رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وائل رمضان 30 نوفمبر، 2021 0 تعليق

الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله: الفوضى فساد عظيم يجـب على المـــــرء أن يتحاشاه ما استطاع

 

قبل نحو 26 عامًا، أجرى الدكتور سليمان بن عبدالله أبا الخيل (مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) حوارًا مع فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله- وقد أجاب الشيخ -رحمه الله- على كثير من القضايا المهمة والحساسة، ووصف حال الأمة الإسلامية بما تعيشه وما سيمر بها من الفتن والمحن -التي نعيش شيئًا منها في هذا الزمن-، وقد أدرك فضيلته -رحمه الله- أنها تعايش الزمان والمكان، حين تحدث عن العقيدة الإسلامية والأخلاق والقيم والثوابت، فهو مدرك بأن الوقت لا يزيدها إلا ثباتًا ورسوخًا وصفاء وفق الكتاب والسنة ومنهج السلفية التي وسمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالفرقة الناجية.

وحدة جماعة المسلمين

- من المعلوم أن أهل السنة والجماعة يحرصون على وحدة جماعة المسلمين؛ ولذلك يرون السمع والطاعة لولي الأمر بالمعروف مهما حدث بهدف حماية أمن الناس واستقرارهم. فضيلة الشيخ، يوجد من أبناء المسلمين من يرى أن هذا تخاذلٌ وانهزامية بل ومداهنة، فما قولكم حفظكم الله؟

نرى أن الواجب على المسلمين أن يكونوا أمة واحدة كما أمرهم الله -تبارك وتعالى- بقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، إن الدين -كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم - هو النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإذا آمن الناس بهذا امتثلوا أمر الله --تعالى-- بالاعتصام بحبله جميعاً وعدم التفرق، والدين هو النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإتباع الإيمان بالعمل، والحرص على جمع الكلمة، والنصح، والمسلمون إن التزموا بذلك فإنهم سوف يحصلون على سعادة الدنيا والآخرة، وسوف تكون لهم العزة والكرامة، وإذا كان الأمر بالعكس فتفرقوا شيعاً، وكان لكل شخص منهج خاص بحسب ما يهواه دون الرجوع إلى الكتاب والسُّنة، فإن الأمة سوف تتفرق وحدتها، وسوف تتمزق، وتحدث الفوضى الفكرية والاجتماعية، وربما يؤدي ذلك إلى التصادم الفعلي؛ فيحصل الشر والبلاء.

 

تهييج العامة عن طريق المنابر

- فضيلة الشيخ -حفظك الله- يتوهم بعض الخطباء أن تهييج العامة عن طريق استخدام المنابر فيه مصلحة شرعية ودنيوية، فما قولكم؟

لو أردنا أن نجيب عن السؤال نرجع إلى الجواب عن السؤال السابق، وهو أن الواجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وليس من النصيحة أن تهيج العامة على ولاة الأمور من العلماء والأمراء؛ لما في ذلك من الفوضى التي لا تُحمد عقباها، والواجب على المؤمن أن يكون كما أمر النبي -[- بل كما حث النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»، فإذا كان في كلامه خير ومصلحة فليتقدم وليتكلم، وإن لم يكن فيه خير ولا مصلحة أو كان فيه شر ومضرة فالواجب السكوت، والواجب أيضاً أن ينظر العاقل في النتائج لا في المبادئ؛ فالاعتبار في الأمور بغاياتها لا بمبادئها، وليقدم النتيجة التي تترتب على كلامه إن كان في ذلك خير أو شر، أو لا يدري أخير هو أم شر؛ فالأحوال ثلاث:

 

-الأول: إما أن يعلم أنه خير، وذلك بنتائجه الملموسة والمشهودة.

- الثاني: إما أن يعلم أنه شر بأن يعتبر في ذلك بما يحدث حوله في البلاد الأخرى، وما كانت النتيجة حين شغب الناس بعضهم على بعض.

- الثالث: إما أن يتردد هل الخير في الكلام أم الخير في السكوت؟ وحينئذ يكون السكوت هو الخير؛ لأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فليقل خيرا أو ليصمت» يتضمن الأمور الثلاثة: ما علم أنه خير فليقله وليتقدم فيه، وما علم أنه شر أو لا يعلم أخير هو أم شر؟ فإن مقتضى الإيمان السكوت عنه.

 

حمل السلاح على السلطة

- فضيلة الشيخ، يرى بعضهم أن في عدم تحكيم ما أنزل الله والجور مسوغا لحمل السلاح على السلطة، ويزعمون أنهم فهموا هذا من العلماء، ومنهم فضيلتكم -حفظكم الله- عندما تتكلمون عن كفر مَنْ لم يحكم بما أنزل الله.

     لا شك أن الله -عز وجل- ذكر في سورة المائدة ثلاثة أحكام فيمن لم يحكم بما أنزل الله: الحكم الأول: الكفر، والثاني: الظلم، والثالث الفسق، وقد اختلف العلماء هل هذه الأحكام أوصاف لموصوف واحد، وأنه من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، والكافر ظالم كما قال -تعالى-: {الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، والكافر فاسق كما قال الله -تبارك وتعالى-: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا}، أم هي أحكام لموصوفين متعددين، وأن الحكم بغير ما أنزل الله على حسب ما عند الحاكم من أسباب أوجبت أن يحكم بغير ما أنزل الله؟ فإذا كان حكمه بغير ما أنزل الله رضا بمخالفة ما أنزل الله -عز وجل-، وكراهة لما أنزل الله فهذا كفر؛ لقوله -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}، ولا حبوط للعمل إلا بالكفر، وهنا قال -تعالى-: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

 

     وأما إن كان حكمه بغير ما أنزل الله للتعسف والظلم مع رضاه بحكم الله -عز وجل -واعتقاده أنه هو الخير، لكن في نفسه ظلم وجور وتسلط بغير حق فهذا لا يكون كافراً، لكنه ظالم، وأما إن كان حكمه بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه ومصلحة ذاتية، ولا يريد ظلماً لأحد ولا يكره ما أنزل الله، بل هو راض به ومعتقد أنه حق، فهذا يكون فاسقاً ولا يكون ظالمًا، وقد نقل أهل العلم القول المشهور عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، بأنه ليس الكفر الذي يبيح الدم والمال، لكنه كفر دون ذلك؛ ولهذا يجب على الإنسان أن يتوقف عن التكفير، وألا يجرؤ عليه؛ لأنه لا يجوز الحكم بالتكفير إلا بشرطين:

 

- الشرط الأول: دلالة النصوص على أن هذا الشيء كُفْر أكبر مُخْرج عن الملة.

 

- والشرط الثاني: انطباق الحُكْم على الشخص المعيَّن، الذي فعله فاستحق به أن يكون كافراً مرتدا، وعلى هذا فلابد أن يكون لدى الإنسان عِلْم بقواعد الشرع وأصوله، والجَمْع بين النصوص؛ حتى يعرف الكُفْر الذي جاء في الكتاب والسنة، هل هو الكفر الأكبر المُخْرج من الملة أو لا؟ ويجب عليه بعد أن يتبيّن له مقتضى النصوص أن هذا كُفْر مُخْرج من الملة أن ينظر في حال مَنْ اتصف به، هل توفرت شروط التكفير في حقه أم لا؟ لأنه ليس كل من قال كلمة الكفر يكون كافراً، ولا كل من فعل ما يكون به الفسق يكون فاسقاً، ألم تر إلى قوله -تعالى-: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

 

     هذا الرجل كفر بالله من بعد إيمانه لكنه مكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ومع هذا لم يكن كافراً؛ لأنه لم يشرح بالكفر صدراً، وهو يكرهه أشد الكره، لكنه أُكره عليه. ثم ألم تر إلى ما حدَّث به النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله فيمن تاب إلى الله أن «الله -تعالى- أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل كان في فلاة فأضل ناقته وعليها طعامه وشرابه، ثم اضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت يئساً من الحياة، فإذا بزمام ناقته متعلق بالشجرة، فأخذ به وقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة فرح»، فهذا الرجل قال كلمة الكفر؛ حيث جعل نفسه رباً وجعل ربه عبداً، لكنه لشدة فرحه أخطأ؛ فلم يكن كافراً بذلك، وهذا دليل على أنه يجب على الإنسان أن يتريث في تكفير الشخص المعيَّن، نحن نعلم أن التكفير ليس بالأمر الهيّن؛ لأنه يترتب عليه الحُكْم بالكفر الذي يستلزم حل دم الإنسان وماله، وهو أمر خطير جداً.

 

ثم إن الكفر حكم شرعي يتلقى من الشرع لا من الهوى، ولا من الذوق، ولا من الغيرة؛ ولهذا حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك؛ حيث قال: «من دعا رجلا بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كما قال صار عليه»، أي رجع على القائل، أي من يكفِّر غير مَنْ كفَّره الله ورسوله يعود تكفيره على نفسه. ولذلك وجهان:

 

- الوجه الأول: أن يكون كافراً؛ حيث شارك الله -تعالى- في الحكم، وحكم بما لم يحكم الله به من كون الشيء كفرًا وكون المعيَّن كافراً.

 

- والوجه الثاني: أن يُبتلى هذا الرجل الذي كفَّر من لم يكفِّره الله ورسوله فيكون مآله إلى الكفر - والعياذ بالله -؛ لأن القول على الله بلا علم والمعاصي ربما يؤديان إلى الكفر، كما قال -تعالى-: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}.

 

- يقول بعض الناس «لنا أن نحمل السلاح للخروج على الحاكم»؛ فهل نحمل السلاح مباشرة أم أن هناك خطوات أيضاً تؤخذ؟

الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يجز منابذة الولاة إلا بشروط، قال: «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان»، وهذه الشروط يصعب جداً تحقيقها بمجرد النظر في الأولى؛ لأن قوله: «إلا أن تروا»، أي تعلموا، والعلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً؛ فينتفي بذلك الشك أو الظن؛ فلا يكفي في ذلك غلبة الظن ولا الشك المتردد بل لابد من العلم بأنه كفر، أي لابد أن يكون الشيء الذي تلبَّس به ولي الأمر كُفْراً لا فسقاً؛ فالفسوق مهما كان لا يبيح الخروج على ولاة الأمور، وإن عظم.

 

- الشرط الثالث: أن يكون بواحاً، أي ظاهراً صريحاً، لا يحتمل التأويل، هو كفر بالدلالة القطعية من الكتاب والسنة، لا يكفي الظن ولا يكفي ما يحتمل التأويل، ولا بد من شيء بواح.

 

- والشرط الرابع: أن يكون عندنا فيه من الله برهان، أي دليل يكون حجة لنا عند الله - عز وجل - فيما ننابذ به ولي الأمر ونخرج به عليه.

 

     فإذا تمت هذه الشروط فلابد من شرط آخر دلت عليه النصوص وهو القدرة على إزالة هذا الوالي دون سفك دماء الأبرياء وانتهاك الأعراض واستحلال الأموال؛ لأن هذا -أعني شرط القدرة- ثابت في كل واجب من واجبات الشرع، لابد فيه من القدرة لقول الله -تعالى-: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، وقوله -تعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم»، أما مجرد أن يظن الإنسان أن ما قام به ولي الأمر كفر دون تحقُّق الشروط الأربعة، ثم لو تحققت الشروط الأربعة يخرج على الإمام أو ولي الأمر وليس عنده القدرة التي تحسم الموقف دون سفك دماء واستحلال أموال، فهذا خطأ في التصرف، والإنسان العاقل البصير يعتبر بما مضى في سلف هذه الأمة من العواقب الوخيمة التي ترتبت على الخروج على ولي الأمر، حتى مع كون الخارج ظاهره الصلاح والاستقامة؛ لأن الفوضى في المجتمع فساد عظيم يجب على المرء أن يتحاشاه ما استطاع.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك