مدرسته امتداد لنهج الصحابة الكرام الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب حمى عقيدة أهل السنة من الشرك والخزعبلات
الحديث عن مناقب وسيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب التميمي يحتاج إلى مجلدات، وقد خصص العديد من العلماء تآليف خاصة في هذا الجانب، ونحن لا ننوي ذكر ترجمته، ولكننا نحاول بيان جزء من حياة هذا الإمام الذي يريد الكثير من أهل البدع والفرقة تشويه سمعته، وقد ازداد الهجوم على أئمة الدعوة السلفية في الآونة الأخيرة من قبل أهل البدع والشقاق من خلال تصريحات بعضهم أو بعض الكتابات الصحفية، والسبب وراء هذا التشويه هو معرفتهم أن الدعوة السلفية هي الدعوة الوحيدة التي تستطيع بإذن الله تعالى التخلص من البدع والخزعبلات التي يحاولون نشرها في أوساط المجتمعات الإسلامية بسبب قربها إلى الفطرة السليمة ورفضها تأليه البشر وعبادة غير الله من قبور وأضرحة أو أولياء وغير ذلك مما يروجه أهل البدع في هذه الأيام وفي كل العصور، وفيما يلي نحاول استعراض سيرة الإمام المجدد وأقوال العلماء والمؤرخين عن دعوته.
يقول سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله عن سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب ودعوته: لقد عرف الناس هذا الإمام ولا سيما علماؤهم ورؤساؤهم وكبراؤهم وأعيانهم في الجزيرة العربية وفي خارجها، ولقد كتب الناس عنه كتابات كثيرة ما بين موجز وما بين مطول، ولقد أفرده كثير من الناس بكتابات، حتى المستشرقون كتبوا عنه كتابات كثيرة، وكتب عنه آخرون في أثناء كتاباتهم عن المصلحين وفي أثناء كتاباتهم في التاريخ، ووصفه المنصفون منهم بأنه مصلح عظيم، وبأنه مجدد للإسلام، وبأنه على هدى ونور من ربه، وتعدادهم يشق كثيرا، ومن جملتهم المؤلف الكبير أبو بكر الشيخ حسين بن غنام الأحسائي. فقد كتب عن هذا الشيخ فأجاد وأفاد وذكر دعوته، وسيرته وغزواته، وأطنب في ذلك وكتب كثيرا من رسائله واستنباطاته من كتاب الله عز وجل، ومنهم الشيخ الإمام عثمان بن بشر في كتابه: (عنوان المجد) فقد كتب عن هذا الشيخ، وعن دعوته، وعن سيرته، وعن تاريخ حياته، وعن غزواته وجهاده، ومنهم خارج الجزيرة الدكتور أحمد أمين في كتابه: زعماء الإصلاح، فقد كتب عنه وأنصفه، ومنهم الشيخ الكبير مسعود عالم الندوي، فقد كتب عنه وسماه (المصلح المظلوم) وكتب عن سيرته وأجاد في ذلك. وكتب عنه أيضا آخرون، منهم الشيخ الكبير الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني؛ فقد كان في زمانه وقد كان على دعوته، فلما بلغه دعوة الشيخ سر بها وحمد الله عليها، وكذلك كتب عنه العلامة الكبير الشيخ محمد بن علي الشوكاني صاحب (نيل الأوطار) ورثاه بمرثية عظيمة.
وقد كان أهل نجد قبل دعوة الشيخ على حالة لا يرضاها مؤمن، وكان الشرك الأكبر قد نشأ في نجد وانتشر حتى عبدت القباب وعبدت الأشجار، والأحجار، وعبدت الغيران، وعبد من يدعي الولاية. وهو من المعتوهين، وعبد من دون الله أناس يدعون الولاية وهم مجانين مجاذيب لا عقول عندهم، واشتهر في نجد السحرة والكهنة، وسؤالهم وتصديقهم وليس هناك منكِر إلا من شاء الله، وغلب على الناس الإقبال على الدنيا وشهواتها، وقل القائم لله والناصر لدينه وهكذا في الحرمين الشريفين وفي اليمن اشتهر الشرك وبناء القباب على القبور، ودعاء الأولياء والاستغاثة بهم، وفي اليمن من ذلك الشيء الكثير، وفي بلدان نجد من ذلك ما لا يحصى، ما بين قبر وما بين غار، وبين شجرة وبين مجذوب، أو مجنون يدعى من دون الله ويستغاث به مع الله، وكذلك مما عرف في نجد واشتهر دعاء الجن والاستغاثة بهم وذبح الذبائح لهم وجعلها في الزوايا من البيوت رجاء نجدتهم، وخوف شرهم، فلما رأى الشيخ الإمام هذا الشرك وظهوره في الناس وعدم وجود منكر لذلك وقائم بالدعوة إلى الله في ذلك، شمر عن ساعد الجد وصبر على الدعوة وعرف أنه لا بد من جهاد، وصبر، وتحمل للأذى، فجد في التعليم والتوجيه والإرشاد وهو في العيينة، وفي مكاتبة العلماء في ذلك والمذاكرة معهم رجاء أن يقوموا معه بنصرة دين الله، والمجاهدة لهذا الشرك وهذه الخرافات. فأجاب دعوته كثيرون من علماء نجد وعلماء الحرمين، وعلماء اليمن وغيرهم وكتبوا إليه بالموافقة، وخالف آخرون وعابوا ما دعا إليه وذموه ونفروا عنه وهم بين أمرين: ما بين جاهل خرافي لا يعرف دين الله ولا يعرف توحيد الله، وإنما يعرف ما هو عليه وآباؤه وأجداده من الجهل والضلال والشرك، والبدع، والخرافات، كما قال الله جل وعلا عن أمثال أولئك : {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}.
وطائفة أخرى ممن ينسبون إلى العلم ردوا عليه عنادا وحسدا لئلا يقول العامة : ما بالكم لم تنكروا علينا هذا الشيء؟! لماذا جاء ابن عبد الوهاب وصار على الحق وأنتم علماء ولم تنكروا هذا الباطل؟! فحسدوه وخجلوا من العامة، وأظهروا العناد للحق إيثارا للعاجل على الآجل، واقتداء باليهود في إيثارهم الدنيا على الآخرة، نسأل الله العافية والسلامة.
أما الشيخ فقد صبر وجد في الدعوة، وشجعه من شجعه من العلماء والأعيان في داخل الجزيرة، وفي خارجها، وعزم على ذلك، واستعان بربه عز وجل، وعكف على الكتب النافعة ودرسها وعكف قبل ذلك على كتاب الله، وكانت له اليد الطولى في تفسير كتاب الله، والاستنباط منه، وعكف على سيرة الرسول [ وسيرة أصحابه، وجد في ذلك وتبصر فيه حتى أدرك من ذلك ما أعانه الله به وثبته على الحق، فشمر عن ساعد الجد، وصمم على الدعوة وعلى أن ينشرها بين الناس ويكاتب الأمراء والعلماء في ذلك، وليكن في ذلك ما يكون، فحقق الله له الآمال الطيبة، ونشر به الدعوة، وأيد به الحق، وهيأ الله له أنصارا ومساعدين وأعوانا حتى ظهر دين الله وعلت كلمة الله، فاستمر الشيخ في الدعوة في العيينة بالتعليم والإرشاد، ثم شمر عن ساعد الجد إلى العمل وإزالة الشرك بالفعل لما رأى الدعوة لم تؤثر في بعض الناس، فباشر الدعوة عمليا ليزيل بيده ما تيسر وما أمكن من آثار الشرك.
فقال الشيخ للأمير عثمان بن معمر : لا بد من هدم هذه القبة على قبر زيد - وزيد بن الخطاب رضي الله عنه هو أخو عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله تعالى عن الجميع، وكان من جملة الشهداء في قتال مسيلمة الكذاب في عام 12 من الهجرة النبوية، فكان ممن قتل هناك وبني على قبره قبة فيما يذكرون، وقد يكون قبر غيره، لكنه فيما يذكرون أنه قبره - فوافقه عثمان كما تقدم، وهدمت القبة بحمد الله وزال أثرها إلى اليوم ولله الحمد والمنة، لما هدمت عن نية صالحة، وقصد مستقيم ونصر للحق، وهناك قبور أخرى منها قبر يقال: إنه قبر ضرار بن الأزور كانت عليه قبة هدمت أيضا، وهناك مشاهد أخرى أزالها الله عز وجل، وكانت هناك غيران وأشجار تعبد من دون الله جل وعلا فأزيلت وقضى عليها وحذر الناس عنها.
والمقصود أن الشيخ استمر رحمة الله عليه على الدعوة قولا وعملا كما تقدم.
ويقول سماحته أيضا: فلما اشتهر الشيخ بالدعوة وكتب الكتابات الكثيرة، وألف المؤلفات القيمة، ونشرها في الناس، وكاتبه العلماء، ظهر جماعة كثيرون من حساده، ومن مخالفيه، وظهر أيضا أعداء آخرون، وصار أعداؤه وخصومه قسمين:
قسما عادوه باسم العلم والدين، وقسما عادوه باسم السياسة ولكن تستروا بالعلم، وتستروا باسم الدين، واستغلوا عداوة من عاداه من العلماء الذين أظهروا عداوته وقالوا : إنه على غير الحق، وإنه كيت وكيت.
والشيخ رحمة الله عليه مستمر في الدعوة يزيل الشبه، ويوضح الدليل، ويرشد الناس إلى الحقائق على ما هي عليه من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وطورا يقولون : إنه من الخوارج، وتارة يقولون: يخرق الإجماع، ويدعي الاجتهاد المطلق ولا يبالي بمن قبله من العلماء والفقهاء وتارة يرمونه بأشياء أخرى وما ذاك إلا من قلة العلم من طائفة منهم، وطائفة أخرى قلدت غيرها واعتمدت عليها، وطائفة أخرى خافت على مراكزها فعادته سياسة وتسترت باسم الإسلام والدين واعتمدت أقوال المخرفين والمضللين.
والخصوم في الحقيقة ثلاثة أقسام:
علماء مخرفون يرون الحق باطلا والباطل حقا، ويعتقدون أن البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، ودعاءها من دون الله والاستغاثة بها وما أشبه ذلك دين وهدى، ويعتقدون أن من أنكر ذلك فقد أبغض الصالحين، وأبغض الأولياء، وهو عدو يجب جهاده.
وقسم آخر: من المنسوبين إلى العلم جهلوا حقيقة هذا الرجل، ولم يعرفوا عنه الحق الذي دعا إليه، بل قلدوا غيرهم وصدّقوا ما قيل فيه من الخرافيين المضللين، وظنوا أنهم على هدى فيما نسبوه إليه من بغض الأولياء والأنبياء، ومن معاداتهم، وإنكار كراماتهم؛ فذموا الشيخ، وعابوا ونفروا عنه.
وقسم آخر: خافوا على المناصب والمراتب؛ فعادوه لئلا تمتد أيدي أنصار الدعوة الإسلامية إليهم فتنزلهم عن مراكزهم، وتستولي على بلادهم، واستمرت الحرب الكلامية والمجادلات والمساجلات بين الشيخ وخصومه، يكاتبهم ويكاتبونه، ويجادلهم ويرد عليهم، ويردون عليه، وهكذا جرى بين أبنائه وأحفاده وأنصاره وبين خصوم الدعوة، حتى اجتمع من ذلك رسائل كثيرة، وردود جمة، وقد جمعت هذه الرسائل والفتاوى والردود فبلغت مجلدات، وقد طبع أكثرها والحمد لله.
والخلاصة: أن هذا الإمام الذي هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه إنما قام لإظهار دين الله، وإرشاد الناس إلى توحيد الله، وإنكار ما أدخل الناس فيه من البدع والخرافات، وقام أيضا لإلزام الناس بالحق، وزجرهم عن الباطل، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر.
ويقول الدكتور محمد أمين فرشوخ صاحب (موسوعة عباقرة الإسلام):
شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب. مصلح ديني واجتماعي وسياسي، قام بالدعوة الوهابية في الجزيرة العربية، وهي دعوة سلفية أعادت إلى ممارسة العقيدة الإسلامية نقاوتها وصحّتها كما يفصح عنها الوحي والسنّة.
ولد الشيخ محمد بن عبدالوهاب في العيينة، ولم يدخل الكتاتيب بل درس على والده القرآن واللغة، واستظهر كثيراً من الأحاديث. حتى بات وهو دون العشرين عالماً مقصوداً.
ولما كانت الحياة الاجتماعية والدينية فاسدة، فضلاً عن الجهل المتفشّي، كانت البدع والخرافات عامة : ذبح لغير الله، ونذور للأنصاب، وتوسّل بالموتى، وتّبرك بالأشجار... والعلماء لم يكونوا هادين ومصلحين، بل حائدين عن الإسلام الصافي والخُطى النبوية الشريفة، فقد قام الشيخ محمد يناقش العلماء وينصحهم حتى عنُف الجدال بينهم واحتدّ؛ فكثر مناوئوه مما اضطر والده إلى ترك البلدة إلى حريملاء، ولم يصمد الشيخ الشاب طويلاً حتى غادرها أيضاً إلى مكة.
زار الشيخ محمد مكة، فأدّى فيها فريضة الحج ثم قصد المدينة، وهناك لازم، فترة، العالم ابن سيف، ثم توجّه إلى نجد فالبصرة، ثم عاد إلى حريملاء أكثر علماً ونضجاً وأشد قوّة على الباطل ورجاله. وتوفي أبوه في هذه الفترة كما حاول بعضهم قتله، فاختار أن يعود مع محازبيه إلى العيينة بلده الأصلي.
ولم يظهر في الدعاة والمصلحين الدينيين مثل الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ فمن عرفناهم قبله أو بعده لم تتجاوز آثارهم محيط الفكر المحدود، أو لم يكتب لدعواتهم الانتشار والذيوع. لقد كان الشيخ محمد زاهداً ومتعلماً، لم يستخدم الدعوة قط في سبيل دنيا، بل قام بالدعوة مخلصاً لله، ومَن يطّلع على مؤلفات الشيخ محمد وعلى رسائله يعرف أنه كان كثير العلم واسع الثقافة وإن كان علمه الفقهي منحصراً في آراء الإمامين المجتهدين: ابن تيمية وابن القيم.
وقد وفقّه الله لما صمد له، فأثمرت دعوته وإصلاحه وتجديده وإحياؤه القرآن والسنة أتباعاً كانوا أئمة ودعاة في الفترات التي كانوا فيها، وما يزال أتباعه إلى اليوم كما كانوا بالأمس.
أحداث عديدة ضربت الوهابيين، لكنهم ثبتوا وضحّوا، فقدم إبراهيم باشا بجيش جرّار وغزا به نجداً ليقضي على الدعوة وأصحابها. قاومت مدن نجد ثم استسلمت، والدرعية بعد حصارها استسلم حاكمها ثم قتل في الأستانة مع صحبه، والمفترون على الدعوة كثر، جابههم الشيخ محمد وجاهاً ومراسلة، بنفسه وبتلاميذه، وصمد للجميع؛ فقد كان صاحب الدعوة مثالاً للجميع في الصبر والثبات والإيمان.
ويقول أيضا: ليس لمحمد بن عبد الوهاب دعوة خاصة، بل هي دعوة الإسلام الحق، ومنهجه هو منهج الإسلام، قال: « إني – ولله الحمد – متبع ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين به هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة « فالوهابيون لم يبتدعوا سنة جديدة وإنما سلكوا مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في الفروع، أي قواعد الدين العملية والشخصية والتنفيذية التي يصحّ فيها اختلاف العلماء؛ لأنها موكلة إلى المجتهدين منهم، أما الأصول، أي العقائد وأسس الأحكام فهم فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، لا يحيدون عنها.
ومن أهم المسائل التي دعت إليها الوهابية صرف جميع أنواع العبادة لله وحده، ومنع التوسّل والاستعانة والاستغاثة بغير الله، ومسألة الشفاعة، ومسألة الغلوّ في أهل القبور، وتحريم المسكرات ومنع الدخان.
ومن جانبه قال محمد كرد علي: « وما ابن عبد الوهاب إلا داعية، هداهم من الضلال، وساقهم إلى الدين السمح، وإذا بدت شدّة من بعضهم فهي ناشئة من نشأة البادية، وقلّما رأينا شعباً من أهل الإسلام يغلب عليه التدين والصدق والإخلاص مثل هؤلاء القوم، وقد اختبرنا عامتهم وخاصتهم سنين طويلة فلم نرهم حادوا عن الإسلام قيد أنملة، أما الغزوات التي يغزونها فهي سياسية محضة، ومذهبهم بريء منها، وما يتهمهم به أعداؤهم زور لا أصل له».
قالوا عن الشيخ:
وفي السياق نفسه يقول عباس محمود العقاد: «سرعان ما ظهرت دعوة ابن عبد الوهاب بجزيرة العرب حتى تردّد صداها في البنغال سنة 1804... ثم تردد صدى الدعوة الوهابية بعد ذلك بزعامة السيد أحمد الباريلي في البنجاب... ولم تقف آثار الدعوة الوهابية على القارّة الهندية فحسب، بل تجاوزتها إلى جاوا وأقصى الجزر الهندية الشرقية ( إندونيسيا ) وفي أفريقيا كان للدعوة أثر بليغ، ففي أواخر القرن الثامن عشر نشطت الدعوة وانتشرت في بعض بلدان أفريقيا : في السودان ونيجيريا وغيرهما».
وقال السيد محمد رشيد رضا: في التعريف بكتاب (صيانة الإنسان) بعد أن ذكر فشو البدع بسبب ضعف العلم والعمل بالكتاب والسنة، ونصر الملوك والحكام لأهلها. وتأييد المعممين لها. قال رحمه الله ما نصه :
لم يخل قرن من القرون التي كثر فيها البدع من علماء ربانيين، يجددون لهذه الأمة أمر دينها بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، كما ورد في الأحاديث.
ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي، من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعوا إلى تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده، بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين [، وترك البدع والمعاصي، وإقامة شعائر الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة.
فنهدت لمناهضته واضهطاده، القُوى الثلاث: قوة الدولة والحكام، وقوة أنصارها من علماء النفاق، وقوة العوام الطغاة.
وكان أقوى سلاحهم في الرد عليه، أنه خالف جمهور المسلمين.
من هؤلاء المسلمون الذين خالفهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دعوته؟!
هم أعراب في البوادي شر من أهل الجاهلية، يعيشون بالسلب والنهب ويستحلون قتل المسلم وغيره، لأجل الكسب، ويتحاكمون إلى طواغيتهم في كل أمر، ويجحدون كثيراً من أمور الإسلام المجمع عليها، التي لا يسع مسلماً جهلها... إلى آخر ما قال، عليه رحمه الله ذى الجلال.
ونشر محمد ضياء الدين الريس أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة فؤاد الأول، في مجلة الإرشاد الكويتية التي كانت تصدر سابقاً في العدد السادس من شهر رجب سنة 1373 هجريا مقالا بعنوان (الحركة الوهابية) قال فيه بعد كلام: مؤسس الدعوة هو محمد بن عبد الوهاب، ولد في العيينة بإقليم العارض بنجد عام 1703م، فتلقى العلم في موطنه، ثم رحل في سبيل الدراسة والمعرفة إلى المدينة ومكة، والإحساء، والبصرة، وبغداد، ودمشق، وقيل فارس أيضاً.
فاكتسب من سياحته العديدة علماً غزيراً، وخبرة واسعة، ووقف على أحوال العالم الإسلامي، ثم قارن بين ما آلت إليه حاله وما كوّنه في ذهنه من أفكار عن المثل الدينية الصحيحة.
فكانت نتيجة ذلك، هذا المذهب الجديد الذي عرف به، وحمل اسمه.
وكان سبباً في خلق هذه الحركة الإصلاحية الخطيرة.
والمذهب الوهابي، ليس مذهباً بالمعنى الصحيح، وهو لا يعدو أن يكون تفسيراً، أو وجهة نظر معينة، في فهم بعض نواحي الدين الإسلامي، وهو لا يخرج–في مجموعه – عن حدود المذاهب السنية المعترف بها.
والوهابيون يتبعون في فروع الأحكام حيث الفقه، مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وفي العقائد مذهب أهل السنة، وبخاصة- كما قررها وفسرها الإمام السني، العلامة ابن تيمية.
وابن تيمية هو الأستاذ المباشر لابن عبد الوهاب، وإن فصل بينهما أربعة قرون.
فقد قرأ كتبه وتأثر كل التأثر، بتعاليمه.
والمبادئ الأساسية للدعوة الوهابية، هي تنقية معنى التوحيد من الشوائب الشركية ظاهرة وخفية، وإخلاص الدين لله، وعدم الالتجاء إلى غير الله، وعدم الغلو في تمجيد الرسول بما يخرجه عن حدود الطبيعة البشرية، وتحديد معنى الرسالة التي كلف بإبلاغها.
ومصادر العقيدة، هي الرجوع إلى مذهب السلف في فهم الدين، وتفسير آيات القرآن، وأحاديث الرسول [.
وتكره الوهابية التعقيدات التي أدخلها المتكلمون والفلاسفة والصوفية، ولا مانع من الاجتهاد، كما يرون ضرورة القيام بواجب الجهاد.
وهذه الحركة كانت نهضة أخلاقية شاملة، ووثبة روحية جريئة ودعوة إلى دين الحق والإصلاح؛ فقد أيقظت العقول الراقدة، وحركت المشاعر الخامدة، ودعت إلى إعادة النظر في الدين، لتصفية العقيدة، وتطهير العقول من الخرافات والأوهام.
فقد احتوت على مبدأين، كان لهما أكبر الأثر في تطور العالم الإسلامي وتقدمه، وهما الدعوة إلى الرجوع إلى مذهب السلف، مع الاعتماد على الكتاب والسنة وتقرير مبدأ الاجتهاد، فكان هذان المبدان أساساً لنهضة فلسفة روحية.
والواقع أن كل حركات الإصلاح التي ظهرت في الشرق، في القرن التاسع عشر، كانت مدينة للدعوة الوهابية، في تقرير هذه الأصول.
ويقول العلامة الشيخ أحمد بن حجر بن محمد آل أبو طامي آل بن على متحدثا عن خصوم دعوة الشيخ:
ومن معاملة الله لهم بنقيض قصدهم، هو أنهم قصدوا بلقب الوهابية ذمهم، وأنهم مبتدعة، ولا يحبون الرسول كما زعموا، صار الآن لقباً لكل من يدعو إلى الكتاب والسنة، وإلى الأخذ بالدليل، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاربة البدع والخرافات والتمسك بمذهب السلف.
فترى كل من تنكر عليه أو ينكر غيرك عليه، بدعة أو منكراً صار يقابلك بقوله: «أنت وهابي» فصار هذا اللقب – والحمد لله – مدحاً وعلماً على الفرقة التابعة للكتاب والسنة، وعلى كل من يعتنق مذهب السلف الصالح، وعلى كل من يدعو إلى توحيد الألوهية والعبادة.
ويقول الشيخ أل بو طامي أيضا:
وأزيدك بياناً وإيضاحاً بأن أنقل لك من (تاريخ نجد) لمحمود شكري الآلوسي رحمه الله مناظرة ذكرها في تاريخه جرت بين عراقي وهو داود بن جرجيس البغدادي وعالم نجدي، وهو الشيخ عبداللطيف ابن عبد الرحمن بن حسن مؤلف (منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود ابن جرجيس).
وإنما أنقل بعضها لك؛ لما تضمنت هذه المناظرة من الفوائد النافعة، والمسائل القيمة، والجواب عن بعض ما اشتبه على بعض الناس، وكشف ما أشكل.
وهأنا ألخص منها ما يمسّ بموضوعنا.
قال العراقي :
لم تكفِّرون – ياأهل نجد – المسلمين وعباد الله الصالحين، وتعتقدون ضلالهم وتبيحون قتالهم، واستبحتم الحرمين الشريفين، وجعلتموهما دار حرب، واستحللتم دماء أهلها وأموالهم، وجعلتم دار مسيلمة الكذاب، هي دار الهجرة، ودار الإيمان، مع ما ورد فيها من الحديث أنها مواضع الزلازل والفتن، والتكفير أمر خطير حتى إن أهل العلم ذكروا أنه لو أفتى مائة عالم إلا واحداً بكلمة كفر صريحة مجمع عليها، وقال عالم واحد بخلاف أُولئك، يحكم بقول الواحد، ويترك قول غيره، حقنا للدماء، فلم لا تتبصرون في أمور دينكم، ولا تراقبون وقوفكم بين يدي بارئكم، وتركتم الناس سالمين من ألسنتكم وأيديكم؟
فقال العالم النجدي المجيب: أيها العراقي، ليس الأمر كما علمت أنت وأمثالك، بل أنتم في لبْس ٍ مما نحن عليه، وعسى أن يزول ذلك عنكم إذا صادف ما أكتبه لكم، قلوباً سالمة من داء الغباوة، فأقول:
أركان الإسلام خمسة: أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة. فالأربعة، إذا أقر بها أحد وتركها تهاوناً، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها، والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود، ولا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان.
وأيضاً نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر، فنقول: أعداؤنا معنا على أنواع:
النوع الأول : من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله [ أظهره للناس وأقر أيضاً أن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر الذي هو دين غالب الناس، أنه الشرك بالله، الذي بعث الله رسوله [ ينهى عنه، ويقاتل أهله ليكون الدين كله لله، ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد ولا تعلمه ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك، فهذا كافر نقاتله بكفره؛ لأنه عرف دين الرسول، فلم يتبعه، وعرف دين الشرك فلم يتركه، مع أنه لا يبغض دين الرسول، ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك، ولا يزينه للناس.
النوع الثاني : من عرف ذلك كله، ولكنه تبين في سب دين الرسول مع ادعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد غير الله وغالى في أوليائه، ففضلهم على من وحد الله وترك الشرك، فهذا أعظم من الأول، وفيه قوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} وهو ممن قال الله فيهم: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ }.
النوع الثالث: من عرف التوحيد واتبعه، وعرف الشرك وتركه،ولكن يكره من دخل في التوحيد، ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضاً كافر، وفيه قول الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}.
النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده مصرحون بعداوة التوحيد واتباع أهل الشرك، وساعون في قتالهم، ويتعذر عليه ترك وطنه، ويشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد ويجاهدهم بماله ونفسه.
فهذا أيضاً كافر، فإنهم لو يأمرونه بترك صوم رمضان، ولا يمكنه ترك الصيام إلا بفراقهم، فعل. ولو يأمرونه بتزوج امرأة أبيه، ولا يمكنه ترك ذلك إلا بمخالفتهم فعل، وموافقته على الجهاد معهم بنفسه وماله مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله، أكبر من ذلك بكثير، فهذا أيضاً كافر وهو ممن قال الله فيهم {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا}.
هؤلاء الذين نكفرهم لا غير، وأما القول بأنا نكفّر الناس عموماً، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنا نكفر من لم يكفّر ولم يقاتل ومثل هذا وأضعاف أضعافه فكل هذا من الكذب والبهتان، الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله.
وإذا كنا لا نكفر من عبد القبور من العوام لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله، إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل؟! {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}!
فقد ذكرنا لك – أيها السائل –ما يكشف عنك غطاءك، لو كان لك بصر ثاقب وفكر سديد، وفطنة كافية، تأخذ بيدك من أوهام الحيرة، وظلمات الوساوس، والله ولي التوفيق.
لاتوجد تعليقات