الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية – ألفاظ الواقفين التي يُنشئون بها صيغة الوقف
باب الوقف من الأبواب المهمة التي ينبغي تقرير ضوابطه؛ ذلك أن عامة أحكام الوقف اجتهادية فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامة الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص، ثم من القواعد الفقهية الكلية، ثم يترجم ذلك كله على هيئة ضوابط خاصة في باب الوقف، وهذا ما نتناوله في هذه السلسلة، واليوم مع الضابط السادس من الضوابط المتعلقة بشرط الواقف، وهو إذا ذُكرت متعاطفاتٍ عدة، وذُكر معها وصفٌ صالحٌ للجميع، فهل يرجع الوصف إلى الجميع؟ أم إلى ما يقارنه فقط؟
هذا ضابطٌ يتعلّق بألفاظ الواقفين التي يُنشئون بها صيغة الوقف، ويبيّنون بها شروطَهم، وهو ضابطٌ يتّضح معناه بالمثال، فصورته: لو قال: وقفتُ على أولادي، وأولاد أولادي الذكور، هل يكون (الذكور) وصفاً مقيّداً في الأحفاد فقط؟ أم يكون راجعاً إلى الطبقة الأولى من الأولاد أيضاً؟
رأي الشافعيّة
قال الجلال المحلّي: «من المخصِّصات المتّصلة: (الصفة)، نحو: أكرِمْ بني تميم الفقهاءَ غيرَهم، وهي (كالاستثناء في العَوْد)، فتعود إلى كلِّ المتعدّد على الأصحّ ولو تقدّمت، نحو: وقَفْتُ على أولادي وأولادهم المحتاجين، ووقفتُ على محتاجي أولادي وأولادهم، فيعود الوصف في الأوّل إلى الأوّل مع أولادهم، وفي الثاني إلى أولاد الأولاد مع الأولاد، وقيل: لا.
(أمّا المتوسطة) نحو: وقفتُ على أولادي المحتاجين وأولادهم، قال المصنّف -بعد قوله-: لا نعلم فيها نقلا: فالمختار اختصاصها بما وَلِيَتْهُ، ويحتمل أن يقال: تعود إلى ما وَلِيَهَا أيضًا»، وهذا يمثّل رأي الشافعيّة في هذه القضيّة، فإنّهم جعلوا الصفة المذكورة بعد المتعاطفات عائدةً إلى الجميع، بل رجّحوا أنّ الصفة المذكورة في وسط المتعاطفات تكون لجميعها أيضًا!
قال العطّار: «(قوله: أما المتوسطة فالمختار اختصاصها بما وليته): ذكر الشارح أنّه يُحتمل عَوْدُها إلى ما وَلِيَهَا أيضاً، بل قيل: إنّ عَوْدَها إليهما أَوْلى ممّا إذا تقدّمَت عليهما، وهذا هو المختار»، وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري: «فيعود الوصف للكلّ على الأصل في اشتراك المتعاطفات».
رأي الحنفية
أمّا الحنفيّة، فإنّهم يجعلون الصفة عائدةً إلى المذكور الأخير فقط، إلّا أن تدلّ قرينةٌ على عَوْدِهَا على غيره بالإضافة إليه، فـ«مذهب أبي حنيفة أنّه ظاهرٌ في العَوْدِ إلى الأخيرةِ، وهو الأَوْجَه من صرفها للجميع كما في تحرير ابن الهمام»، ولذلك عبّر الحنفيّة عن قولهم في هذه المسألة بهذا الإطلاق: كلُّ وصفٍ ذُكر بعد المتعاطفاتِ يرجعُ إلى الأخير، وتفرّع على هذا أنّ الوصف إذا توسّط المتعاطفات، عاد إلى ما قبله واختصّ به فقط، قال في «ترتيب الصنوف» المادة 15: «إذا توسّط الوصف الجُمل المعطوفة اختصّ بما قبله».
من القواعد المختلف على مدلولها
فالحاصل أنّ «هذه من القواعد المختلف على مدلولها بين الفقهاء...والمراد بالمتعاطفات الجمل أو الأسماء الّذي عُطف بعضها على بعض بأحد حروف العطف كالواو والفاء وثمّ.
- ومُفادها: أنّه إذا وردت ألفاظ عُطف بعضها على بعض بأحد حروف العطف ثم ذكر بعد الأخير منها وصف، فإنّ هذا الوصف يكون وصفاً خاصّاً لآخر المتعاطفات، وهذا محل الخلاف، هل يعود الوصف للجميع أو للأخير فقط؟ إلا إذا وجدت قرينة فإنّه يعود إلى الجميع عند الجميع...»، وقد ذهب الحنابلة إلى ما ذهب إليه الشافعية في هذه المسألة.
التخصيص بالصفة
قال ابن اللحّام: «وأمّا التخصيص بالصفة، نحو أكرم بني تميم الدّاخلين، فيُقصر عليهم. قال بعض أصحابنا والآمدي وغيرهم: وهي كالاستثناء في العَوْد إلى الجملتَيْن، وفي الروضة لأبى محمد: سلّم الأكثر أنّ التخصيص بالصّفة يعود إلى الجميع ويُقصر على المخالفين في الاستثناء بذلك، والأظهر في عَوْد الصّفة لا فرق بين أنْ تكون متقدّمة أو متأخّرة»، وعلى قول الأكثرين من الشافعية والحنابلة وغيرهم، سار صاحب (الإسعاف في أحكام الأوقاف) من الحنفية، وهو الذي اختاره في (ترتيب الصنوف) كذلك، فمن موادّه:
المادة 12: يُصرف الوصف وكلُّ شرطٍ صريحٍ ذُكر بعد الجمل المعطوفة إلى الكلّ.
المادة 14: يُصرف الوصف إذا ذُكر بعد الجمل المعطوفة أو تقدَّمَها إلى الكلّ.
تطبيقات القاعدة
1- إذا قال: وقفتُ هذا الوقف علي بني زيد وبني خالد وبني عمرو الفقراء، فإنّ الوصف بالفقراء يرجع إلى بني عمرو لا إلى سواهم ممّن قبلهم عند أكثر الحنفيّة.
2- إذا قال: وقفت على ولدي وولد ولدي ونسلهم الذّكور، فالذّكور صفة ترجع إلى نسل ولد الولد فقط، هكذا عند معظم الحنفيّة، والأكثرون على أنّه قيدٌ للجميع.
3- إذا قال: وقفت على أولادي وأولاد أولادي المحتاجين، يعود الوصف للأخير عند أكثر الحنفيّة، وإلى الجميع على الأصحّ عند الآخرين.
4- إذا قال: وقفتُ على أولادي المحتاجين وأولادهم، انصرف وصف المحتاجين إلى الأولاد الصُّلبيِّين فقط دون الأحفاد.
لاتوجد تعليقات