قواعد في الولايات العامة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية (2)
ما زلنا في استعراض قواعد وفوائد من كتاب: (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) لشيخ الإسلام أبي العباس أحمد ابن تيمية -رحمه الله -تعالى--، تتعلق بالولايات الشرعية واجباتٍ وحقوقا مرعية، على اختلاف طبقاتها ومستوياتها في الدولة الإسلامية، وقد ذكرنا في الحلقة الماضية ثماني قواعد، وهي: الولاية أمانة، والولايةُ تكليفٌ وليست بتشريفٍ، وابتلاءٌ فلا يستشرف لها، ووجوب معرفة مقاصد الولاية ووسائلها، والولايةُ من أعظم واجبات الدين، والولايةُ نيابةٌ ووكالةٌ، ووجوب اختيار الأصلح فالأصلح في الولاية، ويجوز العُدول عن الأصلح لمن هو دونه لمصلحة راجحة، والولايةُ لها ركنان: القوة والأمانة.
القاعدة التاسعة: إن تعذّر الأصلح فالأَمثَلُ الأَمثل
طلبُ الكمال في الولاية متعذّر، ولا سيما في العصور المتأخرة، فينبغي اختيار الأَمثَلِ فَالأَمثَل، وهذا الاختيار كل بحسبه، ومن هنا لا بد من مراعاة قاعدة الموازنات بين الحسنات والسيئات، والمصالح والمفاسد، قال شيخ الإسلام في (السياسة الشرعية ص: 12): «إذا عُرف هذا، فليس عليه أن يستعمل إلا أصلحَ الموجود، وقد لا يكون في موجوده من هو أصلح لتلك الولاية، فيختاُر الأَمثَل فالأَمثَل في كل منصبٍ بحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام، وأخذِه للولاية بحقها، فقد أدى الأمانة، وقام بالواجب في هذا، وصار في هذا الموضع من أئمة العدل المقسطين عند الله، وإن اختلّ بعض الأمور بسببٍ من غيره، إذا لم يمكن إلا ذلك، فإن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16). ويقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286)؛ فمن أدَّى الواجبَ المقدورَ عليه فقد اهتدى، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَمرتُكُمْ بِأَمرٍ فَأتُوا مِنهُ ما استَطَعتُم» أخرجاه في الصحيحين؛ لكن إن كان منه عجزٌ بلا حاجة إليه، أو خيانة عُوقب على ذلك» انتهى.
القاعدة العاشرة: فإن تعذَّرت الصفاتُ في واحدٍ جُمع بين عددٍ
وإذا تعذرت الصفات أن تجتمع في واحد فلا مانع من اجتماعها في عدد، وهذه هي القيادة الجماعية، وقد كان لشيخ الإسلام السبق في الإشارة إلى هذه المسألة، قال في (السياسة الشرعية ص: 17): «وهكذا في سائر الولايات: إذا لم تتم المصلحة بِرجلٍ واحدٍ جَمَعَ بين عدد؛ فلا بد من ترجيحِ الأصلح، أو تَعَدُّد المولَّى، إذا لم تقع الكفاية بواحدٍ تام» انتهى.
القاعدة الحادية عشرة: قيامُ الدين بالناقص وتلافي النقص بالإعداد
الدينُ تارةً يقوم بأهل الدين الكامل، وتارةً بأهل الدين الناقص، ولا سيما في المصالح العامة، كما في الصحيحين عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله لَيُؤيِّدُ هذا الدينَ بالرَّجُلِ الفَاجرِ» أخرجه البخاري، وهذا بخلاف المصالح الخاصة، ولكن يجب تلافي النقص بالإعداد، وهو ما يُسمَّى اليوم بإعداد الكوادر.
قال شيخ الإسلام في (السياسة الشرعية ص: 18): «ومع أنه يجوز تولية غيرِ الأهلِ للضرورة، إذا كان أصلحَ الموجود، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال، حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم منه، من أمورِ الولايات والإمارات ونحوها، كما يجبُ على المُعسر السعي في وفاء دينه، وإن كان في الحال لا يُطلب منه إلا ما يقدر عليه، وكما يجب الاستعداد للجهاد، بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز؛ فإنَّ ما لا يتمُ الواجب إلا به فهو واجب، بخلافِ الاستطاعة في الحج ونحوها؛ فإنه لا يجب تحصيلها، لأن الوجوب هنا لا يتم إلا بها» انتهى.
القاعدة الثانية عشرة: اقترانُ الصفات
يجبُ الحرص على اجتماع الصفات المتقابلة المتكاملة، واقترانها -قدر الإمكان- في الولاة، سواء كان في الرجل الواحد أم في رجال متعددين متكاملين، فإنَّ الكمال والوسطية والاعتدال لا يتحقق إلا بذلك، وينبغي كذلك ملاحظة التكامل بين الوالي ونائبه، فإن كان الوالي يغلب عليه الشدّةُ فينبغي أن يكون نائبُه ليناً وبالعكس.
قال شيخ الإسلام في (السياسة الشرعية ص: 16): «وهكذا أبو بكر - رضي الله عنه - خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما زال يستعمل خالداً في حرب أهل الردة، وفي فتوح العراق والشام، وبَدَت منه هفوات كان له فيها تأويل، وقد ذُكر له عنه أنه كان له فيها هوى، فلم يعزله من أجلها؛ بل عاتبه عليها لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه، وأنّ غيره لم يكن يقوم مقامه؛ لأن المتولي الكبير، إذا كان خُلُقُه يميل إلى اللين، فينبغي أن يكون خُلُق نائبه يميل إلى الشدّة؛ وإذا كان خُلُقُه يميل إلى الشدّة، فينبغي أن يكون خُلُق نائبه يميل إلى اللين؛ ليعتدل الأمر.
ولهذا كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يُؤثِر استنابة خالد، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يُؤثر عزل خالد، واستنابة أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -؛ لأن خالدا ًكان شديداً كعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة كان لينا ًكأبي بكر، وكان الأصلح لكل منهما أن يولي من ولاه؛ ليكون أمره معتدلاً، ويكون بذلك من خلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، أَنَا نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ»، وأمته وسط، قال الله -تعالى- فيهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (الفتح: 29). وقال -تعالى-: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (المائدة: 54).
القاعدة الثالثة عشرة: تولي الولايات بين الإفراط والتفريط
قضية تولي الولايات: الناس فيها بين إفراط وتفريط، وإقدام وإحجام، وينبغي أن نعلم أن التخفيف من الظلم مع حسن القصد من الجهاد في سبيل الله، ولا سيما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم، فهو من باب قوله -تعالى-: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2).
وهو في هذا الأمر وكيل للمظلوم وليس للظالم، قال شيخ الإسلام في (السياسة الشرعية ص: 40-41): «والمُعين على الإثم والعدوان من أعانَ الظالم على ظلمه، أما من أعانَ المظلوم على تخفيف الظلم عنه، أو على أداء المَظلَمة: فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم بمنزلة الذي يُقرضه، أو الذي يتوكَّل في حمل المال له إلى الظالم.
مثال ذلك ولي اليتيم والوقف، إذا طلب ظالم منه مالا فاجتهد في دفع ذلك بمال أقل منه إليه، أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع فهو محسن، وما على المحسنين من سبيل.
وكذلك وكيل المالك من المنادين والكُتَّاب وغيرهم، الذي يتوكل لهم في العقد والقبض، ودفع ما يُطلب منهم؛ لا يتوكل للظالمين في الأخذ.
وكذلك لو وُضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة فتوسَّط رجل منهم محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان وقسَّطها بينهم على قدر طاقتهم، من غير محاباة لنفسه ولا لغيره، ولا ارتشاء، بل توكَّل لهم في الدفع عنهم، والإعطاء كان محسناً، لكن الغالب أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابياً مرتشياً مخفراً لمن يريد، وآخذاً ممن يريد، وهذا من أكبر الظلمة، الذين يحشرون في توابيت من نار، هم وأعوانهم وأشباههم، ثم يقذفون في النار» انتهى.
لاتوجد تعليقات