رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 24 أكتوبر، 2016 0 تعليق

( الجهاد …تعريفه – أحكامه – ضوابطه )هل تستطيع الأمة الإسلامية الجهاد اليوم؟

الشارع راعى حالة الضعف التي قد تعتري الأمة فلم يوجب على المسلمين أنْ يثبتوا في المعركة إذا كان عدد الأعداء أكثر من ضعفي قوة المسلمين

من المسائل المهمة أنَّ جهادَ الطلب لابد أنْ يُراعى فيه استطاعة الأمة وقدرتها على مقارنة بما يمتلكه أعداؤها من القوة والسلاح والرجال

 

فضائل الجهاد كثيرة جداً، فهو من أفضل القُربات، ومن أعظم الطاعات، وهو ذروة سنام الإسلام، وبابٌ عظيم من أبواب الشريعة الغراء؛ يقوم به ذوو الفضل والشرف والسُّؤدد في الدّين، دعوة ودفعاً، لما يترتّب عليه من مصالح عظيمة لأمة الإسلام، من نصر للمؤمنين، وإعلاء لكلمة الدين، وقمع للمنافقين والكافرين، وتسهيل لانتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين، وإخراج للعباد من الظلمات إلى النور، ونشر محاسن الإسلام، وأحكامه العادلة بين الخلق أجمعين، وغير ذلك من المصالح الكثيرة والعواقب الحميدة للمسلمين، واليوم نتكلم عن مسألة مهمة وهي هل تَستطيعُ الأمةُ الجهاد اليوم؟

من عموم أدلة الشريعة وقواعدها التي ترفع التكليف عن الفرد والأمة، في حال عدم الاستطاعة.

1- كما قال الله تعالى: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُم وعَلِمَ أَنَّ فيكُمْ ضَعْفًا فإِنْ يَكُنْ مِنْكُم مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مائَتَيْنِ وإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} الأنفال: 65.

أخرج البخاري وغيره: عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: لما نزلت: {إِنْ يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ...} الأنفال: 65، شقَّ ذلك على المسلمين؛ إذْ فُرض عليهم ألا يفرَّ واحدٌ من عشرة فجاء التخفيف، وكان ذلك كما قيل بعد مدة.

     ووجه الاستدلال من الآية: أن الشارع راعى حالة الضعف التي قد تعتري الأمة، فلم يوجب على المسلمين أنْ يثبتوا في المعركة إذا كان عدد الأعداء أكثر من ضعفي قوة المسلمين.  وهذا يدل على أنَّ استطاعة الأمة وقوتها، أمرٌ معتبر في وجوب القتال، فإذا لم يكن بالأمة قوة سقط وجوبه.

2- وجاء في السير الكبير وشرحه: «ولا ينبغي أنْ يدعَ المشركين بغير دعوةٍ إلى الإسلام، أو إعطاء جزية، إذا تمكّن من ذلك ; لأنّ التكليف بحسب الوسع».

3- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وكان مأمورًا بالكف عن قتالهم، لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك، ثُمَّ لَمَّا هاجر إلى المدينة، وصار له بِها أعوان، أُذن له فِي الجهاد، ثُمَّ لَمَّا قووا كتب عليهم القتال ولَم يكتب عليهم قتال من سالمهم؛ لأنَّهم لَم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار، فلما فتح الله مكة، وانقطع قتال قريش وملوك العرب، ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام، أمره الله تعالى بقتال الكفار كلهم، إلا من كان له عهد مؤقت، وأمره بنبذ العهود المطلقة، فكان الذي رفعه ونسخه ترك القتال. وأما مجاهدة الكفار باللسان، فما زال مشروعاً من أول الأمر إلى آخره... اهـ. الجواب الصحيح (1/ 237).

4- وقال أيضا: «وسبب ذلك: أنَّ المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظُهور الدين وعلوه، كالجهاد، وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء، لَم تشرع المخالفة لهم، فلما كمُل الدين، وظهر وعلا، شُرع ذلك». اهـ. اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 420).

5- وقال أيضا كما سبق: «فمن كان مِن المؤمنين بأرضٍ هو فيها مُسْتضعف، أو في وقتٍ هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصَّبر والصفح، عمن يُؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهلُ القوة فإنَّما يعملون بآية قتال أئمة الكفر، الذين يطعنون فِي الدِّين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتَّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون». اهـ. الصارم المسلول (2/ 413).

     علمنا مما سبق: أنَّ فرضَ الجهاد في سبيل الله، بقتال الكفار والمشركين وغيرهم، مرّ بمراحل ثلاث، وذلك أنّ المسلمين أول أمرهم لم يكونوا مستعدين له في مكة، حتى حصلت الهجرة، وصارت لهم دارُ منعةٍ وقوة، وأرضٌ ودولة، لها إمامها وقائدها، وأنه يُشترط لوجوب الجهاد على المسلمين، شروط عدة، منها: وجود الاستـطاعة والقُـدرة، وإعْداد العُدّة له، بالمال والرجال والسلاح، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (الأنفال:60).

مفهوم القوة

فأوجب الله -تعالى- على رسوله صلى الله عليه وسلم  وأصحابه وأمرهم في هذه الآية: بالإعْداد للكفار ما يمكنهم من آلةٍ وعُدة وقوة، والمراد بالقوة ههنا: ما يكون سبباً لحصول القوة، وذكروا فيه وجوها:

الأول: المراد من القوة هي أنواع الأسلحة.

الثاني: ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم  أنه قرأ هذه الآية على المنبر، وقال: «ألا إنَّ القوةَ الرَّمي»، قالها ثلاثا. رواه مسلم.

الثالث: قول بعضهم: القوة هي الحُصون.

الرابع: قول أصحاب المعاني: الأولى أنْ يقال: هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد، فهو من جملة القوة، وقوله عليه الصلاة والسلام: «القوة هي الرمي «لا ينفي كون غير الرمي معتبراً، كما أن قوله عليه الصلاة والسلام: «الحج عرفة». و«النَّدم توبة»، لا ينفي اعتبار غيره، بل يدل على أنّ هذا المذكور، جزء شريف من المقصود، فكذا ههنا.

     وهذه الآية تدل على أنَّ الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح، وتعليم الفروسية والرمي، فريضة، إلا أنه من فروض الكفايات. (انظر التفسير الكبير)، وهذا الشرط لوجوب الجهاد – وهو القدرة والاستطاعة - لا خلافَ فيه بين الفقهاء في الجملة، وهو يتضمن أمرين بحسب كلام العلماء: أحدهما: الاستطاعة البدنية، والآخر: الاستطاعة المالية.

ومن المسائل المهمة المتعلّقة بالاسْتطاعة: أنَّ جهادَ الطلب لابد أنْ يُراعى فيه استطاعة الأمة وقدرتها على الجهاد، بالنظر في قوة الأمة الإسلامية، مقارنة بما يمتلكه أعداؤها من القوة والسلاح والرجال.

أنواع عدم القدرة

وقد ذكر بعض الفقهاء قديماً شيئاً من أنواع عدم القدرة أو الاستطاعة، في معرض كلامهم عن الأعذار المبيحة لتأخير الجهاد:

1- فقال الإمام الشافعي: «وإذا ضَعُف المسلمون عن قتال المشركين، أو طائفة منهم لبعد دارهم، أو كثرة عددهم، أو خَلَّة بالمسلمين، أو بمن يَليهم منهم، جاز لهم الكفّ عنهم، ومهادنتهم على غير شيء يأخذونه من المشركين، وإنْ أعطاهم المشركون شيئاً قلَّ أو كثر كان لهم أخذه».

2- وقال موفق الدين ابن قدامة: «أقلُّ ما يُفعل - أي الجهاد - مرة في كل عام... إلا مِن عُذر، مثل أنْ يكونَ بالمسلمين ضَعفٌ في عَدد أو عُدة، أو يكون ينتظر المدد يستعين به، أو يكون الطريق إليهم فيها مانع، أو ليس فيها علف أو ماء، أو يعلم من عَدُوه حسن الرأي في الإسلام، فيطمع في إسلامهم إنْ أخّر قتالهم، ونحو ذلك مما يرى المصلحة معه في ترك القتال».

- ومن الأدلة على هذا أيضاً:

النظر في تدرج مشروعية الجهاد في العهدين: المكي والمدني.

     فإنَّ الله -تعالى- لما بعث رسوله صلى الله عليه وسلم في مكة، أمره بتبليغ الدِّين، والإعراض عن الكافرين، وحرّم عليه وعلى أصحابه القتال في الفترة المكية؛ حيث كانوا أذلةً مستضعفين، ليس لهم شوكةٌ ولا منعة، فكان يقال لهم:كُفوا أيديكم عن القتال، كما في قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} (النساء: 77).

حال المؤمنين في مكة

     فكان المؤمنون في ابتداء الإسلام - وهم بمكة - مأمورين بالصلاة والزكاة، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين، والصبر إلى حين، وكانوا يتحرّقون ويَودون لو أُمروا بالقتال ليَشْتَفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذْ ذاك مناسباً لأسبابٍ كثيرة، منها: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها: كونهم كانوا في بلدهم، وهو بلد حرام، وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداءً لائقا، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة، لما صارت لهم دارٌ ومَنَعة وأنصار، ومع هذا لما أُمروا بما كانوا يودونه، جزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا {وقالوا ربّنا لم كتبتَ علينا القتال لولا أخَّرتنا إلى أجلٍ قريب} أي: لو أخرتَ فَرْضه إلى مدّة أخرى؛ فإنَّ فيه سفكَ الدماء، ويتم الأبناء، وتأيم النساء، وهذه الآية في معنى قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ۚ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} (محمد: 20 - 21). (انظر تفسير ابن كثير). 

     فالصحابة لما كانوا بمكة، لم يُؤذن لهم بالقتال، فلما هاجروا إلى المدينة واشتد عُودهم، وقويت شوكتهم، وحصلت لهم قوة العدد والعتاد، والمنعة بالدار، وصار بإمكانهم المواجهة والقتال؛ أَذن الله -تعالى- لهم بقتال من قاتلهم. قال الشافعي في معرض تعليله لفرض الجهاد: «ولما مضتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم  مدة من هجرته أنعم الله -تعالى- فيها على جماعة باتباعه، حدثت لهم بها مع عون الله قوة بالعدد، لم تكن قبلها، ففرض الله -تعالى- عليهم الجهاد، بعد إذْ كان إباحة لا فرضاً».

وإذا كان الجهاد لم يشرع إلا لمصلحة إعلاء كلمة الله، وإعزاز دين الله، وكسر شوكة الكافرين، فإنَّ هذه الغاية تتطلب وجود قوة تحصل بها مقاومة العدو ومواجهته.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك