شرح كتاب فضل الإسلام – للشيخ محمد بن عبدالوهاب (20) باب: فطرة الله
بدأ الشيخ هذا الباب بقول الله -تعالى- {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، «فأقم وجهك» أمر يفيد الوجوب، أي أخلص عملك لله -عز وجل-، وأن يكون هذا العمل خالصًا من البدعة.
فإقامة الوجه تعني الإخلاص في العبادة لله -عز وجل-، وتمام الاتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم - الخالي من البدعة، كما قال -تعالى- في الآية الأخرى {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. فإذا اجتمع في عملك هذان الشرطان: الإخلاص والاتباع، كان عملا مقبولا، لكن إذا انتفى شرط من الشرطين سقط العمل وإنْ صحّ الشرط الثاني.
إنما الأعمال بالنيات
فمثلا لو صلى إنسان لله -عز وجل- مخلصًا في ذلك العمل، لكن صلاته ليست كما علمنا النبي -صلى الله عليه وسلم -، فلا تصلح لانتفاء الاتباع، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وشرط الإخلاص ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات» فلابد من هذين الشرطين.
«فأقم وجهك للدين حنيفا» حال كونك مستقيما على هذا الدين، والحنف هو الميل، والحنيف هو المائل عن الشرك القاصد للإيمان، المقبل على الله -عز وجل- والمُعرض عما سواه.
{فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها}
أي أنّ هذا الدين وهذا الإسلام هو الفطرة التي خلق الله -سبحانه وتعالى- عليها جميع الخلق، كل مخلوق خلقه الله -سبحانه وتعالى- على هذه الفطرة، فلا يكون هناك إنسان يُخلق إلا وهو على هذه الفطرة، لكن بعد ذلك ينحرف إما من أبوين، وإما من صديق، وإما من جماعة أو فِرقة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوّدانه أو يُنصّرانه أو يُمجّسانه»، فأصل الخلقة على هذه الفطرة السليمة، لكن الانحراف يطرأ عليه بعد ذلك، كما في حديث مسلم مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم». وذكر الأبوين ليس على سبيل الحصر، إنما على سبيل التمثيل. وإلا فالمؤثرات كثيرة.
{لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ}
لا يستطيع أحد أن يغير فطرة الله -عز وجل-، بل الله -سبحانه وتعالى- خلقه على التوحيد، لا يستطيع أحد أن يغيّر الخلق، لكن يغيّر المخلوق.
وانظر إلى هذه الصياغة القرآنية {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} للمفسرين في تفسير هذا الجزء من الآية قولان: قال بعضهم: لا تبديل لخلق الله خبر في معنى النهي، أي لا تغيّروا دين الله. كما يقول الأب لابنه مثلا: لا خروج بعد الساعة التاسعة. هذا خبر، لكن الابن يفهم أن هذا نهي من أبيه، وبعضهم فسّر قائلا: إنه لا يقدر أحد أن يغيّر ما قدّر الله -سبحانه وتعالى- لهذا المخلوق إن خيرًا فخير، وإن شرًا فَشَر.
{ذلكَ الدِّينُ القَيِّمُ}
يعني هذا هو الدين الذي أوحاه الله -سبحانه وتعالى- إليك، الذي هو على العبادة الصحيحة وعلى التوحيد الصحيح، والقيّم أي المستقيم المعتدل، لا اعوجاج فيه، كما قال -تعالى- {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} صراط مستقيم، وسط بين الإفراط والتفريط، وبين الغلو والجفاء، فطرة سليمة على التوحيد الصحيح، ثم يأتي الانحراف بعد ذلك، ثم قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أي يجهلون، لو أن الإنسان يتعلم دينه الصحيح ما انحرف عن هذه الفطرة السليمة لكنه لا يتعلم، يهتم بأمور كثيرة في هذه الحياة وآخر شيء يهتم به هو دينه، وهذا من البلاء الذي عليه كثير من الناس والغفلة، لذلك فطرته تتشوّه بأقل طارئ عليها لأنه لم يتعلم، ولم يحرص على البيئة الصحيحة السليمة والقرب من العلماء وأهل الحق والمنهج الصحيح. فينشغل بأمور الحياة التي هي بعيدة عن العلم الصحيح، أو يغرق في المعاصي أو يتخذ له منهجا باطلا أو جماعة باطلة.
فائدة: الكثرة ليست مقياس الحق
وهنا أيضا فائدة: أنَّ الكثرة ليست مقياس الحق كما يظن كثير من الناس، وكما في البخاري قال: «يا آدم أَخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمئة وتسعة وتسعين»، وهذا يعني أنّ واحدا على الحق والباقي في النار، ويقول الله -سبحانه وتعالى- كما في سورة يوسف: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}؛ فالإنسان يحرص على دينه وعلى فطرته السليمة من التشويه والتغيير والتبديل، فليس المقياس الكثرة، بل المقياس هو المنهج الحق، قال الله، قال رسوله بفهم السلف، هذه هي الفطرة السليمة التي خُلِقْت عليها، لكن لما أتيت إلى الدنيا تشوهت هذه الفطرة بالمؤثرات السلبية، من: أبوين، أو من بيئة، أو من صديق، أو غير ذلك، فلا يُحتج بالكثرة على الحق أبدًا.
ملة إبراهيم هي دين الأنبياء
ثم قال: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}، فالضمير هنا عائد على ملة إبراهيم التي هي دين الأنبياء كلهم، وصى إبراهيم أبناءه عليها، وكذلك يعقوب وصى أبناءه، والتوصية هي العهد المؤكد في الأمر العام يلتزم به مَن بعدك، وقد تكون الوصية في أمور الدنيا أو في أمور الآخرة، كثير من الناس يحرص على أمور الدنيا، أما الأنبياء فكانوا يهتمون بالعقيدة والتوحيد وإفراد الله بالعبادة وأمور الآخرة كما فعل إبراهيم ويعقوب -عليهما السلام-، فينبغي إذا حضر الإنسانَ الموتُ أن يوصي أبناءه بالصلاة والصيام والتوحيد والأخلاق، كما أنه لا بأس أن يوصي بأمور الدنيا المباحة، وهذه الآية دعوة للاقتداء بأبينا إبراهيم ويعقوب -عليهما السلام.
دين الإسلام هو الدين الحق
والأديان في هذه الدنيا كثيرة، والمناهج والأفكار والمعبودات كثيرة، لكن انظر إلى هذه الآية {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}، هذا الدين الحق -دين الإسلام- ملة سيدنا إبراهيم، كتاب الله وسنة نبينا محمد -[-، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، هذه وصية للتمسك بالدين في كل لحظة من لحظات الحياة، والحرص ألا يغفل الإنسان عن ذلك، وفيها حث على الثبات على هذا الدين.
العبرة بالخواتيم
وفيها أيضا أن العبرة بالخواتيم، فلو أنك عشت مئة سنة على هذا المنهج ثم في آخر حياتك فُتنت عنه فهذا هو الخسران المبين، وهذا ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها قيد ذراع، فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلى ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها». فلابد للإنسان أن يتعاهد نفسه، هل أنا على فعل الخير؟ حتى إذا ما أتاه الموت يكون على خاتمة سعيدة، ولا يكون على خاتمة تعيسة والعياذ بالله.
ثم قال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، هذا ما أوحاه الله -سبحانه وتعالى- لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يكون على ملة إبراهيم، فهذا الدين الذي ندين به لله -دين الإسلام- هو ملة سيدنا إبراهيم، وهو دين الأنبياء جميعا، فالله أوحى إلى نبيه أن ملة إبراهيم هي دينك، وهي التي ستدعو إليها الناس، وأن يتمسكوا بها ويجاهدوا في سبيلها.
لاتوجد تعليقات