الإمام البخاري وصحيحه الجامع (2)
ما زال الحديث مستمر حول الإمام البخاري وصحيحه؛ حيث ذكرنا أن الله -تعالى- كرَّم أمة الإسلام بحفظ مصادر استدلالها، قال الله -تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9)، وقلنا: إن الناظر في الطعون المعاصرة في السُّنة النبوية يجد أنَّ أكثرها مُوَجَّه نحو صحيح البخاري، والسبب في ذلك أنَّ الطاعنين عَرَفوا مكانة الجامع الصحيح في نفوس المسلمين؛ فأرادوا إسقاط هيبته؛ لأن في ذلك إسقاطًا لهيبة الكتب الأخرى دون عناء، وتوقفنا عند رحلة البخاري -رحمه الله- في طلب العلم، وكيف أنه بدأه في سن مبكرة وأثر ذلك عليه.
أدرك عددًا ممن يروي عن التابعين
فقد كان من بركات الطلب المبكر للحديث، والهمة العالية أن أدرك عددًا ممن يروي عن التابعين أمثال: المكي بن إبراهيم وطبقته؛ مما جعل إسناده عالٍيا عن أقرانه، ووجد في صحيحه أحاديث ثلاثية الأسانيد، وكان هذا مما أهَّل البخاري فيما بعد أن يكون قبلة طالبي الحديث بأسانيد عالية، قال محمد بن أبي حاتم الوراق -تلميذ البخاري وكاتبه-: «وأملى يومًا عليَّ حديثًا كثيرًا -يعني البخاري-، فخاف مِلالي، فقال: طب نفسًا، فإن أهل الملاهي في ملاهيهم، وأهل الصناعات في صناعاتهم، والتجار في تجاراتهم، وأنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه» (سير أعلام النبلاء 12 / 445).
كثرة ما أنتجه من تصانيف
كما كانت مِن بركات الطلب المبكر والهمة العالية كثرة ما أنتجه من تصانيف؛ حيث كان أوَّل مُصنَّف يُصنِّفه عندما بلَغ الثامنة عشرة عامًا، ومن أشهر الكتب التي صنَّفها: (قضايا الصحابة والتابعين، والتاريخ الكبير، والتاريخ الأوسط، والتاريخ الصغير، والأدب المفرد، والقراءة خلف الإمام، وبر الوالدين، وخلق أفعال العباد، وكتاب (الضعفاء)، و(الجامع الكبير)، و(المسند الكبير)، و(التفسير الكبير)، وكتاب: (الأشربة)، وكتاب: (الهِبة)، و(أسامي الصحابة)، وكتاب (الوحدان)، وكتاب (المبسوط)، وكتاب (العلل)، وكتاب (الكُنى)، وكتاب (الجامع الصحيح)، وهو أجَلُّ كُتبه نفعًا وأعلاها قدرًا.
عصر الرواية الذهبي
فقد عاش البخاري في عصر الرواية الذهبي، وعاصر النقاد الجهابذة؛ فكان يتقي الشبهات حتى لا يطعن في عدالته؛ فيضيع ما جمعه من حديث، ومِن أجل تحقيق ذلك كان يترك بعض المباحات اتقاءً للشبهات، قال وراقه (محمد بن أبي حاتم): «سمعته يقول: ما توليت شراء شيء قط، ولا بيعه، كنت آمر إنسانًا فيشتري لي! قيل له: ولمَ؟ قال: لما فيه من الزيادة والنقصان»، فصان نفسه عن المباح؛ خوفًا مِن أن يُنتقص فتسقط مروياته -رحمه الله.
الحفاظ على عدالته
وقد يخسر مالًا من أجل الحفاظ على عدالته: يحكي الشيخ عبد السلام المباركفوري: أن الإمام البخاري ركب البحر مرة في أيام طلبه، وكان معه ألف دينار؛ فجاءه رجل من أصحاب السفينة، وأظهر له حبه ومودته، وأصبح يقاربه ويجالسه، فلما رأى الإمام حبه وولاءه، مال إليه، وبلغ الأمر أنه بعد المجالسات أخبره عن الدنانير الموجودة عنده، وذات يوم قام صاحبه من النوم؛ فأصبح يبكي ويُعْوِل، ويمزق ثيابه، ويلطم وجهه ورأسه، فلما رأى الناس حالته تلك أخذتهم الدهشة والحيرة، وأخذوا يسألونه عن السبب، وألحوا عليه في السؤال، فقال لهم: كانت عندي صرة فيها ألف دينار وقد ضاعت!
فأصبح الناس يفتشون ركاب السفينة واحدًا واحدًا، وحينئذٍ أخرج البخاري صرة دنانيره خِفْية وألقاها في البحر، ووصل المفتشون إليه وفتشوه أيضًا فلم يظفروا بشيء، كما لم يجدوا شيئًا عند باقي ركاب السفينة؛ فرجعوا إلى الرجل المدعي، ولاموه، ووبخوه توبيخًا شديدًا. ولما نزل الناس من السفينة جاء الرجل الى الإمام البخاري وسأله عما فعل بصرة الدنانير؟
فقال: ألقيتها في البحر! قال: كيف صبرت على ضياع هذا المال العظيم؟ فقال له الإمام: أتدري أنني أفنيت حياتي كلها في جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف العالم ثقتي؛ فكيف كان ينبغي لي أن أجعل نفسي عرضة لتهمة السرقة؟ وهل الدرة الثمينة (الثقة والعدالة) التي حصلت عليها في حياتي أضيعها من أجل دراهم معدودة؟! (سيرة الإمام البخاري، 1/122-123)، لقد اشترى سمعته بمال عظيم من أجل ما يحمله من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الخشية مِن مظالم الناس
وكان يخشى مِن مظالم الناس حتى لو كانت صغيرة، قال وكان يركب إلى الرمي كثيرًا، فما أعلم أني رأيته في طول ما صحبته أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين، بل كان يصيب في كل ذلك ولا يسبق، قال: وركبنا يومًا إلى الرمي ونحن بفربر؛ فخرجنا إلى الدرب الذي يؤدي إلى الفرضة؛ فجعلنا نرمي فأصاب سهم أبي عبد الله وتد القنطرة التي على النهر فانشق الوتد، فلما رأى ذلك نزل عن دابته، فأخرج السهم من الوتد وترك الرمي، وقال لنا: ارجعوا فرجعنا، فقال لي: يا أبا جعفر، لي إليك حاجة -وهو يتنفس الصعداء-، فقلت: نعم. قال: تذهب إلى صاحب القنطرة فتقول: إنا أخللنا بالوتد؛ فنحب أن تأذن لنا في إقامة بدله، أو تأخذ ثمنه وتجعلنا في حلٍّ مما كان منا، وكان صاحب القنطرة حميد بن الأخضر، فقال لي: أبلِغ أبا عبد الله السلام، وقل له: أنت في حلٍّ مما كان منك؛ فإن جميع ملكي لك الفداء، فأبلغته الرسالة فتهلل وجهه، وأظهر سرورًا كثيرًا، وقرأ ذلك اليوم للغرباء خمسمائة حديث، وتصدق بثلاثمائة درهم (فتح الباري 1/480).
لا يفعل شيئًا إلا بنية
وكان البخاري -رحمه الله- لا يفعل شيئًا إلا بنية، وهذا يجعله ورعًا: قال وراق البخاري: «رأيته استلقى ونحن بفربر في تصنيف كتاب التفسير، وكان أتعب نفسه في ذلك اليوم في التخريج، فقلت له: إني سمعتك تقول ما أتيت شيئًا بغير علم، فما الفائدة في الاستلقاء؟ قال: أتعبت نفسي اليوم، وهذا ثغر خشيت أن يحدث حدث من أمر العدو؛ فأحببت أن أستريح وآخذ أهبة؛ فإن غافصنا العدو كان بنا حراك» (المرجع السابق).
الحفظ ثم الكتابة
عاش البخاري -رحمه الله- كما ذكرنا عصر الرواية التي كان عمادها على الحفظ ثم الكتابة، وقد ضرب المثل في الحفظ والإتقان لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا جاء من سببين:
- الأول: توفيق الله -تعالى- لعبده.
- والثاني: الدأب في الطلب واستفراغ الوسع.
قال الحسين بن حريث: «لا أعلم أني رأيت مثل محمد بن إسماعيل، كأنه لم يخلق إلا للحديث، وقال أبو حاتم الرازي: لم تخرج خراسان قط أحفظ من محمد بن إسماعيل، ولا قدم منها إلى العراق أعلم منه» (الفتح: 1/ 484).
علامات النبوغ
وقد ظهرت علامات النبوغ في الحفظ عليه منذ صغره: قال حاشد بن إسماعيل: «كان البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام؛ فلمناه بعد ستة عشر يومًا، فقال: قد أكثرتم عليَّ فاعرضوا عليَّ ما كتبتم؛ فأخرجناه، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه!»، وقال محمد بن الأزهر السجستاني: «كنت في مجلس سليمان بن حرب، والبخاري معنا يسمع ولا يكتب، فقيل لبعضهم: ما له لا يكتب؟ فقال: يرجع إلى بخارى ويكتب مِن حفظه».
حفظ أسماء الرجال
وكان حافظًا لأسماء الرجال وكناهم، وألقابهم وأنسابهم، لا يختلط عليه منها شيء، ظهر ذلك في مجلس شيخه محمد بن يوسف الفريابي عندما قال: «حدثنا سفيان عن أبي عروة عن أبي الخطاب عن أبي حمزة، فلم يعرف أحد في المجلس مَن فوق سفيان، فقال البخاري لهم: أبو عروة هو معمر بن راشد، وأبو الخطاب هو قتادة بن دعامة، وأبو حمزة هو أنس بن مالك».
تفوقه على أقرانه
ولمَّا ذاع صيته في الحفظ والضبط، كان أقرانه بين الحين والآخر يعقدون له امتحانًا؛ حرصًا منهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو الأزهر: كان بسمرقند أربعمائة محدث؛ فتجمعوا وأحبوا أن يغالطوا محمد بن إسماعيل؛ فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد العراق في إسناد الشام، وإسناد الحرم في إسناد اليمن، فما استطاعوا مع ذلك أن يتعلقوا عليه بسقطة.
قصته حين قدم بغداد
وكذا قصته حين قدم بغداد وعقدت له المجالس، فأراد محدثوها اختباره، فجعلوا أسانيد مائة حديث على غير متونها، وعرضت عليه حديثًا حديثًا يقول لكل منها: «لا أعرفه»، فعلم المحدثون أنه فطِن للأمر، والعوام استهجنوا قوله، وظنوه جاهلًا، فإذا به قبل انتهاء المجلس يصحح ما سمعه، فيرد كل متن إلى إسناده!
قال ابن عدي: «هنا يخضع للبخاري، فما العجب مِن رده الخطأ إلى الصواب فإنه كان حافظا، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة!»، فالبخاري آية في الحفظ والإتقان، استعمله الله -تعالى- لخدمة سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلا يقدح فيه ويتعقب عليه إلا مَن كان مثله، حفظ الألوف من حديث النبي سندًا ومتنًا، واختلطت بشحمه ولحمه، وجرت في عروقه كالدم، وشُغِل بها ذهنه.
أمَّا أن يأتي منتقد، لم يحفظ ولم يقرأ، فضلًا من أن يكون فهم واستوعب؛ فهذا لا يسمع له، إنما هو مشكك جاهل!
لاتوجد تعليقات