رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 4 أبريل، 2016 0 تعليق

الجَــــدَل في الكتاب والسُّنة (4)

كلام السلف من الذم للجدل وأهله والتحذير من مجادلة أهل البدع ليس على عمومه

الله -تعالى- امتن على أنبيائه بأن آتاهم الحجة على أقوامهم

اعلم أن الجدال قد يكون بحق وقد يكون بباطل؛ فأما الجدال بحق فمحمود، وأما الباطل فمذموم

يكثر في أيامنا هذه الجدل والنقاش في أمور كثيرة، والتنازع بموضوعات مختلفة، والتحاور في وسائل التواصل المتنوعة، ولا بد للمسلم من التزام الحدود الإسلامية في ذلك، ومراعاة الضوابط الشرعية، والآداب المرعية؛ فالمؤمن لا يخرج في شيء من نواحي حياته عن شريعة ربه {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}(الأنعام:162-163).

، ونستكمل الحديث عن موقف السلف من هذه القضية فنقول:

 المناظرات الممدوحة

ليُعلم أن ما ثبت في النصوص الشرعية، وكلام السلف من الذم للجدال وأهله، والتحذير من مجادلة أهل البدع، ليس على عمومه، ويمكن ذكرُ بعضِ الأدلّةِ الشّرعيّةِ على هذا النّوعِ مِنَ الجدلِ المحمود، وقد كان السلف الصالح يستعملونه.

بل جاء الأمر ببعض صور المجادلة، والثناء عليها وعلى أهلها، في بعض النصوص من الكتاب العزيز، والسنة النبوية، فمنها:

1- قوله تعالى آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم : {ادْع إلى سبيلِ ربك بالحِكمة والمَوعظة الحَسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إنَّ ربكَ هو أعلمُ بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}(النحل: 125).

يقول -تعالى- آمراً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أنْ يدعو الخَلق إلى الله بالحكمة.

قال ابن جرير: وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة (والموعظة الحسنة) أي: بما فيه من الزواجر، والوقائع بالناس ذكِّرهم بها؛ ليحذروا بأس الله تعالى.

وقوله: {وجادلهم بالتي هي أحسن}. أي: مَن احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن، برفقٍ ولين، وحُسن خِطاب، كما قال: {ولا تُجادلوا أهلَ الكتاب إلا بالتي هي أحسنُ إلا الذين ظلموا منهم}(العنكبوت: 46).

فأمره -تعالى- بلين الجانب، كما أمر موسى وهارون -عليهما السلام- حين بعثهما إلى فرعون فقال: {فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى}(طه: 44).

وقال البغوي: «وجادلهم بالتي هي أحسن» وخاصمهم وناظرهم بالخصومة التي هي أحسن، أي: أعرض عن أذاهم، ولا تقصر في تبليغ الرسالة، والدعاء إلى الحق.

2- وقال النووي -رحمه الله-: «واعلم أنّ الجدال قد يكون بحقٍّ، وقد يكون بباطلٍ، قال الله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن}(العنكبوت: 46). وقال تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن}(النحل: 125)، وقال تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا}(غافر: 4).

فإنْ كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره، كان محموداً، وإنْ كان في مدافعة الحق، أو كان جدالاً بغير علم كان مذموماً، وعلى هذا التفصيل تنزل النصوص الواردة في إباحته وذمه».

3- ويقول الشوكاني -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا}(غافر: 4). والمراد: الجدال بالباطل، والقصد إلى دحض الحق كما في قوله تعالى: {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق}(غافر: 5).

     فأما الجدال لاستيضاح الحق، ورفع اللبس، والبحث عن الراجح والمرجوح، وعن المُحكم والمتشابه، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، وردهم بالجدال إلى المحكم، فهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون؛ وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب، فقال: {وإذْ أخذ اللهُ ميثاقَ الذين أُوتوا الكتابَ لتبيّننه للناس ولا تكتمونه}(آل عمران: 187).

4- وأخبر الله -تعالى- في مَعرض امتنانه على بعض أنبيائه: أنه آتاهم الحُجة على قومهم، كما في قوله تعالى: {وتلك حُجتُنا آتيناها إبراهيمَ على قومه نرفعُ درجاتٍ من نشاء}(الأنعام: 83).

     قال أبو جعفر الطبري: يعني -تعالى- ذكره بقوله: «وتلك حجتنا»، قولَ إبراهيم لمخاصميه من قومه المشركين: ( أي الفريقين أحق بالأمن؟) أم من يعبد ربًّا واحدًا مخلصًا له الدين والعبادة؟ أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ وإجابتهم إياه بقولهم: بل من يعبد ربًّا واحدًا أحق بالأمن، وقضاؤهم له على أنفسهم, فكان في ذلك قطع عذرهم، وانقطاع حجتهم، واستعلاء حُجة إبراهيم عليهم، فهي الحُجة التي آتاها الله إبراهيم على قومه. انتهى.

 5- وكما أخبر الله -تعالى- عن بعض صور مُحاجّة إبراهيم عليه السلام ومناظرته لقومه، على سبيل التقرير له، والثناء عليه بها، كما في قوله جل شأنه: {ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه أنْ أتاه اللهُ المُلك إذْ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويُميت قال أنا أُحيي وأميتُ قال إبراهيمُ فإنَّ اللهَ يأتي بالشَّمسِ من المشرقِ فأتِ بها منَ المغرب فبُهتَ الذي كفر}( البقرة: 258).

 6- وقال تعالى مخبراً عن مناظرة أخرى لإبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه: {إذ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعِبِينَ * قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}(الأنبياء: 52-56).

     إلى قوله بعد ذكر قصة تحطيم إبراهيم عليه السلام لأصنامهم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}(الأنبياء: 63-67).

  7- ومن صور الجدال في القرآن: ما أخبر الله -تعالى- به عن مُحاجة موسى عليه السلام لفرعون، ومقارعته الحُجة بالحجة، وذكر الأدلة والبراهين في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَال رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَال رَبُّ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَال لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ}(الشعراء:23-30 ).

      يقول -تعالى- مخبراً عن كفر فرعون، وتمرده وطغيانه وجحوده في قوله: «وما رب العالمين»؟ وذلك أنه كان يقول لقومه: {ما علمت لكم من إله غيري}(القصص: 38)، {فاستخف قومه فأطاعوه}(الزخرف: 54)، وكانوا يجحدون الصانع -تعالى- ويعتقدون أنه لا ربَّ لهم سوى فرعون، فلما قال له موسى: {إني رسول رب العالمين}(الزخرف: 46).

قال له: ومَنْ هذا الذي تزعم أنه ربُّ العالمين غيري؟! هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف، حتى قال السدي: هذه الآية كقوله تعالى: {قال فمن ربكما يا موسى قال ربُّنا الذي أَعطى كل شيء خَلقه ثم هدى}(طه: 49 - 50 ).

     قال: أي: موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أوعز من الشُّبهة، فأجاب موسى بقوله: {ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما إنْ كنتم تعقلون} أي: هو الذي جعل المشرقَ مشرقاً تطلع منه الكواكب، والمغربَ مغرباً تغرب فيه الكواكب، ثوابتها وسياراتها، مع هذا النظام الذي سخَّرها فيه وقدرها; ولهذا لما غُلب فرعون  وانقطعتْ حُجته، عَدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه، واعتقد أن ذلك نافع له، ونافذ في موسى -عليه السلام- فقال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}!.

8- وقال -تعالى- مخبراً عن قوم نوح -عليه السلام-: {قالوا يا نوحُ قدْ جادلتنا فأكثرتَ جِدالنا فائتنا بما تَعدنا إنْ كنتَ من الصادقين}(هود: 32).

     فيخبر -تعالى- عن استعجال قوم نوح نقمة الله، وعذابه وسخطه، والبلاء موكل بالمنطق: {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} أي: حاججتنا فأكثرت من ذلك، ونحن لا نتبعك {فأتنا بما تعدنا} أي: من النقمة والعذاب، ادعُ علينا بما شئت، فليأتنا ما تدعو به؟! {إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين} أي: إنما الذي يعاقبكم ويعجِّلها لكم الله، الذي لا يعجزه شيء، {ولا ينفعكم نصحي إنْ أردتُ أن أنصحَ لكم إنْ كان اللهُ يُريد أنْ يُغويكم} أي: أي شيء يُجدي عليكم إبلاغي لكم، وإنذاري إياكم ونصحي، إنْ كان اللهُ يريد إغواءكم ودماركم، {هو ربكم وإليه ترجعون} أي: هو مالك أزمَّة الأمور، والمتصرِّف الحاكم العادل الذي لا يجور، له الخلق وله الأمر، وهو المُبدئ المُعيد، مالك الدنيا والآخرة. (انظر تفسير ابن كثير).

9- وقال -تعالى- مخبراً عن نبيه شعيب -عليه السلام- إنه دعا قومه للتوحيد، وإخلاص العبادة لله -تعالى- وترك تطفيف المكيال والميزان وبخسه، وترك الإفساد في الأرض؛ فكان ردّهم أن: {قالوا يا شعيبُ أصلاتك تأمركَ أنْ نترك ما يعبد آباؤنا أو أنْ نفعلَ في أموالنا ما نشاءُ إنك لأنتَ الحليم الرشيد}(هود: 87 ).

     فقالوا له على سبيل التَّهّكم، قبحهم الله: (أصلاتك)، قال الأعمش: أي: قرآنك «تأمرك أنْ نتركَ ما يعبد آباؤنا» أي: الأوثان والأصنام، «أو أنْ نفعلَ في أموالنا ما نشاء»؛ فنترك التطفيف على قولك، وهي أموالنا نفعل فيها ما نريد!  وقال الثوري في قوله: «أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء» يعنون: الزكاة. 

     وجاء في مجادلته لهم أنْ قال: «إنْ أُريد إلا الإصلاحَ»، يقول: ما أريد فيما آمركم به، وأنهاكم عنه، إلا إصلاحُكم وإصلاحُ أمركم «ما استطعت» أي: ما قدرت على إصلاحه، لئلا ينالكم من الله عقوبة منكلة، لخلافكم أمره، ومعصيتكم رسوله ( وما توفيقي إلا بالله ) أي: وما إصابتي الحق في محاولتي إصلاحكم، وإصلاح أمركم،  إلا بالله، فإنه هو المعين على ذلك، وإلا يعنني عليه لم أصب الحق فيه. «عليه توكلت» إلى الله أفوض أمري، فإنه ثقتي، وعليه اعتمادي في أموري. «وإليه أنيب»، وإليه أقبل بالطاعة، وأرجع بالتوبة.

 والآيات في قصص مناظرات أنبياء الله -عز وجل- لأقوامهم، ومحاجاتهم لهم من كتاب الله تعالى كثيرة. 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك