رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 17 أبريل، 2016 0 تعليق

الجَــــدَل في الكتاب والسُّنة (5)

كلام السلف من الذم للجدال وأهله، والتحذير من مجادلة أهل البدع، ليس على عمومه، وإنما قصدوا المذموم منه

 الجدال لاستيضاح الحقِّ، ودفع ما يتعلّق به المُبطلون من متشابهات القرآن، وردّهم بالجدال إلى المُحْكم، من أعظم ما يتقرّب به المتقربون، وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب

 

يكثر في أيامنا هذه الجدل والنقاش في أمور كثيرة، والتنازع بموضوعات مختلفة، والتحاور في وسائل التواصل المتنوعة، ولابد للمسلم من التزام الحدود الإسلامية في ذلك، ومراعاة الضوابط الشرعية، والآداب المرعية؛ فالمؤمن لا يخرج في شيء من نواحي حياته عن شريعة ربه {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}(الأنعام: 162-163)، ونستكمل الحديث اليوم عن المناظرات المحمودة فنقول:

     فليُعلم أنَّ ما ثبت في النصوص الشرعية، وكلام السلف من الذم للجدال وأهله، والتحذير من مجادلة أهل البدع، ليس على عمومه، وإنما قصدوا المذموم منه، الذي سبق ذكر أنواعه، ولا يدخل فيه ما ورد في مدح الجدال الذي أمرت به الشريعة، والذي يُتوصَّل به للحق، والدفاع عنه، وإظهاره للخلق واضحا جلياً بالبراهين والبينات.

     ويمكن ذكرُ بعضِ الأدلّةِ الشّرعيّةِ على هذا النّوعِ مِنَ الجدلِ المحمود، الذي كان الأنبياء والعلماء والصالحون ومن بعدهم من السلف الصالح يستعملونه؛ بل جاء الأمر ببعض أنواع المجادلة، والثناء عليها وعلى أهلها، في بعض النصوص من الكتاب العزيز، والسنة النبوية، فمنها:

1- قوله تعالى آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: {ادْع إلى سبيلِ ربك بالحِكمة والمَوعظة الحَسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إنَّ ربكَ هو أعلمُ بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} (النحل: 125).

يقول تعالى آمراً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أنْ يدعو الخَلق إلى الله -تعالى- ودينه وشريعته بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادلهم بأحسن أسلوب.

قال ابن جرير: (بالحكمة) وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة (والموعظة الحسنة) أي: بما فيه من الزواجر، والوقائع بالناس ذكِّرهم بها ؛ ليحذروا بأس الله -تعالى-.

وقوله: {وجادلهم بالتي هي أحسن} أي: مَن احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن، برفقٍ ولين، وحُسن خِطاب، كما قال: {ولا تُجادلوا أهلَ الكتاب إلا بالتي هي أحسنُ إلا الذين ظلموا منهم}  (العنكبوت: 46).

فأمره -تعالى- بلين الجانب، كما أمر موسى وهارون -عليهما السلام- حين بعثهما إلى فرعون فقال: {فقولا له قولاً لينا * لعله يتذكر أو يخشى}(طه: 43-44).

وقال البغوي: «وجادلهم بالتي هي أحسن»: وخاصمهم وناظرهم بالخصومة التي هي أحسن، أي: أعرض عن أذاهم، ولا تقصر في تبليغ الرسالة، والدعاء إلى الحق.

2- وقال النووي رحمه الله: «واعلم أنّ الجدال قد يكون بحقٍّ، وقد يكون بباطلٍ، قال الله تعالى: {{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن}} العنكبوت:46، وقال تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} النحل:125، وقال تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفرو} غافر:4.

فإنْ كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره، كان محموداً، وإنْ كان في مدافعة الحق، أو كان جدالاً بغير علم كان مذموماً، وعلى هذا التفصيل تنزل النصوص الواردة في إباحته وذمه».

3- ويقول الشوكاني -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفرو} غافر:4. والمراد: الجدال بالباطل،وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق} غافر:5.

 الجدال لاستيضاح الحقِّ

     فأما الجدال لاستيضاح الحقِّ، ورفع اللبس، والبحث عن الراجح والمرجوح، وعن المُحكم والمتشابه، ودفع ما يتعلّق به المُبطلون من متشابهات القرآن، وردّهم بالجدال إلى المُحْكم، فهو من أعظم ما يتقرّب به المتقربون، وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب، فقال: {وإذْ أخذ اللهُ ميثاقَ الذين أُوتوا الكتابَ لتبيّننه للناس ولا تكتمونه} آل عمران:187.

4- وأخبر الله -تعالى- في مَعرض امتنانه على بعض أنبيائه: أنه آتاهم الحُجة على قومهم، وأيدهم بالبراهين والبينات، كما في قوله تعالى: {وتلك حُجتُنا آتيناها إبراهيمَ على قومه نرفعُ درجاتٍ من نشاء} الأنعام:83.

     قال أبو جعفر الطبري: يعني تعالى ذكره بقوله: (وتلك حُجتنا) قولَ إبراهيم لمخاصميه من قومه المشركين: (أي الفريقين أحق بالأمن؟) أمَن يعبد ربًّا واحدًا مخلصًا له الدين والعبادة؟ أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ وإجابتهم إياه بقولهم: بل من يعبد ربًّا واحدًا أحقُّ بالأمن، وقضاؤهم له على أنفسهم , فكان في ذلك قطع عذرهم، وانقطاع حجتهم، واستعلاء حُجة إبراهيم عليهم، فهي الحُجة التي آتاها الله إبراهيم على قومه. انتهى.

5- وكما أخبر الله -تعالى- عن أنواع صور مُحاجّة إبراهيم -عليه السلام- ومناظرته لقومه، على سبيل التقرير له، والثناء عليه بها، كما في قوله جل شأنه: {ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه أنْ أتاه اللهُ المُلك إذْ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويُميت قال أنا أُحيي وأميتُ قال إبراهيمُ فإنَّ اللهَ يأتي بالشَّمسِ من المشرقِ فأتِ بها منَ المغرب فبُهتَ الذي كفر} البقرة: 258.

     قوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} معناه: هل انتهى إليك يا محمد  خبر الذي حاج إبراهيم، أي: خاصم وجادل وهو نمرود، وهو أول من وضع التاج على رأسه، وتجبر في الأرض وادَّعى الربوبية؟ (أنْ آتاه الله الملك) أي: لأنْ آتاه الله الملك فطغى، أي: كانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه.

6- وقال تعالى مخبراً عن مناظرة أخرى لإبراهيم -عليه السلام- مع أبيه وقومه: {إذ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعِبِينَ * قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} الأنبياء: 52-56.

وهذا بيان لمعنى ما جرى له مع قومه من الجدال بالحق:

     قال عز وجل: {إذْ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} وهذا هو الرشد الذي أُوتيه إبراهيم -عليه السلام- مِن صِغره، وهو الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عز وجل، فقال: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} أي: معتكفون على عبادتها.

{قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين}: لم يكن لهم حُجة سوى صنيع آبائهم الضُلال؛ ولهذا قال: {لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} أي: الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم، فأنتم وهم في ضلالٍ على غير الطريق المستقيم.

فلما سفَّه أحلامهم، وضلَّل آباءهم، واحتقر آلهتهم {قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين} قالوا: هذا الكلام الصادر عنك، أتقوله لاعباً أم مُحقا فيه؟ فإنا لم نسمع به قبلك.

     {قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن} أي: ربكم الذي لا إله غيره، هو الذي خلق السموات والأرض وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن، وهو الخالق لجميع الأشياء (وأنا على ذلكم من الشاهدين) أي: وأنا أشهد أنه لا إله غيره، ولا رب سواه.

- وبعد قصة تحطيم إبراهيم -عليه السلام- لأصنامهم: حصلت مناظرة ومجادلة لقومه، قال تعالى في ذكرها: {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}(الأنبياء:62-67).

     فذكر -سبحانه- ما جرى بين إبراهيم -عليه السلام- وقومه في أمر الأصنام، بعد أن كسرها، بعد كسره حجتهم في عبادتها، فطلبوا إحضاره وسؤاله على الملأ، في قوله تعالى: {قالوا} يعني قوم إبراهيم: {فأتوا به} أي: فجيئوا به: {على أعين الناس} أي: بحيث يراه الناس، ويكون بمشهد منهم: {لعلهم يشهدون} عليه بما قاله، فيكون ذلك حُجة عليه بما فعل.

     قَالُوا له: {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} فقال لهم: (بل فعله كبيرهم هذا) وقد اختلف المفسرون في المقصود به، فمنهم من قال: هذا تعريضٌ وتورية، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. والثاني: أنه كذب كذباً غير مذموم شرعاً للمصلحة. ومنهم من قال: بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون؛ فشرط النطق في الفعل. والأول أصح، وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله، وهم كما قال إبراهيم لأبيه {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا؟} فقال إبراهيم: بل فعله كبيرهم هذا، ليقولوا: إنهم لا ينطقون ولا يفعلون، ولا ينفعون ولا يضرون! فيقول لهم: فلم تعبدونها وهي كذلك؟! فتقوم الحُجَّة عليهم منهم.

ولهذا يجوز عند العلماء فرض الباطل مع الخصم، حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه؛ فإنه أقرب في الحجة، وأقطع للشبهة، كما قال لقومه: {هذا ربي} على معنى الحجة عليهم، حتى إذا أفل عنهم تبين حدوثه، واستحالة كونه إلها.

     وقال البغوي في تفسيره: فلما أتوا به (قَالُوا) له: {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ}؟ قالَ إبراهيم: {َبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} غَضِبَ من أنْ تعبدوا معه هذه الصغار، وهو أكبر منها فكسرهن، وأراد بذلك إبراهيم إقامة الحجة عليهم؛ فذلك قوله: {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} حتى يخبروا من فعل ذلك بهم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك