رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 7 أغسطس، 2023 0 تعليق

أجْرُ المُفْطِر في السَّفَر إذا تَولَّى العَمَل

شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم - باب: أجْرُ المُفْطِر في السَّفَر إذا تَولَّى العَمَل

 

عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ، ومِنَّا المُفْطِرُ، قَال: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ، أَكْثَرُنَا ظِلًّا صَاحِبُ الكِسَاءِ، ومِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ. قَال: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وَقَامَ المُفْطِرُونَ، فَضَرَبُوا الْأَبْنِيَةِ، وَسَقَوْا الرِّكَابَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ». رواه مسلم في الصيام (2/788) باب: أجر المُفطر في السّفر إذا تولّى العمل. ورواه البخاري في كتاب الجهاد والسير (2890) باب: فضل الخدمة في الغزو.

      يقول أنس - رضي الله عنه -: أنّهم خَرَجُوا مع النّبي - صلى الله عليه وسلم - في سَفَر، وفي يومٍ حار شديدِ الحرارة، ولمْ يكُنْ لهم ما يَستظِلُّونَ به في هذا الحَرِّ، وكان أكثَرُهم ظِلًّا الذي يَستَظِلُّ بكِسائِه، أي: برِدائِه. وكان منْهم صائِمونَ، ومنْهم مُفْطِرونَ، فأمَّا الصَّائِمونَ فلم يَفعَلوا شَيئًا من الخِدمةِ ونَحوِها؛ لِما بهم مِن جَهْدِ الصِّيامِ والسَّفَرِ.

سفر غَزوة الفتح

      ولعلّ هذا السفر- والله تعالى أعلم- كانَ سفر غَزوة الفتح، كما في الحديث السابق، وكان فيهم الصّائم، وفيهم المُفْطر، قال: فسَقَط الصُّوّام، أي: ضَعفَ الصُّوام وسقطوا في الأرض، للرّاحة مِنْ شِدّة الإعْياء، أمَّا المُفْطِرون: فضَربوا الأبنية، أي: بنَوا الخِيام، وسَقَوا الرّكاب، أي: الإبل، فلمّا رأى هذا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ذَهَبَ المُفْطِرُون اليومَ بالأَجْر». أي: بالأجْرِ الكاملِ الوافِرِ.

      وقول أنس - رضي الله عنه -: «فمنّا الصّائم، ومنّا المُفْطر»، هذا كما تقدم في حديثه السالف أنّه قال: «فلم يَعِب الصّائمُ على المُفْطِر، ولا المُفْطر على الصّائم»، فالمُفطر لا يَعيب على الصائم في السّفر، والصّائم لا يَعِيبُ على المفطر في السفر، فالكلّ على خَير.

أفْضَليّة الفِطر في السّفر

       ولكنّ الحديثَ يدلُّ على أفْضَليّة الفِطر في السّفر، عندَ التّعبِ والمَشَقّة، وشِدَّة الحَرّ، فإنّه أولى مِنَ الصَّوم، ويَنْبغي للإنسان أنْ يأخذَ بالرُّخْصة في مثلِ هَذا، وأنْ يَقْبلها، فالله -جل وعلا- يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184)، وقال -عليه الصّلاة والسلام- كما مَرَّ معنا: «ليس مِنَ البِرّ الصّيام في السفر». أي: ليس منَ البرّ الكاملِ أو المطلوب، أنْ يصُومَ الإنسانُ في السَّفر الشاقّ عليه.

فوائد الحديث

- الفطر أفضل مِنَ الصّيام، إذا كان في ذلك مَصْلحةٌ وفائدةٌ أعْظم، مِثل إذا كان فيه إعانةٌ على مُلاقاة الأعْداء، والتّقوى على أعمالِ الجِهاد، فإنّ فَائدةَ الفِطْر هنا تتَعدّى إلى أمرٍ أهمّ وأعْظَم مِنَ النّفْع الخَاص، فالإنسان إذا صَامَ كانت الفائدةُ لنفسه، أمّا إذا أفْطَرَ لمَا يَتعلّق بالمَصْلحة العامّة للمُسلمين، مثل: الجِهاد وغيره مِنَ الأعْمال، فلا شك أنَّ الفِطْرَ أفضلُ في هذه الحال.

- ومن الفوائد: أنَّ أجْرَ العامل بقَدْر نفعٍ عَمله، وكلمّا كان النّفع مُتعدّياً، كان أكثر للأجْر والثواب، لارْتباطه بمَصَالح الناسِ ومَصالح المسلمين، فقول النّبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذهبَ المُفْطرون بالأجر» يعني: بأجرٍ يَزيدُ على أجْر الصّائم.

فضل خِدمة الإخْوان والأهل والخِلان

- ومن الفوائد: بيان فضل خِدمة الإخْوان والأهل والخِلان، ولا سيما في السّفر؛ لأنّه موضع تَعبٍ ومشقّة، وأنّ هذا مِنَ الخُلق الحَسن، ومِنَ المُروءة والرُّجولة، التي سبقنا إليها خيارُ هذه الأمّة مِنْ صَحابة الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم -، خِلافاً لبعض المتكبّرين الذين يترفعون عن هذا الباب، فالناس إذا كانوا في شدّةٍ، أو كانوا في سَفَر، فينبغي على الإنسان أنْ يُعين مَنْ يحتاج إلى الإعانة، مِنَ الضُّعفاء وكبار السّن، وأنْ يُسَاهم بما يستطيع، وأن يبذل جُهده، ويتعاون مع إخْوانه.

- وأيضاً: فهؤلاء المُفْطِرون مِنَ الصّحابة -رضي الله عنهم-، فَعَلوا هذا الفعل، وقدّموا الإحْسان، وخَدَموا إخْوانهم، دون اسْتِشرافٍ أو تَطَلّع للمُكافئة، أو للمَدْح والثناء، فلذلك استحقّوا هذا البِشارة النّبوية: «ذَهَبَ المُفْطِرُون اليومَ بالأجر».

مَشْروعيةُ الثناء على المُحْسنين

- ومِنَ الفوائد التَّربويّة: مَشْروعيةُ الثناء على المُحْسنين، والتَّشجيع على الأعْمال الصالحة والنافعة، التي تنفع المُجْتمع وتنفع الناس؛ لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أثْنَى عليهم فقال: «ذَهبَ المفطرون اليوم بالأجر». رضي الله عن هؤلاء الصحابة أجمعين.

- وأنّ بَذل العَونِ لِلضُّعَفاءِ والمُحتاجينَ وخِدمَتُهم، مِنْ أفضَلِ أبوابِ البِرِّ وأعظَمِها أجْراً.

- ومِنَ الفوائد: أنّ فِعْلَ الأسباب، لا يُنَافي التّوكّل على الله -عزّ وجل-، فإنّ الصّحابة تَوقّوا الشّمْسَ، فمنْهم مَنْ يَتّقِي الشّمسَ بالكِساء، ومنْهم مَنْ يَتقّي الشّمس بيده، ثمّ لمّا احتاجوا للفِطر أفْطروا.

- ففعلُ الأسْباب؛ لا يُنَافي التّوكّل على الله -عزّ وجل-، بل الشريعة جاءت بالأخْذِ بالأسباب النافعة، كما ورد عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في سُنّته القوليّة والفِعلية.

حثّ الإسلام على العَمل وعدم الاتّكاليّة

- وفيه أيضاً: أنّ الإسلام حثّ على العَمل وعدم الاتّكاليّة، وألا يَتَطلّع المَرْءُ إلى خدمة الآخرين له، أو إلى كفايته مِنَ الناس، دون أنْ يَبْذل جُهداً.

- ومن الفوائد الجميلة -وهي مِنْ مَحاسِن دينِ الإسْلام- أنّ هذا الدينَ دِينُ شمولية وكَمالٍ وأخْلاق، فالصّحابة -رضي الله عنهم- لما بنوا الخيام لإخوانهم، لمْ يَنْسَوا الإبل والدواب من السَّقْي والإطعام، لم ينسوا الركائب والحيوانات التي معهم، وهذا يَدلّ على الاهتمام بحقوق الحَيوان في الإسْلام.

- وفي الحَديثِ: ما كان عليه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم - وأصْحابُه -رضي الله عنهم- مِن شِدَّةِ العَيشِ، وخدمتهم لأنفسهم.

باب: الفِطْرُ للقُوّة للقَاء العَدُو

      عن قَزَعَةَ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ - رضي الله عنه - وَهُوَ مَكْثُورٌ عَلَيْهِ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، قُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْأَلُكَ عَمَّا يَسْأَلُكَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ، سَأَلْتُهُ عَنْ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ؛ فَقَال: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ، قَال: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، والْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ» فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ، ومِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ، فَقَال: «إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، والْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا» وَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرْنَا، ثُمَّ قَال: لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ في السَّفَرِ. الحديث رواه مسلم في الباب السابق.

