلى العُلَماء الربانيِّين، وطلاب العلم النابِغين، الذين يَرُدُّون الناس إلى الحقِّ، ويَأخُذون بأيديهم إلى السنَّة، فابن عباس جعَلَه الله سببًا في هِدايَة ألفَيْن من رجال الخوارج، الله أعلم بمصيرهم إذا لم يرجعوا معه.

     من فوائد هذا الأثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. ووردت عن السلف مناظرات أخرى: فقد ناظر عمر أيضاً الخوارج على ما نقل ذلك ابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (ص431-473). وناظر عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- غيلان الدمشقي القدري حتى انقطع، وأعلن التوبة، إلا أنه عاد بعد موت عمر، روى ذلك اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/714-716). وناظرالإمام الأوزاعي -رحمه الله- قدرياً طلب المناظرة، فحجه، كما روى ذلك اللالكائي (2/718-719).

وكذا الإمام الشافعي ناظر حفص الفرد فغلبه، نقل ذلك أبو نعيم في الحلية (9/115).

ومناظرات الإمام أحمد للجهمية بمحضر الخليفة مشهورة، ذكر بعضها الإمام نفسه في كتابه (الرد على الزنادقة والجهمية) (ص41-57) وغير ذلك من مناظرات السلف لأهل البدع.

فظهر بهذه النقول من الكتاب والسنة، وأقوال السلف، في الأمر بالمجادلة والمناظرة، والثناء عليها وعلى أهلها، ومباشرة السلف لها مع بعضهم، ومع أهل البدع، مع ما تقدم عرضه أولاً من النصوص والآثار عن السلف في ذم المجادلة، والتحذير من مجادلة أهل البدع:

إن المجادلة والمناظرة تنقسم من حيث ذمها ومدحها، والأمر بها والنهي عنها في الكتاب والسنة وأقوال السلف إلى قسمين: مجادلة مذمومة منهي عنها، ومجادلة محمودة مأمور بها.

وإذا كان الأمر كذلك، فلابد من تمييز المجادلة المذمومة المنهي عنها، عن المجادلة المحمودة المأمور بها، ليكون المسلم على بينة من هذا الأمر، وعلى بصيرة في هذا الباب، فيحقق ما شرع الله له فيها، ويبتعد عن المنهي عنها.

هذا ما يسَّر الله -تعالى- جمعه والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك