الوقف في تراث الآل والأصحاب (7) أوقـــــاف الصحابة رضي الله عنهم
هذه سلسلة مقالات نسلط فيها الضوء على أوقاف آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعرضِ أنواع الأوقاف ومجالاتها، وآثارها في الدين والمجتمع، مع ذكر جملة من المقاصد الشرعية والفوائد الفقهية في أوقاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوقاف آله وصحبه -رضي الله عنهم-، جمعنا فيها ما رُوي من الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، والدالة على حرص الآل والصحب الكرام -رضي الله عنهم- على الامتثال التامّ لتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بذل المال واحتباس الأصول، وقفًا تنتفع به الأمة الإسلامية، وتنال به عظيم الأجر والثواب.
وقف الزبير بن العوّام - رضي الله عنه
عن عروة بن الزبير- رضي الله عنه - قال: إنّ الزبير - رضي الله عنه - «جعل دُوْرَه صدقةً على بنيه، لا تباع ولا تورث، وأنّ للمردودةِ من بناتِه أنْ تسكن غيرَ مُضِرَّةٍ ولا مُضَرٍّ بها، فإن هي استغنت بزوج، فلا حقّ لها»، وروى البيهقي عن الحُمَيْدِي ما يُفيدُ بأنّ أوقافَ الزبير كانت كثيرةً مشهورةً وباقيةً إلى وقته، قال: «وتصدّق الزبير بن العوّام - رضي الله عنه - بداره بمكة في الحراميّةِ، ودارَه بمصر، وأموالَه بالمدينةِ على ولدِه، فذلك إلى اليوم»، وواضحٌ من هاتين الرّوايتين أنّ وقف الزبير - رضي الله عنه - كان على ذريّته.
وقف سعد بن أبي وقّاص - رضي الله عنه
عن عامر بن سعد، عن أبيه -رضي الله عنهما- قال: عادني النبي - صلى الله عليه وسلم - في حَجّة الوداع، من وجع أشفَيْتُ منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثُلُثَيْ مالي؟ قال: «لا». قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: «لا». قلت: فالثلث؟ قال: «والثلث كثير، إنّك أنْ تَذَرَ ورَثَتَك أغنياء، خير من أنْ تَذَرَهم عالَةً يتكفّفون النّاس، ولستَ تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ بها، حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك». قلت: يا رسول الله، أأخَلَّفُ بعد أصحابي؟ قال: «إنّك لن تُخَلَّفَ، فتعمل عملًا تبتغي به وجه الله، إلا ازدَدْت به درجة ورفعة، ولعلّك تُخَلَّفُ حتى ينتفع بك أقوام ويُضَرَّ بك آخرون، اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردّهم على أعقابهم، لكن البائس سعد ابن خولة»، رثى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ توفّي بمكة.
والواقعُ يشهدُ أنّ سعدًا - رضي الله عنه - أخذَ الصدقةَ على عمومها، فلم يجعل تَصَدُّقَه قاصراً على بذل المال بتمليكِ رقبتِه إلى الغير، بل أدخلَ في ذلك الوقف، فحبسَ دُوْرَه على ولدِه، قال الحميدي: «وتصدّق سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - بداره بالمدينة وبداره بمصر على ولده، فذلك إلى اليوم»، وهذا وقفٌ على الذريّة كما هو واضحٌ، وقد تعلّقت بهذا الوقف واقعةٌ ذكرها الخصاف -بسنده-، عن الواقديّ، قال: حدّثنا محمد بن نجاد بن موسى بن سعد بن أبي وقّاص، عن عائشة بن سعد قالت: صدقةُ أبي حبسٌ لا تباع ولا توهب ولا تورث، وأنّ للمردودة من ولده أن تسكن غير مُضِرَّةٍ ولا مُضَرٍّ بها، حتى تستغني، قال الواقدي: فتكلّم فيها بعض وَرَثَتِه يجعلونَها ميراثًا، فاختصموا إلى مروان بن الحكم، فجمع لها أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنفذها على ما صنع سعد.
وقف أنس بن مالك - رضي الله عنه
وقَفَ أنس - رضي الله عنه - داراً له بالمدينةِ، فكانَ إذا حَجَّ مرَّ بالمدينةِ فنزل دارَه، قال البخاري: «وأَوْقَفَ أنسٌ داراً، فكان إذا قَدِمَ نزلها». قال الحافظ -موضّحًا دَلالةَ فعلِ أنسٍ وصِلتَه بترجمة البخاري المذكورة في الهامش-: «هذه الترجمةُ معقودةٌ لمن يشترط لنفسِه من وقْفِه منفعةً، وقد قيّد بعض العلماء الجوازَ بما إذا كانت المنفعةُ عامَّةً... وهو موافق لما تقدّم عن المالكيّة أنّه يجوز أنْ يَقِفَ الدّار ويستثني لنفسِه منها بيتًا».
والحافظُ بالإحالةِ على المالكيّة يُشيرُ إلى مسألة مُثارةٍ عندهم، وهي أنّ الوقْف عندهم وعند غيرهم يحتاجُ إلى أن يُحازَ عن الواقف ويخرج عن يده، كما قال اللّخمي: «الأحباسُ تفتقرُ إلى حَوْزٍ، كالهبات»، وقال ابن رشد: «الحيازةُ من تمام التّحبيس التي لا يصحّ القضاء به دونَها؛ إذ لا يصحّ لحاكم أن يحكم بمعيَّن إلا بعد أن يتعيّن عنده بالحيازة، هذا ما لا اختلاف فيه ولا ارتياب في صحّته».
وبناءً على هذا، فقد ثارت مسألةُ ما إذا وَقَفَ الإنسانُ على من في حَجْرِهِ وتحت ولايته، فهل يلزمُ أنْ يقبضَ نيابةً عنه ويصحُّ قبضُه؟ أم لا بدّ من إخراجه عن يده؟ وممّا ترتّب على ذلك أيضاً: ما إذا وَقَفَ على وجهٍ، ثمّ أرادَ أن ينتفع مع النّاسِ في ذلك الوجه، فهل يصحُّ ذلك؟ أم يكونُ ذلكَ إبطالاً منه للحيازةِ، ومن ثم رجوعاً منه في الوقف؟ هذا الذي أشار إليه الحافظ، وهو الذي يقرّر ابن رشد وغيره صحّته، كما في قوله: «مسألة: قال مالك: من حبس دارًا في سبيل الله، أو سلاحًا، أو دابّةً، فأنفَذَ ذلك في تلك الوجوه زمانًا، ثم أراد أن ينتفع به مع الناس، قال: إنْ كان ذلك من حاجةٍ فلا أرى بذلك بأسًا. قولُه: «ثم أراد أن ينتفع به مع الناس»، معناه: ينتفع به فيما سَبَّله فيه من السبيل، لا فيما سِوى ذلك من منافعه، فلهذا لم يَرَ بذلك بأسًا إذا فعل ذلك من حاجة؛ لأن الاختيار فيما جُعِلَ في السبيل ألا يعطى فيه إلاَّ لأهل الحاجة إليه، فإذا احتاج إليه في السبيل فاستعمله فيه لم يكن ذلك رجوعًا منه فيما حبّسه، ولا عَوْدًا منه في صدقته، والله أعلم». ووقف أنسٍ هذا، لم تكشف الروايةُ ما إذا كانت دارُه موقوفةً على ذرّيّته، أو لسُكْنى المحتاجين من أبناء السبيل، ونحو ذلك، فجهة الوقف مبهمة.
وقف جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما
قال الخصّاف: «حدّثنا محمد بن عمر الواقدي، قال: حدّثنا سالم مولى ثابت، عن عمر بن عبد الله العبسي، قال: دخلتُ على محمّد بن جابر بن عبد الله في بيتٍ له، فقلت: حائطُك الذي في موضع كذا وكذا، قال: ذلك حبسٌ من أبي جابر، لا يُباع ولا يُوهب ولا يُورَث». ولم تكشف الروايةُ جهةَ الوقف، إلّا أنّ السائل قال لمحمّد بن جابر: «حائطك» بالإضافةِ إليه، يُشعر أنّه كان مختصًّا به كاختصاصِ المالكِ، وأنّه هو الذي يتولّى أمره، فالأقربُ أنّه وقفٌ من جابر - رضي الله عنه - على ذريّته، والله -تعالى- أعلم.
وقف حكيم بن حزام - رضي الله عنه
قال ابن شبة: «واتّخذ حكيم بن حزام دارَه الشّارعةَ على البلاطِ إلى جنبِ دار مطيع بن الأسود، بينَهما وبين دار معاوية بن أبي سفيان، يحجز بينهما وبين دار معاوية الطريق، فوقَفَها، فهي بأيديهم اليوم. قال أبو غسان: حدّثنا الواقدي، عن عيسى بن محمد، مولى لفاطمة بنت عبيد، عن حكيم بن حزام: أنّه حبس دارَه، لا تُباع ولا توهب ولا تورَث». وهذه الدّار ذكرها ابن شبّة في جملة دُوْر بني أسد التي بالمدينةِ.
وقف خالد بن الوليد - رضي الله عنه
امتدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد - رضي الله عنه - على وقفه أعتُدَه وأدراعه في سبيل الله تعالى، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: أمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بالصّدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، وعبّاس بن عبد المطّلب فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما ينقم ابن جميل إلّا أنّه كان فقيرًا فأغناه اللّه ورسوله، وأمّا خالد: فإنّكم تظلمون خالدًا، قد احتبس أدْرَاعه وأعْتُدَه في سبيل اللّه، وأمّا العبّاس بن عبد المطّلب، فعمّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -، فهي عليه صدقةٌ ومثلُها معها».
الأَعْتُدُ: جمعُ عَتَدٍ، وأَعْتَادٌ جمعٌ للجمعِ (أعتُدِ)، وبه جاء لفظ مسلم، والمعنى: ما يُعدُّه الرجل من الدّوابّ والسّلاح، وقيل: هو الخيل خاصّة. يُقال: فرسٌ عتيدٌ: أي صَلْبٌ، أو مُعَدٌّ للركوب، أو سريع الوثوب.
وعن عمرو بن عبد الله بن عنبسة قال: سمعت محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان يقول: «لم يزل خالد بن الوليد مع أبي عبيدة حتى توفي أبو عبيدة، واستخلف عياض بن غنم الفهري، فلم يزل خالد معه حتى مات عياض بن غنم، فاعتزل خالد إلى ثغر حمص فكان فيه، وحبس خيلاً وسلاحاً، فلم يزل مقيماً مرابطاً بحمص حتى نزل به، فدخل عليه أبو الدرداء عائداً له، فقال خالد بن الوليد: إن خيلي التي حبست في الثغر وسلاحي هو على ما جعلتُه عليه عدة في سبيل الله قوة يُغزَى عليها، وتُعلف من مالي، وداري بالمدينة صدقة حبس لا تباع ولا تورث، وقد كنت أشهدت عليها عمر بن الخطاب ليالي قَدِمَ الجابية، وهو كان أمرني بها، ونعم العون هو على الإسلام».
وقف زيد بن ثابت - رضي الله عنه
أخرج البيهقي -بسنده- عن الإمام مالك - رضي الله عنه -، أنّ زيد بن ثابت - رضي الله عنه - كان قد حبس دارَه التي في البقيع، ودارَه التي عند المسجد، وكتب في كتاب حبسه على ما حبس عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. قال مالك: وحَبْسُ زيد بن ثابت عندي. قال: وكان زيد بن ثابت - رضي الله عنه- يسكن منزلًا في دارِه التي حبس عند المسجد حتى مات فيه.
وقول مالك رحمه الله: «وحَبْس زيد بن ثابت عندي»، يعني أنّ بين يديه كتاب الحَبْس، وقد اطّلع على ما كتبَ زيدٌ - رضي الله عنه -، فهي وِجَادةٌ صحيحةٌ وإنْ لم يَلْقَ مالكٌ زيدًا ولا أدركَه، إذا صحّ السّند إلى مالك، وقد قدّمنا في مواضع سابقةٍ أنّ ثبوت الأوقافِ مبنيٌّ على شاهدَي التاريخ والحسّ والتّسامُع فضلا عن الرواية المسندةِ على رسم المحدّثين، وجهة وقفِ زيدٍ، مستفادةٌ من إحالتِه - رضي الله عنه - على وقفيّة عمر - رضي الله عنه .
لاتوجد تعليقات