التراث والتجديد من منظور السلفية)1(
أصبح موضوع التراث والتجديد في العقود الأخيرة محور اهتمام الكثير من العلماء والباحثين، والمفكرين والمثقفين، وأساتذة الجامعات، والكُتَّاب، على اختلاف انتماءاتهم الثقافية والفكرية، وحظي الموضوع بدراساتٍ وأبحاثٍ كثيرة، ومؤتمرات عديدة، وندوات ومحاضرات، امتلأت بها مئات الكتب والدورات، والمجلات والجرائد، وناقشته وسائل الإعلام المختلفة التي تناولت معالجة قضية الموروث الثقافي للأمة من وجهات نظر متباينة.
التراث في اللغة
الإرث والميراث ما يخلفه الرجل لورثته، وهو أيضًا ما يكون لأناسٍ ثم ينتقل إلى آخرين بنسب أو سبب؛ فالوراثة والإرث انتقال ملكية كل ما يقتنى من غير عقد، أو ما يجري مجرى العقد، وسمي بذلك كل منتقل عن الميت إلى غيره، فيقال للمنتقل عن الميت لغيره: ميراث وإرث وتراث، وأصل الإرث والتراث لغة: وراث، فقلبت الواو ألفًا في إرث، وقلبت الواو تاء في تراث، قال -تعالى-: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} (الفجر: 19)، وقال -تعالى-: ({وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} (النساء: 12).
ويقال أيضًا لكلِّ مَن حصل له شيء من غير تعب: قد ورث كذا؛ قال -تعالى-: ({وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} (الأحزاب: 27)، وقال -تعالى-: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} (الأعراف: 137).
الأصل في الميراث
والأصل في الميراث المال والأشياء المادية، لكنه ليس محصورًا بها؛ إذ يطلق أيضًا على الأشياء المعنوية: كالثقافة بما فيها الجوانب المعرفية والقِيَم الإنسانية، ومنه قوله -تعالى-: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} (النمل: 16)، وقال -تعالى-: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} (مريم:6)، فالمراد: وراثة النبوة والعلم والفضيلة دون المال، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» (متفق عليه).
وجاء في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -لأصحابه وهم في مكة يتقلبون بين المشاعر متعبدين معظمين: «قِفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ، فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، أي: أصله وبقيته، ومنه قول أبي هريرة -رضي الله عنه- لأهل دمشق: «أنتم هنا -يعني في السوق- وميراث محمد يوزع في المسجد»، فلما ذهبوا لم يجدوا أموالًا توزع وإنما حِلَق العلم، وكان أبو هريرة يشير بكلامه هذا إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
الله الوارث
ووصف الله -تعالى- نفسه بأنه الوارث؛ من حيث إن الأشياء كلها في النهاية راجعة عائدة إليه -سبحانه وتعالى-؛ قال -عزوجل-: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (آل عمران: 180)، وقال -تعالى-: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} (الحجر: 23).
مصطلح التراث في العصر الحاضر
أخذت كلمة (التراث) في عصرنا الحاضر بُعدًا أعمق؛ من حيث استيعابها لكلِّ جوانب الثقافة، كما صار لها بُعدٌ وجدانيٌّ لم يهتم معه المفكرون المعاصرون بالاتفاق على تحديد واضح لمصطلح التراث؛ فمدار دراساتهم حول التراث أنه: كل ما خلَّفه السابقون من آثار ثقافية ومدنية في كلِّ أوجه الحياة.
فالمتداول عندهم: أن التراث العربي هو كل ما تركه العرب، وكل ما أنجز باللغة العربية قبل عصرنا دينيًّا كان أو غير ديني. والتراث الإسلامي يشمل كل الآثار الثقافية والمدنية التي أنجزها المسلمون في ظل الحضارة الإسلامية العريقة والتاريخ الإسلامي الطويل، فكله عندهم تراث، بغض النظر عن مدى التزامه بالإسلام من عدمه.
والأوجه: أن وصفَ تراثٍ ما بأنه من التراث الإسلامي يعني كونه فعليًّا وحقيقة ينتمي لهذا التراث، ويعني موافقته وانسجامه مع تعاليم الإسلام غاية ومنهجًا؛ أي: أن التراث الإسلامي يجب أن ينحصر في أجزاء محددة ومعينة مِن بين ذلك التراث الكبير المنسوب للمسلمين عبر تاريخ الإسلام الطويل، ولا يكون ذلك إلا من خلال عملية نقد إسلامية واعية يقودها المجتهدون من علماء الإسلام المعتبرين؛ فهم أهل ذلك والأولى به.
أهمية التراث
لتراث كل أمة أهمية كبيرة؛ فهو حضارتها وتاريخها، وهو جذور الأمة الذي تستقي منه الدروس والعبر، وينمي فيها الإحساس بالهوية، والشعور بالمسؤولية التاريخية، وهو تراكم خبرات فيه تنوع ثقافي، بما يحمله من قِيَم وآداب وفنون، وحرف و(فلكلور)، وعادات وتقاليد ورثتها أجيال وأقرتها، وارتضت منها ما صمد عبر قرون.
وفي هذه الموروثات ما يعد من ثوابت في الأمة الذي لا يقبل التغيير، ومنها ما ليس من الثوابت؛ فهو قابل للتغيير، وما كان من التراث من جهود الأمة العلمية والثقافية والاجتماعية، ومن منتجاتها العقلية والعملية فيؤخذ منه ويرد، عدا الإجماع والقياس الجلي فإنهما من الثوابت.
وما كان منها -من أمور الدنيا التي لا وحي فيها- تقبله حياتنا المعيشية المعاصرة فيحتفظ به لموافقته للعصر، وما كان منها لا تقبله حياتنا المعاصرة -لكونه كان ثقافة أو منتجًا علميًّا أو عمليًّا لصيقًا بالعصر الذي أنتج فيه وارتبط به، ولم يعد موافقًا للعصر الحديث- فيترك أو يطور ليوافق متطلبات العصر، وهذا يقتضي أن يكون باب الاجتهاد في الأمة مفتوحًا.
حديث تجديد دين الأمة
وفي الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وهذا الحديث تناوله العلماء وكتبوا فيه الرسائل في بيان معنى التجديد، والتعريف بمجددي الأمة؛ فذكر بعضهم قوائم بأسماء المجددين بدءًا من المائة الأولى وحتى القرن التاسع كما في قائمة السيوطي، أو حتى القرن الرابع عشر كما في قائمة صاحب (وسيلة المجددين)، ولم يتجاوز المراد من التجديد عند العلماء دائرة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة؛ وكلمة (مَنْ) في الحديث تنطبق على الواحد أو أكثر، وعلى ذلك يمكن تعدد المجددين في العصر الواحد، ويمكن بهذا المعنى أن يضطلع بالتجديد مجمع أو مجامع علمية معاصرة في حركة تجديد جماعي.
الحديث لا ينفي الاجتهاد
والحديث أيضًا ينافي ما اشتهر بين الفقهاء في بعض العصور مِن القول بانقطاع الاجتهاد في الأمة من بعد القرن الخامس الهجري؛ بزعم منع الفوضى الدينية، وهو ما أدَّى إلى التقليد وإيجاب التمذهب، وانتهى الأمر بالجمود الفقهي والوقوع في التعصب المذهبي؛ إذ لا حجة تنهض للقول بذلك، وللسيوطي -رحمه الله- كتاب سمَّاه: (الرد على مَن أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كلِّ عصرٍ فرض)، وهو مطبوع متداول.
التعرف على الوجه الحقيقي للحضارة
ومما ينبغي أن يُرَاعى في تناول حضارة الأمة وتراثها: التعرف على الوجه الحقيقي لهذه الحضارة، وهذا التراث من مصادره الحقيقية التي نبَّه عليها علماء الأمة ومصلحوها، لا من المصادر المشوهة والمغرضة؛ فهذا هو حائط الصد الذي يعول عليه في دفع تشويه تاريخ الأمة وحضارتها في مواجهة كل الحملات الشرسة المغرضة من أعداء الأمة -وما أكثرهم!- لتشويه تاريخ الأمة المجيد، والنيل من حضارتها العريقة.
التراث والوحي
المراد بالوحي: نصوص القرآن الكريم، والسنة المطهرة الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والوحي محفوظ بحفظ الله -تعالى- له، ثم محفوظ بجهود علماء الأمة وأئمتهم، ودخول الكتاب والسنة ضمن تراث الأمة يحتمل أمرين:
(1) اعتبار الوحي (كتابًا وسنة) من تراث الأمة، يعني أن تراث الأمة يتضمن:
- الوحي المستمد من علم الله -تعالى-، متمثلًا في: القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
- الإنتاج الثقافي والمدني الذي أثمرته الجهود الفكرية والتطبيقية للأمة خلال العصور الإسلامية.
(2) أو اعتبار التراث يحمل صفة زمنية ومِن ثَمَّ ظرفية، خلافًا للوحي الذي نزل يتضمن الحقائق والأحكام المتعالية عن الزمان والمكان، وإن كانت تطبق مقتضياتها على أوضاعها من خلال فكر البشر وجهودهم.
مِن هذين الاعتبارين فهناك رأيان:
الرأي الأول: التراث يشمل الكتاب والسنة
أن التراث يشمل الكتاب والسنة كما يشمل سائر الإنتاج الفكري المتعامل معهما، فمدلول التراث في هذا التصور لا يقتصر على منجزات العقل الثقافية والحضارية والمادية، بل إنه يشتمل على الوحي الإلهي أيضًا.
ومستند هذا الرأي ما ورد في اللغة العربية وما ورد في النصوص الشرعية من أن الميراث والتراث يشتمل لغة الميراث المادي وغير المادي.
أصحاب النظرة السلفية
ويرى أصحاب التوجه الإسلامي والنظرة السلفية تقسيم هذا التراث إلى قسمين، ينظر لكل واحد منهما نظرة تختلف عن الآخر، ويتعامل معه تعاملًا مغايرًا للتعامل مع الآخر، فالإنجاز البشري والحضاري والثقافي قابل للنقد والانتقاء، وتوظيفه لخدمة الوضعية المعاصرة التي تقتضيها المصلحة، إن كان في دائرة العفو الشرعي، أما ما تناوله أو أشار إليه الشرع دون ورود بينات من نص أو إجماع أو قياس جلي، فإن معيار النقد فيه هو موافقة الأدلة الشرعية وقواعد الاجتهاد الصحيح وأصوله، أما الوحي كتابًا وسنة بوصفهما أدلة منشئة، ويلحقهما الإجماع والقياس الجلي بوصفهما أدلة كاشفة، فإنه يتلقى ليتكيف الواقع به، وعلى النقيض فعند الحداثيين أن القرآن والسنة جزء من التراث غير مقدس! متأثرين بالتجربة الأوروبية الغربية في تعاملها مع النصوص الدينية لديهم التي وقع فيها التحريف.
الرأي الثاني: إخراج الوحي من دائرة التراث
إخراج الوحي من دائرة التراث ابتداءً؛ بحيث ينحصر مصطلح التراث فيما أنتجه الأجداد، عدا الإجماع والقياس الجلي، مما ينفي عن التراث قداسة التعالي عن النقد، وما عفا عنه الشرع كانت المصلحة المعاصرة مقدمة فيه، وما دخل في دائرة التكليف الشرعي كان معيار النقد فيه وفقا لضوابط الاجتهاد الشرعي وقواعده، أي: ضرورة الفصل بين الإسلام من حيث إنه دين وعقيدة، وبين الإسلام من حيث هو تراث وحضارة، ومِن ثَمَّ فالإسلام ذاته تعاليم موحاة ليس تراثًا، وإنما تراث الإسلام هو التراث الديني المتمثل في عطاء العلماء في مختلف الفنون.
لا مشاحة في الاصطلاح
وأضاف: «السلفية لا ترى مشاحة في الاصطلاح ما دام مضمون المصطلح متسقًا مع المنهج الإسلامي؛ من حيث موقع الوحي، ومع الجهد البشري في دائرة التراث، ومع ذلك أرى أن الأولى الأخذ بالرأي الثاني، حتى وإن صح لغة إطلاق التراث على الوحي؛ تجنبًا لما يحمله مصطلح التراث في هذا العصر من سمات النسبية والزمنية، ولا سيما وأن ثقافتنا الإسلامية لم تعد هي المتحكمة بالمجال التداولي للمصطلحات، بل هي -مع الأسف- كثيرًا ما تكون تابعة، وتفاعلها مع الثقافة الغربية التي لا يحمل التراث في لغاتها دلالة التقديس والتعالي على الظرفية والبشرية، يقضي بأن ينأى بالوحي عن إدراجه ضمن التراث.
والوحي ليس المقصود به نصوصه فحسب، بل مقرراته القطعية سندًا ودلالة، حتى وإن تبدت في صياغات بشرية قرَّبها علماء الإسلام في زمن ما للمستوى الفكري والأسلوبي لأهل ذلك الزمن؛ فهذه المقررات لا تأخذ حكم التراث الذي هو صنعة بشرية».
لاتوجد تعليقات