      فيُخبِرُ التَّابِعيُّ الثّقة قَزَعةُ، وهو ابنُ يَحْيى البَصْريُّ، أنَّه جاء إلى الصحابي الجليل أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، «وهو مَكْثورٌ عليه، أي: حَوْلَه أُناسٌ كَثيرونَ، يَتعلَّمونَ ويَستَفيدونَ من حَديثِه، فلمَّا تَفرَّقَ النَّاسُ عنه وانْصَرَفوا، قال لأبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه -: إنِّي لا أَسْألُكَ عمَّا يَسألُكَ النَّاسُ عنه مِن مَسائِلَ، ولعلَّه يقصِدُ أنَّ مَسألَتَه لم يسبِقْ لأبي سَعيدٍ - رضي الله عنه - أنْ تَناوَلَها، أو سأَلَه أحدُهم عنها في مجلِسِه هذا.

سؤاله عن الصيام في السفر

       فسأَلَه عن الصِّيامِ في السَّفَرِ، حُكمِه وما فيه مِن رُخَصٍ أو عَزائِمَ، فأخبَرَه أبو سَعِيدٍ - رضي الله عنه - مُوضِّحاً له أحْوالَهم في السَّفَرِ معَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّهم ابْتَدؤوا السَّفَرَ منَ المدينةِ إلى فَتْحِ مَكَّةَ، وهم صِيامٌ في شَهرِ رَمَضانَ، فلمَّا نَزَلوا مكانًا للرَّاحةِ، أخبَرَهم رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهم قدِ اقتَرَبوا مِنَ العَدُوِّ والحَرْبِ، وأنَّ الفِطرَ أقْوَى لهم، فلِقاءُ العَدوِّ يَحتاجُ إلى القُوَّةِ، والفِطْرُ يُحقِّقُ ذلك أكثَرَ مِنَ الصِّيامِ، وهذا دَليلٌ على أنَّ حِفظَ القُوَّةِ بالفِطْرِ، أفضَلُ شرعاً لِمَن هو مُنتَظِرٌ لِقاءَ العَدُوِّ.وقولُه: «فكانَتْ رُخْصةً» يَعني: أنَّهم لمْ يَفهَمُوا مِن هذا الكَلامِ الأمرَ إيجاب الفِطرِ، ولا الجَزمَ به، وإنَّما نبَّهَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ الفِطرَ أَوْلى لِمَن خافَ الضَّعفَ. فمنهم مَن صامَ، ومنهم مَن أفطَرَ.ثُمَّ أنَّهم نَزَلوا مَكانًا آخَرَ للاستِراحةِ، فقال لهمُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّكُم مُصَبِّحُو عَدُوِّكم»، أي: ستَهجُمونَ عليه في الصَّباحِ، «والفِطرُ أقْوَى لكم، فأَفْطِروا»، قال أبو سَعيدٍ - رضي الله عنه -: «وكَانَتْ عَزْمةً»، أي: أنَّهم فَهِموا من أمرِه بالفِطْرِ هذه المرَّةَ أنَّه جَزْمٌ، ولا بُدَّ منه، فأفْطَروا جَميعُهم، وفي هذا بيانُ أنَّ الصَّحابةَ كانوا يَفْهَمونَ مَقاصِدَ كلامِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم .

       ثُمَّ أخبَرَ أبو سَعيدٍ - رضي الله عنه -: أنَّهم كانوا يَصومُونَ معَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذلك في السَّفَرِ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ النَّهيَ عنِ الصَّومِ في سَفَرِهم لفَتحِ مكَّةَ، لم يَنسَخِ جَوازَ الصَّومِ فيه؛ فالأمرُ مُرتبِطٌ بالقُدرةِ، وبالظُّروفِ الطَّارئةِ، وبما يكونُ في السَّفرِ منَ الحاجةِ إلى الإفْطارِ، وتحقيق المصلحة العامّة؛ ما يُجب الفِطر.

 

فوائد الحديث

- السَّفرُ ومُلاقاةُ العَدوِّ منَ الأُمورِ الَّتي تَحتاجُ إلى القوَّةِ الجَسديَّةِ، لتَحمُّلِ المَشاقِّ والصُّعوباتِ فيها؛ فلهَذا رُخَصِ بالإفْطارِ فيه، في شَهرِ رَمَضانَ، وفي أَثْناءِ الصِّيامِ.

- وفيه: أنّ التَّابِعين -رَحِمهمُ اللهُ- كانوا يَحرِصون على مَعرفةِ كلِّ شيءٍ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من أصْحابِه -رضي الله عنهم-، ويَسألونهم عمَّا أشكَل عليهم، وعن صِفةِ أفعالِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في جميع أحواله

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك