نحو رؤية تأصيلية للواقع الدعوي المعاصر – الشيخ الموصلي: فقه الداعية بمنهج الأنبياء يمكنه من مواجهة ت
نحو رؤية تأصيلية للواقع الدعوي المعاصر - الشيخ الموصلي: فقه الداعية بمنهج الأنبياء يمكنه من مواجهة تحديات الدعوة إلى الله -تعالى
الحلقة الثانية
ما زلنا في الحوار الماتع مع الشيخ فتحي الموصلي عن الواقع الدعوي المعاصر، وأهم معالم هذا الواقع وملامحه؛ حيث بين الشيخ الموصلي في الحلقة الأولى أنَّ فقه الواقع من أهم ما يحتاجه الداعية وطالب العلم، ولا سيما في تلك الأزمنة التي زادت فيها الفتن، وتسارعت فيها الأحداث، وتقلبت فيها القلوب، وتكلم الشيخ عن تقييمه للمشهد الدعوي المعاصر، وذكر أنَّ المشهد الدعوي المعاصر يفتقد ثلاثة عناصر مهمة: التعاون والتكامل والتخصص، كما يفتقد المشهد الدعوي أيضًا القدوة الدعوية، ثم تكلم الشيخ عن كيفية بناء الوعي في الواقع الدعوي، وذكر منها: تدبر كتاب الله –تعالى-، والفهم الصحيح لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم الاعتناء بالتجارب، واليوم نكمل هذا الحوار بالحديث عن أهم التحديات التي تواجه الدعاة.
- ما أهم التحديات التي تواجه الدعاة اليوم؟
- التحديات التي تواجه الدعاة في زماننا، هي فرع عن التحديات التي كانت تواجه الرسل في زمانهم؛ ولهذا فإن الداعية إذا كان فقيهًا بمنهج الأنبياء في الدعوة إلى الله، فإنه لا يستغرب هذه التحديات ولا يستبعد هذه المتغيرات؛ ولهذا فإن القاعدة الجامعة في هذا الباب هي أن الرسل -عليهم صلوات ربي وتسليمه- قاموا بتبليغ التوحيد والشرع المنزل عليهم، {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
اهتمامهم بفقه الأولويات
وأضاف الشيخ الموصلي، والأنبياء مع تبليغهم دين الله -عزوجل- وشرعه، فإن اعتناءهم بفقه الأولويات كان كبيرًا أيضًا، لماذا؟ لأنهم أدركوا حقيقة مهمة، وهي أنَّ أمام هذه التحديات والمتغيرات لابد من الاعتناء بتقديم الأهم فالأهم، وهذا معني الاعتناء بفقه الأولويات.
الاستعانة بالله والصبر على الدعوة
ثم إنهم أخذوا بقاعدة أخري وهي قاعدة الاستعانة بالله والصبر على الدعوة في التعامل مع هذه التحديات؛ لهذا كانت وصية موسى -عليه السلام- لقومه -وهو يوصي النخب من أبناء قومه الدعاة- قال: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا}.
التعامل مع التحديات
من هنا فإنه يتوجب على الداعية أن يتفهم هذه النقاط الثلاثة في التعامل مع التحديات وهي: الاقتداء بمنهج الأنبياء في التعامل مع التحديات، ثم فقه الأولويات، ثم بعد ذلك التعامل مع تلك التحديات من خلال السلوك العملي تحت قاعدة الاستعانة بالله على القيام بالواجب، ثم الصبر على أداء هذا الواجب.
التحدي الأول: انتقاص العلم والإيمان
التحدي الأول الذي يواجه الدعاة في عصرنا الحاضر هو ظاهرة انتقاص العلم ونقص الإيمان معًا، أو ظاهرة التزاوج والتخادم بين الشبهات والشهوات، فالداعية قديمًا قد يعالج أفرادا من الناس ابتلوا بشبهة، وآخرون ابتلوا بشهوة، لكنه اليوم يعالج أقوامًا ويعالج ظواهر، فصارت الشبهة مخدومة بشهوة أي توظيف الشهوات لنشر الشبهات؛ ولهذا يحتاج الداعية في التعامل مع هذا التحدي إلى فقه دقيق، وإيمان راسخ، ويقين جازم، وبصيرة نافذة؛ ولهذا يحتاج إلى إيمان وعلم، كما أنه يحتاج إلى تقوية الأسباب التي تزيد الإيمان والوازع الديني في قلوب المدعوين، كما يحتاج كذلك إلى تعليمهم وهدايتهم ونصحهم.
التحدي الثاني: التعامل مع المخالفين
أما التحدي الثاني الذي يواجه الداعية هو طريقة التعامل مع المخالفين، وهو تحد كبير؛ لأنَّ مساحة الاختلاف في الواقع الدعوي كبيرة، والاختلاف في تلك المساحة اختلاف قلوب لا اختلاف عقول وأفهام، واختلاف تضاد لا اختلاف تنوع، وكذلك هو أن حاجة الداعية إلى أن يتعامل مع المخالفين في المجتمع وهم المخالفون للكتاب والسنة؛ لأن التعامل مع الناس في حال الوفاق أمره يسير، وإنما تقع الفتنة لوقوع الاختلاف بالتعامل مع المخالفين للحق، وهذا تحد كبير، قد يخرج الداعية إما إلى الإفراط أو التفريط.
التحدي الثالث: طريقة فهم الدين
التحدي الثالث الذي يواجه الداعية في هذا العصر هو طريقة فهم الدين؛ فبعض الدعاة ممن لم يؤصل تأصيلاً شرعيًا منضبطًا لا يستطيع فهم نصوص الشريعة ولا يستطيع الوقوف على مقاصدها، وهذا النقص في الفهم أفضى إلى اجتهادات كثيرة، وأفضى إلى أن يتكلم في الدين من لا يحسن الكلام فيه؛ لهذا قديما كانت مهمة الداعية أن يعلم ويربي، أما اليوم لا، فالداعية يعيش بين أمرين التصحيح والإرشاد أولا، ثم التعليم والتربية ثانيا، فالتصحيح قبل التعليم، والتهذيب قبل التربية، وكما قال علماؤنا: يحتاج الداعية في زماننا إلى التصفية ثم التربية، ولهذا فالتحدي الأكبر عندما نجد بعض الدعاة -لضيق الوقت أو الحال أو الزمان والمكان- قد يعتني بالتصحيح ويغفل عن التعليم والتربية، وآخر ربما يشرع بالتعليم والتربية من غير تأصيل وتصحيح.
منهج إسلامي شامل
فهذه تحديات مهمة توجب على الداعية أن ينطلق من منهج إسلامي شامل، مرجعيته القرآن والسنة، فعندما تكون رؤية الداعية مبنية على فهم دقيق للقرآن والسنة وآثار السلف، والوقوف على مقاصد الشريعة ومراعاة مصالحها الكلية والجزئية، والوقوف مع طرائق تبليغ الدين، عندما تكون نظرة الداعية بهذا الشمول فإنه ُيسهل عليه أن يتعامل مع جميع التحديات التي تواجه الدعوة، سواء كانت في مجال نقص العلم والإيمان أي: في مجال الشبهات أم في مجال الشهوات.
دعوات وتوجهات جديدة
ولهذا فالداعية الآن يواجه دعوات وتوجهات جديدة منها ما يدعو إلى الانحلال الأخلاقي، وأخري إلى الكفر والإلحاد، وثالثة تحارب القيم، وإلى غير ذلك من الأمور المخالفة ليس للشرع فقط وإنما للعقل والفطرة والشرع والقيم، وهذا معنى أن الشبهات اليوم -على لغتهم- تطورت وأصبحت تعمل على نمط جديد وعلى أهداف كبيرة، وهي في الوقت نفسه توظف الشبهات في خدمتها، فأنت ترى في مواقع التواصل وفي المدونات وفي الإعلانات وفي المقاطع العديد من الأفكار الإلحادية والانحرافات في القيم الشرعية والمجتمعية، وهي ليست شبهات تطرح، وإنما شهوات يرغبون فيها، فهنا تتحرك النفوس إلى تلك الشهوات، ويحصل الفساد في القلوب؛ فيموت القلب، ويضيع العقل، وهذا تحد كبير يحتاج أن يقبل الداعية برؤية شرعية ونظرة دينية واسعة، يستجمع فيها كل أنواع الوسائل والأساليب من أجل المعالجة، وليس أن يتعامل معها بمجرد الإنكار والتحذير؛ فإن هذا قد ينفع في زاوية ولا ينفع في أخري، وإنما يحتاج أن يتعامل معها باعتبار أنها ظاهرة مرضية، تحتاج للنظر إلى الأسباب وإلى منشأ الانحراف، وإلى أثاره، وإلى طرائق التعامل معه، وإلى الوسائل الموصلة إليه، ثم إلى المداخل التي يدخل منها الداعية لمعالجة من يصاب بهذا المرض.
شعار عملي
وهذه التحديات بهذا الحجم تضع على الدعاة مسؤولية شرعية كبيرة، وهي الانطلاق من خلال شعار عملي يعمل على استيقاظ العقول والقلوب والحفاظ على القيم، وإنقاذ الأسرة من الدمار، والواقع يفرض علينا أنه لا يستطيع الداعية في أي زمان ومكان أن يقوم بهذه المهمة بمفرده؛ فلابد له من التعاون والتكامل مع من يعينه على هذه المصلحة الشرعية، يتكاملون في الوسائل، ويتكاملون في الأساليب حتى تستطيع الدعوة معالجة هذه التحديات الكبيرة ومواجهتها.
داعية في وسط الفتنة
وأضاف الشيخ الموصلي، في وسط هذه التحديات نستطيع أن نصف الداعية فيها ونقول: داعية في وسط الفتنة، والداعية تارة يكون داعية في وسط غفلة؛ فيدعو ويذكر الغافلين، ويكون الداعية في وسط جهالة فيدعو الجهال من الناس، ويكون في وسط ضلال أهل الضلالة، لكن الداعية أحيانا يكون وسط فتنة ومحنة؛ لأنه آنذاك تكون الضلالة والبدعة والشهوة كلها امتزجت وتعاونت عليه وعلى دعوته فهو إن دعا بمفرده فيكون حاله كحال الجندي الذي يقاتل بمفردة، أما إن تكامل مع إخوانه سواء كان تكاملا مؤسسيا أم تعاونا فرديا شرعيا، فإنه سيعمل وسيتمكن -بإذن الله تعالى- إما على إزالة الشر أو على تقليله إذا تعذر عن إزالته، والتحديات كثيرة ولكن هذا هو المهم وكيف يتعامل معها الداعية تعاملاً شرعيًا ربانيًا تربويًا علميًا.
لاتوجد تعليقات