الشريف: حرص الإسلام على بناء شخصية المسلم بناءً متكاملاً في عقيدته وعبادته وفكره وسلوكه
حرص الإسلام في تعاليمه وتشريعاته على بناء شخصية للمسلم بناءً متكاملاً، سواء في عقيدته أم في عبادته أم في سلوكه أم في فكره؛ فالمسلم يحمل أعظم رسالة، وأكمل دين، وقد اختاره الله -عز وجل- لكى يكون أمينا على هذا الدين، الذي هو سبيل السعادة في الدنيا والآخرة، وهذا يتطلب من المسلم أن يكون ذا شخصية متميزة متفردة حتى يستطيع نشر الحق الذى معه، وتعليمه لكل من حاد عن طريقه، وبعد عن سبيله، لذلك كان هذا الحوار مع الداعية والمربي الشيخ: إيهاب الشريف للتعرف على أسس بناء الشخصية المسلمة.
- ما جوانب بناء الشخصية المسلمة؟ وكيف يمكن تحقيقها؟
- هناك مجموعة من المقومات والمباديء والقيم الأساسية لابد مِن وجودها في الشخصية المسلمة، وإلا كانت النتوءات، وكان الخلل في ذلك البناء، وهذه القيم والمبادئ هي التي تميز المسلم الحق عن غيره، فشرفه وعزته ومكانته مرتبطة بهذه القيم، وإذا فرط في شيء منها انتقص ما يقابل ذلك، فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ومن أهم الأسس التي يمكن من خلالها بناء الشخصية المسلمة بناءً متكاملاً ما يلي:
البناء العلمي
أول كلمة من الوحي نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت: {اقْرَأْ} (العلق: 1)، وقد وردت في القرآن العظيم الكثير من الآيات التي تحثُّ على العلم وترغِّب فيه، وكذلك جاءت في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - نصوص كثيرة تأمر بطلب العلم وتجعله سبيلًا وطريقًا إلى الجنة، والعلم منه الواجب الفرض كتعلم الإسلام والإيمان والإحسان، وما يلزم المسلم من تعلُّم ما تصح به عقيدته وعبادته ومعاملته، وما تزكو به نفسه وتتطهر من الأمراض والآفات القلبية والصدرية، ومنه ما هو مستحب، من فروض الكفايات التي إن تحقق الواجب بمن يقوم بها من المسلمين سقط الحرج عن الباقين.
البناء الإيماني
ونعني به تحقيق قوله -تعالى-: (ويزكيهم)، والتزكية نماء وطهارة، وزيادة الإيمان في القلب تكون بالاعتناء بالأعمال القلبية (التحلية)، ويتبع ذلك التحلي بالأخلاق الطبية، وكذلك تكون بتنقية القلب من الآفات، وعلاجه مِن الأمراض المهلكة: كالكبر والعجب، والرياء، والنفاق، والحقد، والحسد، وما يتبع ذلك من التخلي عن الأخلاق المذمومة، فهذا البناء الإيماني يقوم على الإحسان فيما بين العبد وبين ربه، وفيما بينه وبين الناس، ومن ثمرات ذلك: إصلاح العبادات وتجويد الفرائض، والاجتهاد في فعل النوافل بحسب الطاقة، فيكون زادًا لمواجهة الشهوات واتقاء الفتن.
والبناء الفكري
ويعتني فيه المسلم بسبل مواجهة الشبهات: كالأفكار التكفيرية، أو فكر المرجئة، وكذا سائر الفرق المنحرفة القديمة والمعاصرة، التي أصولها الفِرق النارية: كالجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، إلخ، وكذلك مواجهة التنصير، والعلمانية، والإلحاد، والشذوذ، وغير ذلك، فيُحصِّن المسلم نفسه بدراسة بعض القضايا المنهجية التي تضبط بوصلته الفكرية؛ ليكون على منهج السلف ويلزم طريقهم.
الجانب الدعوي
وجانب آخر لبناء الشخصية المسلمة، ألا وهو: (الجانب الدعوي)، وهو ما كُلِّفت به هذه الأمة، بل نالت لأجله الخيرية العظيمة على سائر الأمم، كما قال الله -تبارك وتعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110)، فأمتنا من وظائفها: إخراج الناس -بإذن ربهم- مِن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومَن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومِن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة؛ فلابد أن يتحمل المسلم المسؤولية في ذلك قَدْر استطاعته وطاقته، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» (رواه مسلم).
- ما منزلة العلم الشرعي في الدعوة إلى الله؟
- العلم الشرعي مرتكز أساسي في الدعوة إلى الله -تعالى-، وبهذا نزل القرآن العظيم، كما في قول الله -تبارك وتعالى-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108)، وإذا فُقِد العلم، فإلامَ ندعو؟ وكيف تتحقق العبودية مع الجهل؟ وبمَ نبدأ في دعوتنا إلى الله؟ وكيف تستمر هذه الدعوة دون العلم؟
فكل ذلك مفتقِر إلى العلم الشرعي، وكذا لا شك في أهمية العلم بالواقع وأحوال المدعوين، وربما أفسد من تصدَّر للدعوة والتعليم؛ من حيث أراد الإصلاح فأضر نفسه وغيره، ويظهر ذلك واضحًا جليًّا في حديث الرجل الذي «قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً» (رواه مسلم).
فهذا الراهب في الحقيقة إنما قتله جهلُه؛ لأنه أفتى بغير عِلْم، وكم في الواقع من فتنٍ خاض فيها كثيرٌ من الناس! وذلك لفقد البصيرة، وصدق الحسن البصري -رحمه الله-؛ إذ قال: «الفتنة إذا أقبلت عرفها كلُّ عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل»؛ فالداعي لا يستغني عن العلم أبدًا ليحسن القيام بواجب الدعوة إلى الله -عز وجل- والقيام بحقها.
- هل هناك تعارض بين الانشغال بطلب العلم وبين الدعوة إلى الله؟
- بعض الناس ربما ظن أن هناك تعارضًا بين الانشغال بتحصيل العلم وبين الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، وهذا خطأ وغير صحيح بالمرة؛ فلا يقال إما أن يطلب الإنسان العلم وإما أن يكون داعيًا إلى الله -عز وجل-؛ إذ لا يصح أن ينشغل المسلم بتحصيل العلم وإصلاح نفسه ويترك الناس والعالم من حوله؛ فلا ينصح ولا يذكِّر بالله، ولا يدعو إلى الله، كما أنه لا يصح أن يتصدَّر للدعوة -بحالٍ مِن الأحوال- إلا مَن تضطلع بالعلم الشرعي، وكان عارفًا بالمعروف الذي يدعو إليه، والمنكر الذي ينهى عنه؛ وإلا فلربما أمر بالمنكر من حيث يظنه معروفًا وخيرًا، ونهى عن المعروف من حيث يظنه شرًّا ومنكرًا!
وهناك ارتباط بين العلم والدعوة بلا شك؛ فالداعي عليه أن يعمل بما علم من الحق والخير، ويدعو الناس إلى ذلك، وممارسة الدعوة إلى الله من أسباب تثبيت العلم، بل وزيادته كذلك، ويفتح الله على الداعي المجتهد أبوابًا من العلم الشرعي ويوفقه إلى إدراك ما كان خافيًا عليه.
فلابد إذًا من الموازنة بين طلب العلم وتحصيله وبين النشاط والحركة الدعوية؛ حتى لا يطغى جانب على آخر، وكم رأينا وسمعنا عن شباب تصدَّروا قبل أن يتأهلوا بالعلم الشرعي فحرموا خيرًا كثيرًا، وأضروا من حيث أرادوا أن ينفعوا.
- في ظل الانفتاح الإعلامي المعاصر، وانتشار الوسائل الإعلامية المختلفة ومواقع التواصل المتعددة، كيف يمكن استثمار ذلك في الدعوة إلى الله؟
- في الحقيقة إن واقعنا المعاصر يشهد بالفعل انفتاحًا إعلاميًّا غير مسبوق، وليس له نظير في تقدَّم في العصور الماضية، ولا شك أن هذا كما له أضراره، فله فوائده أيضًا، وعلى الدعاة إلى الله استثمار ذلك الانفتاح في الدعوة إلى الله -عز وجل-، وخدمة دين الله -تبارك وتعالى-، وذلك باستغلال هذا الانفتاح الإعلامي فيما يلي:
- أولاً: خدمة التراث الإسلامي ونشر علوم علماء أهل السنة والجماعة؛ إذ كثير من العلماء والدُّعَاة بحاجة إلى خدمة تراثهم، وإظهاره إلى النور، وذلك من خلال تصميم المواقع، والبرامج التي تيسر وصول هذا العلم إلى الناس، ولا شك أن هذا يتطلب جهدًا جهيدًا لعالمٍ واحدٍ، فكيف بسائر العلماء والدعاة؟! وهناك الكثير من الكتب الشرعية المشروحة طواها النسيان مع شدة الحاجة إليها، والسبب -إضافة إلى ضعف الإمكانيات- هو خذلان طلاب العلم كذلك، وتقصيرهم في القيام بواجبهم تجاه أهل العلم الذين بذلوا أوقاتهم وأعمارهم في الدعوة إلى الله وتيسير فهم الكتاب والسنة على عموم المسلمين.
- ثانيًا: إنشاء الحسابات النافعة المفيدة التي تمس واقع الناس، وتجذب المتابعين للاشتراك والمتابعة، كصفحات الفتاوى، وحل المشكلات من خلال أهل الاختصاص في المجالات المختلفة كالمجال الأسري أو الاقتصادي، وغير ذلك وَفْق منظور الشرع الشريف.
- ثالثًا: مراعاة ما يحتاجه الشباب في طريقة التواصل كي لا نكون سببَ انصرافٍ لهم عن الطلب والتحصيل، مع الانتباه إلى أهمية التدرج.
- رابعًا: عدم إهمال الناشئة؛ إذ كثير مِن الوسائل تخاطب ذوي الأسنان من الناس، أما المراحل العمرية الأولى فقَلَّما توجد أدبيات منضبطة تخاطبهم (ذكورًا وإناثًا).
- خامسًا: حصر المواقع والصفحات التي تبث الشبهات والانحراف بين المسلمين، وإعداد الردود الرادعة لهؤلاء مِن قِبَل أهل الاختصاص.
- سادسًا: حسن الاستفادة من وسائل التواصل في نشر العلم الشرعي والدعوة إلى الله، مع الاعتناء بالجوانب التربوية الإيمانية عن طريق نشر المحاضرات النافعة، أو المقاطع المؤثرة، والكلمات المفيدة.
- سابعًا: مَن كان يحسن اللغات المختلفة، فعليه أن يستغل ذلك في الدعوة إلى الله بحسب قدرته وإمكاناته؛ فكم من الأعاجم بحاجة إلى ذلك!
- ما أهم معوقات الالتزام والاستقامة في زمننا المعاصر في رأيك؟
- في الحقيقة معوقات الالتزام والاستقامة في زماننا كثيرة ومتنوعة -مع الأسف الشديد-، وهي معوقات داخلية ومعوقات خارجية، وهذه وتلك تختلف من مكان إلى آخر، وتتنوع من بلدٍ إلى بلدٍ، لكن من الأهمية بمكان التركيز على المعوقات الداخلية، أعني المعوقات الذاتية التي تكون من داخل الإنسان.
أولاً: المعوقات الداخلية
مِن المعوقات الداخلية الخطيرة: النفس الأمارة بالسوء، كما قال الله -تعالى-: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} (يوسف: 53)، والنجاة من هذه النفس الأمارة، تكون باستعانة العبد بربه -عز وجل-، والتضرع إليه بالدعاء وطلب النجاة، مع الأخذ بأسباب المجاهدة ليصل العبد بنفسه إلى وصف النفس المطمئنة.
ومن المعوقات الخطيرة الصارفة للعبد عن الالتزام والاستقامة: الشيطان، الذي أخذ العهد على نفسه أن يغوي الناس ويصدهم عن سبيل الله، كما ذكر الله عنه في القرآن العظيم: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص: 82)، والنجاة من كيد الشيطان ووسوسته تكون باستعاذة العبد بالله من كيده وشره، وتكميل العبودية لله -تعالى- حتى يُحفظ من شره، وأن يخلص العبد في أقواله وأفعاله لربه -تبارك وتعالى-؛ فالشيطان هو المعترف بذلك؛ حيث قال: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص: 83)، وعلى العبد كذلك أن يتعرَّف على مداخل الشيطان إلى نفس الإنسان كي يتقي شره، وقد أخبر الله -عز وجل- عن الشيطان أنه قال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } (الأعراف: 17)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تعالى-: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أي: أشككهم في آخرتهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: أرغبهم في دنياهم. {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: أشبِّه عليهم أمر دينهم. {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}: أشهي لهم المعاصي. (انظر تفسير ابن كثير).
اتباع الهوى
كذلك من المعوقات الداخلية اتباع الهوى: وما سمي الهوى كذلك إلا لأنه يهوي بصاحبه ويهلكه، قال الله -عز وجل- مبينًا خطر اتباع الهوى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23)؛ لأن صاحب الهوى إنما يأتمر بأمر هواه لا بأمر مولاه -تبارك وتعالى-؛ فما استحسنه من شيء فعله، وما رآه في رأيه قبيحًا تركه؛ فهو لا ينظر إلى ما يرضي الله أو يسخطه، بل ينظر إلى ما يمليه عليه هواه.
العادات والتقاليد المخالفة للكتاب والسنة
ومن المعوقات كذلك: (العادات والتقاليد المخالفة للكتاب والسنة): لأن التأثر بالعادات والتقاليد والاستسلام لها، يجعل العبد أسيرًا لها، ولربما كانت الانتكاسة بسبب قوة هذه العادات والتقاليد في نفس الإنسان.
ثانيًا: معوقات خارجية
ثم هناك معوقات خارجية كواقع المجتمع حول الملتزم، فهناك البيئة المشجِّعة على الطاعة وهناك البيئة المثبطة، وهناك القرية الطيبة وقرية السوء، كما قال العَالِم لقاتل المائة نفس: «انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ» (رواه مسلم).
وهناك مجتمعات تقاوم مظاهر الالتزام وتسلك مسالك متنوعة نحو أهله، فما بين صابر قابض على الجمر وبين مستسلم، وبين وبين، والله المستعان.
صحبة السوء
ومن أخطر المعوقات: الصحبة؛ إذ المرء على دين خليله، والمهدي من هداه الله، وعلى العبد أن يأخذ بأسباب الهداية متوكلًا على ربِّه مؤمِّلًا في وعده: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69).
لاتوجد تعليقات