رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 21 ديسمبر، 2020 0 تعليق

د. المقدم: المسلم مطالب بإصلاح نفسه وتزكيتها وألا يكون سعيه في طلب الدنيا على حساب الآخرة


ما زلنا في إطار عَرض محاضرة الشيخ د. محمد إسماعيل المقدم، التي بين فيها حال العبد بين هموم الدنيا وهموم الآخرة، واستعرض كتاب (رسالة من غريق)، وقد استعرضنا في المقال السابق حديث الشيخ حول نعمة الهداية إلى الدين القويم، وأنها من أعظم نعم الله على العبيد، وبين أن العبد قد لا يشعر بعظمة هذه الهداية، فعليه أن يعتبر بمن افتقدها ممن يعيش في ظُلمةِ الجهل والشهوات والشبهات، وفي بيداء التيه والاضطراب والشك؛ ليعرف مقدار هذه النعمة.

السعي في طلب الرزق

     وعن مفهوم السعي في طلب الرزق والحيز الذي يشغله في الإسلام قال د. المقدم: السعي في طلب الرزق يشغل حيزًا محدودًا في الإسلام، فلا يكون طلب الرزق هو كل ما يشغل الإنسان، فهذا أحد واجبات الفرد المسلم وليس كل واجباته، وقد يتشدق بعضهم بهذه المقولة التي يجعلها كأنها آية قرآنية، أو حديث عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، وهي (العمل عبادة) أو (طلب الدنيا عبادة)، ومنهم من يحول بين المرؤوسين أو العاملين عنده - سواء في مدرسة، أم في مصنع، أم في أي مكان - وبين الصلاة، فيقول لمن يريد الصلاة: نحن في عبادة، حتى لو خرجت الصلاة عن وقتها، وقد تؤدى الامتحانات ساعة صلاة الجمعة، ويقولون: العمل عبادة، وهذا من تلبيس إبليس على هؤلاء الجهلة، فالنفقة على الأهل وعلى الأولاد وطلب الرزق الحلال جزء من الواجبات على المسلم، وعندك الوقت كله، فكيف تنشغل عن الوقت الذي هو مخصص لأداء واجب الصلاة والله -تعالى- يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}؟ (النساء:103).

المسلم مطالب بإصلاح نفسه

     فالمسلم مطالب بإصلاح نفسه وتزكيتها، وتربية أهله، والعمل لدين الله -سبحانه وتعالى- من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (التحريم:6)، ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة» رواه البخاري، فتجدهم منشغلين بجمع المال أو طلب الدنيا، ويتجرأ بعض الجهلة ويفتيهم بأنه إذا عاد أحدهم إلى البيت في المساء فإنه يجوز له أن يجمع كل الصلوات، فيجوز أن يُصلي الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء جميعاً قبل أن ينام.

فتاوى مُضلة

     ومما يؤسف عليه أن كثيرًا من الناس ينخدعون بهذا الفتاوى المضلة، فهؤلاء آثمون قطعًا، ويجب عليهم أن يسألوا أهل العلم، وأن يسألوا أهل الذكر ليبينوا لهم الحكم، فهذا ضلال مبين، وإخراج الصلاة عن وقتها بحجة طلب الدنيا من كبائر الذنوب، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع» رواه البخاري.

رسالة إلى كل مسلم

     وأضاف د. المقدم، فهذه الرسالة إلى كل مسلم أحاطت به الدنيا، فصار أسيرًا لها تسيره كيف شاءت، رسالة إلى كل من غرق في الدنيا، وعلم أن سبب غرقه يرجع إلى الانغماس فيها، فهو ينام على تفكير في الرزق والأولاد والسفر... إلى آخره، ويستيقظ على موعد العمل لا على موعد الصلاة، وفوجئ أنه لا يحافظ على صلاة الفجر التي قال عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها»، وأما بقية الصلوات فالخشوع فيها نادر، والدنيا قد استولت على قلبه، وعندما أراد صاحبنا أن يتذكر آخر يوم صامه تطوعًا خانته ذاكرته، وعندما أراد أن يتذكر آخر ليلة قامها فوجئ أنها في رمضان، وبحث عن مصحفه فوجد أن التراب يعلوه، ونظر إلى مكتبته فأحس أن الكتب تبكي من إهمالها، وتشكو إلى الله التراب الذي يعلوها، وتأمل حاله فوجد أنه لا يذكر الله إلا في المناسبات، وفي صباح يوم من الأيام استيقظ على وفاة أحد أقرانه الذي كان يتمتع بصحة جيدة، ولا توجد أي أمراض عنده، وذهب مع الأهل والأقارب لدفنه، وعندما حانت لحظة إدخاله القبر وإهالة التراب على وجهه هزه هذا المنظر هزاً عنيفاً، وزلزل كيانه، وجعله يفيق من غفوته، ويستيقظ من سباته، ويتذكر أنه لابد من دخول هذا القبر الموحش الذي لا أنيس فيه إلا العمل الصالح. فانتبه صاحبنا فوجد نفسه يغرق في الدنيا، فبكى على نفسه وانتحب، وتذكر حاله في بداية طريقه إلى الله وأثناء الدراسة الثانوية والجامعية، لقد كان محافظًا على الصلوات في المسجد ولا سيما صلاة الفجر، وكان المصحف لا يغادر جيبه إلا عند دخول الخلاء، ولم يكن يمر الأسبوع إلا ويكون قد صام فيه، وكانت له مع الليل وقفات يناجي فيها ربه -عز وجل-، فما الذي حدث؟

بدايةُ النكوص

     ثم بين د. المقدم أن صاحب هذا الهم عندما أفاق من غفلته، وانتابته موجة شديدة من الأسى والحزن على نفسه، فتناول أحد كتب الرقائق من مكتبته، فإذا به يرى أطباء القلوب قد شخصوا هذا المرض منذ ظهوره، فيقول الغزالي رحمه الله تعالى: «فمن العجائب أننا إذا أردنا المال في الدنيا زرعنا وغرسنا واتجرنا، وركبنا البحار والبراري، وخاطرنا، واجتهدنا، وتعبنا في طلب أرزاقنا، ولا نثق بضمان الله لنا، ثم إذا طمحت أعيننا نحو الملك الدائم المقيم قنعنا بأن نقول بألسنتنا: اللهم اغفر لنا وارحمنا! والذي عليه رجاؤنا وبه اعتزازنا ينادينا ويقول: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم:39)، ويقول: {وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (لقمان:33)، ويقول: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (الانفطار:6).

الأخذ بالأسباب في طلب الآخرة

     يعني: إذا كان طلب الرزق الذي هو مضمون تكد وتتعب، وإذا قال لك أحد: هون عليك فإن الرزق مضمون فإنك تقول له: كل شيء بسبب فتسعى وتكد، فكذلك في الآخرة -أيضاً- لابد من أخذ هذه الأسباب، ولا سيما أن الله لم يضمن لك الجنة، ولكن قال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}، يقول: كل ذلك لا ينبهنا، ولا يخرجنا من أودية غرورنا وأمانينا.

قال الحسن: المبادرة المبادرة، فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله عزوجل؛ فرحم الله امرأ نظر إلى نفسه، وبكى على عدد ذنوبه.

موعظة أبي الدرداء - رضي الله عنه 

ثم ذكر د. المقدم موعظة أبي الدرداء - رضي الله عنه - الذي عاش فترة مع التابعين، فرأى حالهم أقل من حال الصحابة، فنصحهم نصيحة قال فيها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً.

     ولهانت عليكم الدنيا، ولآثرتم الآخرة»، ثم قال أبو الدرداء -رضي الله تعالى عنه- من قِبَل نفسه: لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات -أي: إلى الطرقات- تجأرون وتبكون على أنفسكم، مالكم تناصحون في أمر الدنيا، ولا تناصحون في أمر الآخرة، ولا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبه ويعينه على أمر آخرته؟! ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم، ولو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرها كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة؛ لأنها أملك لأموركم.

     ثم ختم د. المقدم محاضرته ببعض الأخبار عن الصحابة والتابعين والسلف الصالح رحمهم الله -تعالى- فقال: «قدم سعد بن أبي وقاص على سلمان الفارسي -رضي الله تعالى عنهما- يعوده، فبكى سلمان، فقال له سعد: ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟! توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنك راض، وترد عليه الحوض، وتلقى أصحابك. فقال: ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا عهداً فقال: ليكن بلغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب -يعني: كالمتاع الذي يصطحبه الراكب المسافر- وحولي هذه الأساوِدُ. قال: وإنما حوله إجانة وجفنة ومطهرة. فقال سعد: اعهد إلينا. فقال: يا سعد، اذكر الله عند همك إذا هممت، وعند يديك إذا قسمت، وعند حكمك إذا حكمت» حسنه الألباني.

كأنّ القلوب ليست منا

     وقال مطرف: كأنّ القلوب ليست منا، وكأن الحديث يُعنى به غيرنا. يعني أنّ حالنا عند سماع المواعظ: كأن قلوبنا التي في صدرونا ليست جزءاً من أبداننا بل هي كيان آخر مستقل بعيد لا يحس، وكأن الحديث يُعنى به غيرنا، أي: يخاطب به غيرنا ولسنا المخاطبين به.

طلب الآخرة وطلب الدنيا

     وقال عمرو بن مرة: من طلب الآخرة أضر بالدنيا، ومن طلب الدنيا أضر بالآخرة، فأضروا بالفاني للباقي. وقال شعيب بن حرب: من أراد الدنيا فليتهيأ للذل. وقالت ابنة الربيع بن خثيم: يا أبتاه، مالي أرى الناس ينامون ولا تنام؟ فقال: إن جهنم لا تدعني أنام. وكان منصور بن المعتمر يصلي على سطح بيته، فلما مات قال غلام لأمه: يا أماه، الجذع الذي كان على سطح آل فلان لست أراه! قالت: يا بني، ليس ذاك بجذع، ذاك منصور قد مات! فقد تعود الغلام أن يراه قائماً مثل الجذع من شدة إطالته للقيام وسكونه وعدم تحركه.

     وقال سفيان الثوري: إني لأضع يدي على رأسي من الليل إذا سمعت صيحة فأقول: قد جاءنا العذاب. وذلك من شدة خوفه أن يحل عذاب الله -سبحانه وتعالى- بالناس. وكان بعض السلف إذا استيقظ في الصباح يتحسس أعضاءه مخافة أن يكون قد مُسخ، وقال آخر: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع -رحمه الله تعالى- نظرة، وكنت إذا رأيت وجهه حسبت أن وجهه وجه ثكلى، يعني: وجه امرأة مات ابنها فهي حزينة شديدة الحزن عليه، وهذا من خوفه من الآخرة.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك