سورة النساء نموذجًا – حِفْظُ حُقوقِ المرأةِ في القرآن
لقد جاء القرآن ليؤسِّس مجتمعًا متكاملًا منسجمًا، يسوده التديّن الصحيح المنضبط، ويسوسه الشرع الحكيم، ومن أجل تكريس مفهوم المجتمع الديني المتكامل بيَّن الشارع الحكيم الحقوق والواجبات التي يلتزمها كلُّ فرد تجاه صاحبه، وببيان هذه الحقوق والواجبات يتمكن النظام من الهيمنة على حياة الأفراد لتوجيههم إلى الطريق السليم في نيل الحقوق ومنحها، وذلك وفق الضوابط التي تخدم مقصد الشرع المنزّل من تشريع الأحكام ووضع الحدود.
ومن بين الحقوق التي تنازعت فيها جميع الفلسفات والأديان قديمًا وحديثًا حقوق المرأة، وانقسم الناس فيها طرائق قددًا، بين من يؤسِّس لمجتمع ذكوري يستبعد أيّ حق للمرأة، وآخر أنثوي يرى الكون من خلال المرأة، ويؤكّد على حقوقها وفق نظرة مادية بحتة تستبعد أي بعد ديني في تعيين الحقوق.
قضيّة حقوق المرأة
وقد تناول القرآن قضيّة حقوق المرأة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والدينية، وفصَّل حقوقها أيما تفصيل، وأعطاها من الامتيازات والاستحقاقات القدر الذي ينسجم مع طبيعتها ووظيفتها الحياتية وفطرتها الدينية، وأكّد على حقوقها في المواضع التي يُظَنُّ أن تضيع فيها؛ وذلك لأن الذي يمنح الحق نفسه قد يكون خصمًا كالولي والزوج وغيرهما، وأكد على حقوقها المالية، سواء في باب الميراث أم الزوجية، وقد كانت سورة النساء نموذجا للعدالة الاجتماعية التي يدعو إليها القرآن في حق المرأة، وسوف نتناول الحقوق المتعلقة بالمرأة والتي أكدها القرآن من خلال هذه السورة الكريمة.
الحقوق المالية
لا شك أن المال يمثل ضرورة بالنسبة لكل إنسان؛ ولذا فإنه إذا استحقه يكون من كمال العدل صرفه له كاملًا غير منقوص، ونظرًا لإمكانية التحايل على المرأة في حق المال المستحق لها -إما بسبب عقد الزواج أو بسبب الورثة أو بأي سبب آخر- فإن القرآن أكد صرف هذه الحقوق لها، وتنوّع هذا التأكيد بحسب المجالات، فأكده في الحالة الاعتيادية، وطلب أن يصرف لها حقها بمجرد استحقاقه، كما أكده عند الاختلاف، وهو مظنة ضياع الحق، وانتصار الطرف الأقوى لنفسه في مقابل ظلم غيره، كما أكده وجعله فتوى موقعة من الله في حالة ضعف المرأة واتصافها باليتم، ودونك تفصيل ذلك كما ورد في السورة:
الحالة الأولى
الحالة الاعتيادية وهي الزواج
فقد طلب في أوائل السورة إعطاء المرأة حقها وهو المهر كاملا، وألا يؤخذ منه شيء إلا بطيب نفس منها، فقال -سبحانه-: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} (النساء: 4). قال أبو جعفر: يعني بذلك -تعالى- ذكره: وأعطوا النساء مهورهن عطيّة واجبة، وفريضة لازمة، والخطاب هنا متّجه للأولياء والأزواج معًا؛ لأنهم لم يكونوا يعطون النساء من مهورهن شيئًا في الجاهلية، ويكون في الآية نهي عن الشغار، وهو: أن يزوِّج الرجل الرجلَ أختَه على أن يزوجه أخته، ليس بينهما مهر، وحاصل الأمر أن المهر حق مالي للمرأة، قليلا كان أو كثيرا، وليس لأحد من الطرفين -سواء كان وليا أم زوجا- إسقاطه، ولا أخذ شيء منه دون رضاها، وهذا هو منطوق الآية، وقد جعل الله هذا الحق ديانة وفريضة كما هو مفهوم قوله -تعالى-: {نِحْلَةً}.
الحالة الثانية
حالة الخلاف
وهنا يجعل القرآن العلاقة بالمرأة علاقة مقدسة لا يمكن أن تخضع لهوى الزوج، فإذا أراد أن ينهي الحياة الزوجية احتال على الحقوق المالية لزوجته، وأخذ ما أعطاها أو بعضه ليتزوج أخرى ويترك الزوجة الأولى للمصير المجهول، فيأتي القرآن ليعالج هذا العرض الجانبي والسلوك الطارئ على الحياة الزوجية بتأكيد المعاشرة بالمعروف، وأنه إذا لم يمكن ذلك فإن الحق يبقى محفوظًا لصاحبه فقال -سبحانه-: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (النساء: 20- 21).
الفراق الذي سببه الزوجة
فحين تكلم -سبحانه- في سورة البقرة عن الفراق الذي سببه الزوجة وأن للزوج أخذ المال منها -وهو المذكور في قوله -تعالى-: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} (البقرة: 229)- بيَّن في هذه الآية أن الطلاق الذي لم ينتج عن سوء عشرة ولا عن مشاكل زوجية لا يمكن للزوج أن يأخذ فيه شيئا من المرأة، وقوله -سبحانه-: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}، هو تنبيه على أن هذه الحياة والعلاقة علاقة مقدسة، لا يمكن التصرف فيها بمقتضى الهوى وما تمليه العواطف، وقد أكد هذا المعنى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه».
الحالة الثالثة
حالة الضعف
هذه الحالات التي تقدمت ليس بالضرورة أن تكون المرأة فيها ضعيفة، بل قد تكون لها خيارات أخرى لاسترجاع حقها وبلوغ مُنيتها، وإن كان الشرع قد اختصر عليها الطريق وحفظ لها هذا الحق وأكده، لكن تبقى الحالة الثالثة وهي الحالة التي تكون فيها المرأة متنازعة مع طرف يمتلك من الصلاحيات ما لا تستطيع المرأة له دفعًا ولا لظلمه رفعًا، فهنا تولَّى الله هذا الأمر وجعل الحكم فيه فتيا منه -سبحانه-، فقال: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء اللَّاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} (النساء: 127).
قال أبو جعفر: يعني -جل ثناؤه- بقوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ}: ويسألك (يا محمد) أصحابك أن تفتيهم في أمر النساء، والواجب لهن وعليهن، فاكتفى بذكر النساء من ذكر شأنهن؛ لدلالة ما ظهر من الكلام على المراد منه. {قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}: قل لهم يا محمد: {اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}، يعني: في النساء، {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء اللَّاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ}.
زواج اليتيمة
روى البخاري عن عُرْوة بن الزُّبَيْرِ أنَّهُ سألَ عائِشَةَ -رَضِي الله تعالى عَنْهَا- عن قوله -تعالى-: {وإنْ خِفْتُمْ أنْ لَا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (النِّسَاء: 3)، قالت: هي لليتيمة في حجر وليّها، فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن يتزوجها بأدنى من سُنّة نسائها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء، قالت عائشة: ثم استفتى الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فأنزل الله -عز وجل-: {ويَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} (النِّسَاء: 127)، قالت: فبيَّن الله في هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها، ولم يلحقوها بسنتها بإكمال الصداق، فإذا كانت مرغوبة عنها في قلّة المال والجمال تركوها، والتمسوا غيرها من النساء، قال: فكما يتركونها حين يرغبون عنها، فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها الأوفى من الصداق ويعطوها حقها.
حفظ لحق اليتيمة
ففي هذه الآية حفظ لحق اليتيمة في ألا تنكح بغير صداق أو بصداق أقل من صداق مثيلاتها من بني عمومتها أو من هم في هيئتها في الجمال، ويكفي تقريرا للحق أن يكون فتوى من رب العالمين، لم يكِل أمرها إلى أحد سواه -سبحانه وتعالى-، وأكَّد هذا الحق المالي الذي به حفظ كرامتها، وصانها من الضياع وجعلِها متعة في أيدي الوكلاء والأولياء ممن رقَّ دينهم؛ ولذلك شدَّد الفقهاء في نكاح اليتيمة، واشترطوا فيه شروطًا ليست في غيرها، فاشترطوا في تزويجها بلوغ عشر سنين وميلها للرجال، وإذنها بالقول ومشاورتها ومشاورة القاضي، وفائدة التسمية مراعاة حقها، والشفقة عليها في تحري الكفاية والصلاح، فإن اليتيم مظنة الرأفة والرحمة.
الحقوق المالية في حال الموت
هذا فيما يتعلق بالحقوق المالية في حال الحياة، أما ما يتعلق بالحقوق المالية في حال الموت فإن وصية الله -عز وجل- المذكورة في السورة لم تهمل المرأة، بل فرضت لها حقها، زوجة وأما وأختا، قال -تعالى-: {لِلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} (النساء: 7).
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كان الميراث للولد، والوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله -عز وجل- من ذلك ما أحب، فجعل للولد الذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للوالدين السدسين، وجعل للزوج النصف أو الربع، وجعل للمرأة الربع أو الثمن. ولا يخفى على القارئ الكريم ما وصفت به هذه القسمة من الفرض وإرجاعها إلى حكمة الله -عز وجل- وكمال علمه وسعته، فهو الذي يعطي الحقوق بحسب الاستحقاق.
التغاير بين الذكر والأنثى في التركة
والتغاير بين الذكر والأنثى في التركة راجع إلى طبيعة الالتزامات المنوطة بكل من الفريقين شرعًا، فالرجل تجب عليه نفقة ابنته وزوجته وأخته، فمن المعقول إذا ورث أن يعطى له من المال بالقدر الذي يمكنه من أداء هذا الالتزام الشرعي، وقد فرض الله للمرأة حقًّا معلوما في التركة، إما على سبيل الوصية كما هو الواقع في هذه الآيات، فقوله -تعالى-: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} يعني: للابن من الميراث مثل حظ الأنثيين. ثم ذكر نصيب الإِناث من الأول فقال: {فَإِنْ كُنَّ} يعني: البنات {نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}، وفي قوله -تعالى-: {فَوْقَ} قولان: أحدهما: أنها زائدة، كقوله -تعالى-: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ}، والثاني: أنها بمعنى الزيادة. قال القاضي أبو يعلى: إنما نص على ما فوق الاثنتين والواحدة، ولم ينص على الاثنتين؛ لأنه لما جعل لكل واحدة مع الذكر الثلث، كان لها مع الأنثى الثلث أولى.
لاتوجد تعليقات