البناء العقدي والفكري وأثره على العمل الدعوي
يعد الانحراف الفكري أو العقدي من أعظم أسباب ضياع الكيانات وتشتتها وفشلها في الدنيا، واستحقاقها لدخول النار في الآخرة، بل ويُعد هذا البناء ركنا رئيسا في الحكم على أي كيان مهما بذل في استكمال البناء التعبدي أو السلوكي، وليس أوضح من ذلك، ما نبه عليه نبينا -صلى الله عليه وسلم- في أمر الخوارج حين قال في وصفهم: «يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم, وصيامكم مع صيامهم, وعملكم مع عملهم, يقرؤون القرآن, لا يجاوز حناجرهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية, ينظر الرامي في النصل فلا يرى شيئا, وينظر في القدح فلا يرى شيئا, وينظر في الريش فلا يرى شيئا, ويتمارى في الفوق هل علق به من الدم شيء؟»؛ وما هذا إلا بسبب الخلل الحادث في البناء الفكري والعقدي لهم؛ حيث جرأهم على تكفير أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم .
لذلك فإننا نجد أن الله -عز وجل- قد نبه على ضرورة انضباط أي تجمع بالضابط الفكري والعقدي بتنبيهات عدة واضحة وبتعبيرات عدة في الآيات لبيان أهمية (البناء العقدي والفكري) بوصفه مقوما أساسيا ولازما للوجود، فقال -سبحانه وتعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا..}، أى: «تمسكوا بدين الله وَكتابه»، كما قال ابن عباس - رضي الله عنه .
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}
وقال أيضا: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ..}، أى: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة، قاله ابن عباس -رضي الله عنهما-، وقال ابن عاشور: «وَقَوْلُهُ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ- قَبْلُ-: {وَلا تَفَرَّقُوا}، لِمَا فِيهِ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِ التَّفَرُّقِ فِي أَبْشَعِ صُوَرِهِ الْمَعْرُوفَةِ لَدَيْهِمْ من مطالعة أَحْوَال الْيَهُودِ... وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَذْمُومَ وَالَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الِافْتِرَاقِ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى تَكْفِيرِ بَعْضِ الْأُمَّةِ بَعْضًا، أَوْ تَفْسِيقِهِ، دُونَ الِاخْتِلَافِ فِي الْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ فِي الْأَقْطَارِ والإعصار، وَهُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ. وَنَحْنُ إِذَا تَقَصَّيْنَا تَارِيخَ الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا نَجِدُ افْتِرَاقًا نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا عَنِ اخْتِلَافٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأُصُولِ، دُونَ الِاخْتِلَافِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ».
الثبات حتى الممات
ونص الله -عز وجل- أيضا في هذه الآيات على ضرورة الثبات حتى الممات على دين الاسلام؛ فقال -سبحانه وتعالى- بعد أمره للمؤمنين بتحقيق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، قال القاسمي في تفسيره: «أي لا تموتن على حال من الأحوال، إلا حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه»، وقال ابن كثير: «أَيْ: حَافَظُوا عَلَى الْإِسْلَامِ فِي حَالِ صِحَّتِكُمْ وَسَلَامَتِكُمْ لِتَمُوتُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ قَدْ أَجْرَى عَادَتَهُ بِكَرَمِهِ أَنَّهُ مَنْ عَاشَ عَلَى شَيْءٍ مَاتَ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى شَيْءٍ بُعث عَلَيْهِ، فَعِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ خِلَافِ ذَلِكَ».
مقتضيات التمسك
فالإسلام هو دين الله -عز وجل- الذي ارتضاه لعباده؛ فقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، ومن مقتضيات التمسك به، والمحافظة عليه كما أمر الله -عز وجل- وجاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يلي:
تفرد الله -تعالى- بالربوبية
أن يقر المسلم بانفراد الله -عز وجل- في ربوبيته بالخلق، والرزق، والتدبير، والإحياء والإماتة، والضر والنفع، قال -تعالى-: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}()
تفرد الله -تعالى- بالملك
و أن يقر أيضا بتفرده -سبحانه وتعالى- في ربوبيته بتمام المُلْك والمِلْك؛ فالخلق جميعا عبيد له, يقضى عليهم ما شاء كيفما شاء، والإنسان لا يملك نفسه, والمسلم ليس حرا مع أوامر ربه إن شاء قبلها وإن شاء ردها، كما أوضح -سبحانه وتعالى- ذلك في كتابه بقوله: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}، وقال -تعالى-: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}.
الله -عز وجل- له الأمر والنهي
وأن يقر حتما بأن الله -عز وجل- له الأمر والنهي والتشريع والسيادة كما أكد ذلك -سبحانه- بقوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، وحذر من اعتقاد خلاف ذلك، كحال الكافرين؛ فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}، وقال -تعالى-: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
الالتزام بشريعة الله -تعالى
وأن يكون ملتزما بشريعة ربه حتما؛ فلا يُفضل عليها حكما, أو يساوي بينها وبين غيرها, أو يُلزم غيره بخلافها, أو يجيز لأحد التنازل عنها، فما سوى حكمه -سبحانه وتعالى- إنما هو الجهل والضلال، كما أوضح -سبحانه وتعالى- في محكم التنزيل؛ فقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
الإسلام هو الدين الخاتم
وأن يعتقد أن هذا الإسلام هو الدين الخاتم الذى لا يقبل الله غيره، كما قال -سبحانه وتعالى-: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}؛ فركن الإسلام الأعظم وباب الدخول إليه هو: «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله»، وهذا يستلزم عدم تصحيح غيره من الأديان والملل التي تخالفه في أصل شهادة (أن لا إله إلا الله)، كما قال الله -تعالى-: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}، وقال أيضا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
كفر من أنكر الإسلام
ويستلزم أيضا عدم تصحيح غيره من الأديان والملل التي تخالفه في أصل شهادة (أن محمدًا رسول الله)؛ فالقرآن يقرر كفر مَن أنكر نبوة نبيٍّ مِن الأنبياء؛ فكيف بمَن أنكر نبوة خاتم الأنبياء (محمد - صلى الله عليه وسلم )؟!، قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}، وقد حذر الله -عز وجل- من المداهنة في مثل تلك الأمور العقدية تحت مزاعم (النظام العالمي الجديد، والتعايش، وقبول الأخر، والتنوير)، فقد قال -سبحانه وتعالى-: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}، هذه العبارات التي يضغط بها الغرب علينا أفرادا وجماعات ودولا ومؤسسات, ما هي إلا عبارات زائفة, يزعمون أن التمسك بالعقائد الدينية الإسلامية الثابتة يخالفها ويؤدى إلى توتر العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمع الواحد, وكذبوا في ذلك.
فالحقيقة أن الوضوح في أمر العقيدة لا يخالِف المعاملة الحسنة التي أمر الله بها لغير المسلمين، كما قال -سبحانه وتعالى-: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
الإحسان إلى غير المسلمين
كما أن الإحسان إلى غير المسلمين وبرهم، لا يتعارض مع تمسك المسلم بعقيدته، بل ومجادلة غيره من غير المسلمين ومناظرتهم بالتي هي أحسن، لبيان صحة عقيدة المسلمين ودعوتهم إليها، وذلك كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع وفد نجران حين أحسن وفادتهم, وفي الوقت نفسه ناظرهم في شأن عقيدتهم في عيسى -عليه السلام- ودعاهم إلى الإسلام، كما ذكر الله -عز وجل- ذلك في كتابه في قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}.
جمع دقيق
فكان هذا الجمع النبوي الدقيق بين إقرار صحة عقيدة المسلمين والتمسك بها والمنافحة عنها مع بيان فساد اعتقاد غيرهم، وبين إحسان المعاملة مع غير المسلمين، هو المنهج الواضح العملي للنبي -صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام وجموع المسلمين من بعدهم عبْر أربعة عشر قرنًا مِن الزمان، بخلاف تلك المناهج التكفيرية التي لا تراعي حقوق المسلمين؛ بحجة عدم موالاتهم لهم, أو حقوق غير المسلمين؛ بحجة كفرهم، بل تظلمهم وتستحل دماءهم جميعا (مسلمين وغير مسلمين) بغير حق، وبخلاف تلك المناهج الليبرالية التي تريد أن ينسلخ المسلمون من عقيدتهم بحجة التعايش المجتمعي وقبول الآخر.
أسس التعايش
وقد حسم الإسلام الأمر بين هذا وذاك، وبيَّن أسس التعايش بيْن المسلمين وبيْن غيرهم بوضوح جلى وإلزام شرعي، طبقا لما فرضه الله -عز وجل- على المسلمين من حقوقٍ لغيرهم، وطبقا لما طبقه النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة -رضوان الله عليهم- والتابعون عبر العصور مع غير المسلمين تبعا لأنواع العهود والعقود المختلفة التي جاءت بها الشريعة؛ مراعاة لأحوال المسلمين وأحوال غير المسلمين حولهم وفي بلادهم، مثل (العقد الدائم، والعقد المطلق، والعقد المؤقت، وعقد الأمان)؛ لهذا يجب أن نعي تماما أن هذ المنهج النبوي الوسطي العقدي أصل في صحة الوجود عند أي تجمع أو كيان إصلاحي، ويجب أن يُحذر من الانحراف عنه يمنة أو يسرة تحت ضغط الواقع أو الانبهار بالحضارة الغربية أو الجهل بتطبيق قواعد السياسة الشرعية.
مكر الأعداء بالأمة
كما يجب أن ننتبه إلى مكر أعداء هذه الأمة بأصحاب المناهج الإصلاحية؛ حيث يعملون ليل نهار إلى إبعادهم عن مصدر قوتهم الذي يتمثل في ثباتهم المنهجي مع مرونتهم الحركية, ودوام إحسانهم المجتمعي، وهذا عين ما لا يريده الغرب فيركزون بأعمالهم الإعلامية والسياسية بل وأحيانا العسكرية إلى دفع أبناء هذه الكيانات الإصلاحية إلى الانحراف عنها يمنة أو يسرة، وتحويلهم إلى مسارات أخرى متنوعة, كالصوفية الخرافية والفلسفية أو الثورية الهادمة والتكفيرية الصدامية، حتى تظل صورة الإسلام مشوهة أمام الغرب, ويظل دين الإسلام هو دين الإرهاب والغلو والتطرف.
لاتوجد تعليقات