الأحاديث والآثار الموضوعة وعدم جواز الاحتجاج بها(3)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما بعد:
فإن هذا هو المقال الرابع في موضوعنا: «شرح الصدور في الرد على من أجاز التمسح بالقبور»، وقد ذكرت فيما مضى من مقالات تحريم التمسح بالقبور والطواف بالأضرحة وعدم الاستغاثة بها والتضرع عندها، وبينت اعتقاد أهل البيت في التوحيد الخالص لله عز وجل والصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين وأنهم قد حرموا هذا الأمر، ومقالي هذا الرابع هو تعقيب على الكاتب المتروك الذي أورد أحاديث موضوعة محتجاً بنسبتها إلى النبي [ مدعياً أنها نصرة لرسول الله [! ووالله إنها لإماتة وهدم لسنة النبي [ وإنها والله إحياء للتعلق بالقبورية، ولما كان انتشار الأحاديث الموضوعة في العقيدة له خطورته العظيمة في زعزعة اعتقاد المسلمين والتشكيك في دينهم الحق بجواز التضرع والاستغاثة والتمسح بالقبور، أحببت أن أقدم مقدمة هامة في ضرورة معرفة الأحاديث المكذوبة والآثار الباطلة التي أوردها المتروك محتجاً بنسبتها إلى النبي [.
ونستكمل ماتبقى من حلقتنا
الحديث الثاني:
«من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي».
حديث موضوع:
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (2/203/2) وفي المعجم الأوسط (1/126/2) من زوائد المعجمين الصغير والأوسط وابن عدي في الكامل، والدارقطني في سننه (ص279) والبيهقي (5/246) والسِِّلفي في الثاني عشر من المشيخة البغدادية (54/2) كلهم من طريق جعفر بن سليمان أبي عمر عن الليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عبد الله بن عمر مرفوعاً، وزاد ابن عدي: «وصحبني».
قال شيخنا رحمه الله تعالى- والذي تقدم من كلام كله له -: قلت: وهذا سند ضعيف جداً، وفيه علتان:
الأولى: ضعف ليث بن أبي سليم.
قلت: قال عنه الحافظ أبو الفضل ابن حجر رحمه الله تعالى: «صدوق اختلط أخيراً، ولم يتميَّز حديثه».
والأخرى: أن حفص بن سليمان هذا – وهو القارئ – ويقال: الغاضري – ضعيف جداً كما أشار إليه الحافظ ابن حجر بقوله في التقريب: «متروك الحديث».
قال عنه ابن معين: «كان كذاباً»، وقال ابن خراش: «كذاب يضع الحديث».
وذكر شيخنا رحمه الله تعالى متابعاً لحفص بن سليمان عند الطبراني في الأوسط (126/2) عن زوائد المعجمين: حدثنا أحمد بن رشدين، ثنا علي بن الحسن بن هارون الأنصاري، حدثني الليث ابن بنت الليث بن أبي سليم: حدثتني عائشة بنت يونس امرأة الليث بن أبي سليم، عن ليث بن أبي سليم، به، وقال: لا يروى عن الليث إلا بهذا الإسناد تفرد به علي.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: ولم أجد له ترجمة، ومثله الليث ابن بنت الليث، وامرأته عائشة لم أجد من ذكرها، وبها أعل الهيثمي الحديث في المجمع (4/2) فقال: لم أجد من ترجمها.
ثم إن شيخ الطبراني أحمد بن رشدين، قال ابن عدي: «كذبوه، وأُنكرت عليه أشياء»، وذكر له الذهبي أحاديث من أباطيله.
وإذا عرفت حال هذا الإسناد تبين لك أن المتابعة المذكورة لا يعتد بها ألبتة؛ فلا تغتر بإيراد السبكي إياها في: (شفاء السقام ص20)، دون أن يتكلم عليها ولا على الطريق إليها! وقد قال المحقق العلامة محمد بن عبد الهادي رحمه الله في الرد عليه في الصارم المنكي (ص63): ليس هذا الإسناد بشيء يعتمد عليه ولا هو مما يُرجع إليه، بل هو إسناد مظلم ضعيف جداً... إلى أن قال بعد أن بين علله، قال عن الطرق: {ظلمات بعضها فوق بعض}.
واعلم أنه قد جاءت أحاديث أخرى في زيارة قبره [ وقد ساقها كلها السبكي في «الشفاء» وكلها واهية وبعضها أوهى من بعض، وهذا أجودها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال شيخ الإسلام في «التوسل والوسيلة»، تحقيق الشيخ ربيع بن هادي حفظه الله تعالى: وأحاديث زيارة قبره [ كلها ضعيفة لا يعتمد على شيء منها في الدين؛ ولهذا لم يرو أهل الصحاح والسنن شيئاً منها، وإنما يرويها مَنْ يروي الضعاف كالدارقطني والبزار وغيرهما.
ثم ذكر رحمه الله تعالى هذا الحديث، ثم قال: فإن هذا كذبه ظاهرٌ مخالف لدين المسلمين؛ فإن مَن زاره في حياته وكان مؤمناً به كان من أصحابه لاسيما إن كان من المهاجرين إليه المجاهدين معه، وقد ثبت عنه [ أنه قال: «لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه» خرجاه في الصحيحين.
والواحد بعد الصحابة لا يكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة كالحج، والجهاد، والصلوات الخمس، والصلاة عليه [، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين (يعني زيارة قبره [)، بل ولا شُرِع السفر إليه؟! بل هو منهي عنه، وأما السفر إلى مسجده للصلاة فيه، فهو مستحب».
< تنبيه: يظن كثير من الناس أن شيخ الإسلام ابن تيمية ومن نحا نحوه من السلفيين يمنع من زيارة قبره [، وهذا كذب وافتراء، وليست هذه أول فرية على ابن تيمية رحمه الله تعالى، وكل من له اطلاع على كتب ابن تيمية يعلم أنه يقول بمشروعية زيارة قبره [ واستحبابها إذا لم يقترن بها شيء من المخالفات والبدع، مثل شد الرحل، والسفر إليها؛ لعموم قوله [: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد».
والمستثنى منه في هذا الحديث ليس هو المساجد فقط – كما يظن كثيرون – بل هو كل مكان يُقصد للتقرب إلى الله فيه، سواء كان مسجداً، أو قبراً، أو غير ذلك، بدليل ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال في حديث له: فلقيتُ بصرة بن أبي بصرة الغِفاري، فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور، فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت! سمعتُ رسول الله [ يقول: «لا تُعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد...» الحديث.
أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح، وهو مخرَّج في «أحكام الجنائز» (ص226).
فهذا دليل صريح على أن الصحابة فهموا الحديث على عمومه، ويؤيده أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه شد الرحل لزيارة قبر ما، فهم سلف ابن تيمية في هذه المسألة؛ فمن طعن فيه، فإنما يطعن في السلف الصالح رضي الله عنهم، ورحم الله من قال:
وكل خيرٍ في اتِّباعِ مَن سَلَفْ وكُلُّ شَرٍّ في ابْتِداعِ مَن خَلَفْ
أثر عائشة رضي الله عنها:
أخرجه الدارمي (93) من طريق سعيد بن زيد: حدثنا عمرو بن مالك النكري، حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال: «قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا إلى قبر النبي فاجعلوا منه كوا إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: فمطرنا مطراً حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتَّقت من الشحم؛ فسمي عام الفتق».
قلت: هذا حديث ضعيف؛ فإن عمرو بن مالك النكري صاحب غرائب ومناكير، قال عنه ابن حبان في «الثقات»: «يعتبر حديثه من غير رواية ابنه عنه يخطئ ويغرب»، وقال ابن عدي في الكامل (5/150 رقم 1315): «عمرو بن مالك النكري بصري منكر الحديث عن الثقات ويسرق الحديث، سمعت أبا يعلى يقول: عمرو بن مالك النكري كان ضعيفا»، وقال الحافظ ابن حجر: «صدوق له أوهام»، والراجح فيه أنه ضعيف.
قلت: وقد أبعد النجعة محقق مسند الدارمي عندما قال عن هذا الأثر: رجاله ثقات ولم يصب فيما قاله؛ لأنه لم يتفطن لراوي الحديث وهو سعيد بن زيد، وإليك أقوال العلماء فيه:
قال عنه يحيى بن سعيد: «ضعيف جداً»، وقال عنه أبو حاتم والنسائي: «ليس بالقوي»، وقال البزار: «ليِّن وقد تفرد بهذا الحديث ولا يحتمل منه هذا التفرد».
وقال الجوزجاني: يضعفون حديثه وليس بحجه، وكذلك تفرد به عنه أبو النعمان وهو شيخ الدارمي واسمه محمد بن الفضل الملقب بـ«عارم» وهو ثقة حافظ إلا أنه اختلط اختلاطاً شديداً في آخره فلا يعلم هل سمع الدارمي منه هذا الخبر قبل الاختلاط أم بعده.
ولو كان هذا الخبر صحيحاً فلماذا سكتت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن إفتائهم بذلك لما قحطوا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ وقد قدّم عمر العباس رضي الله عنه للدعاء في الاستسقاء ولم يذهبوا إلى قبر النبي [ ليدعوا عنده لنزول الغيث؛ فدل ذلك الفعل منه - رضي الله عنه - على عدم جواز الاستغاثة والاستعانة بالأموات وإن كانوا أنبياء الله - صلوات الله وسلامه عليهم - لأن هذا يؤدي إلى الشرك الأكبر.
والأمر الأعجب أن الكاتب المتروك أصبح إماماً في الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف، فأخذ يصحح الأحاديث الواهية الموضوعة محتجاً بنسبتها إلى رسول الله [.
ووالله إنها لطامة كبرى أن ينْسب إلى النبي [ حديثاً لم يقله أو لصحابي أو لإمام من أئمة المسلمين.
وتأمل كلامه عندما صرح قائلاً:
«وقد صح عن الإمام مالك أن أبا جعفر المنصور قال له في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا عبدالله، أستقبل القبلة أم أستقبل رسول الله (عند الدعاء)؟».
قلت: ولا شك في بطلان وسقوط هذه الرواية، فإن إسنادها مظلم منقطع.
أخرجها القاضي عياض في كتابه «الشفا في حقوق المصطفى».
وفيها محمد بن حميد الرازي، قال البخاري: حديثه فيه نظر، وقال عنه النسائي: ليس بثقة.
وقال يعقوب بن شيبة السدوسي: محمد بن حميد الرازي كثير المناكير.
وقال أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد الكريم الرازي ابن أخي أبي زرعة: سألت أبا زرعة عن محمد بن حميد، فأومأ إلى فمه، فقلت له: كان يكذب؟! فقال برأسه: نعم، قلت له: قد شاخ، لعله كان يُعمل عليه ويُدلس عليه؟ فقال: لا يا بني كان يتعمد.
وقال أبو حاتم الرازي: حضرت محمد بن حميد وحضره عون بن جرير، فجعل ابن حميد يحدث بحديث عن جرير فيه شِعر، فقال عون: ليس هذا الشعر في الحديث، إنما هو من كلام أبي، فتغافل ابن حميد فمر فيه.
وقال أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي: سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الرازي في منزله وعنده عبد الرحمن بن يوسف بن خراش وجماعة من مشايخ أهل الري وحفاظهم للحديث، فذكروا ابن حميد، فأجمعوا على أنه ضعيف في الحديث جداً، وأنه يحدث بما لم يسمعه وأنه يأخذ أحاديث لأهل البصرة والكوفة فيحدث بها الرازيين. فهذه حال محمد بن حميد الرازي عند أئمة هذا الشأن، ورغم ذلك يزعم الكاتب المتروك أن سندها صحيح، فالقصة مكذوبة، وسندها غريب.
وهذه الحكاية أيضاً منقطعة؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكاً لا سيماً في زمن أبي جعفر المنصور، وفي الإسناد أيضاً من لا يعرف حاله. (انظر كشف شبهات الصوفية 1/109 – 110).
قلت: ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية عندما ذكر هذه القصة الباطلة فقال:
- «والحكاية التي تذكر عن مالك أنه قال للمنصور لما سأله عن استقبال الحجرة فأمره بذلك وقال: «وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم»، كذب على مالك ليس لها إسناد معروف وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه، كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي وغيره.
مثل ما ذكروا عنه أنه سئل عن أقوام يطيلون القيام مستقبلي الحجرة يدعو لأنفسهم، فأنكر مالك ذلك، وذكر أنه من البدع التي لم يفعلها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وقال: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. ولا ريب أن الأمر كما قاله مالك؛ فإن الآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين تبين أن هذا لم يكن من عملهم وعادتهم، ولو كان استقبال الحجرة عند الدعاء مشروعاً لكانوا هم أعلم بذلك وكانوا أسبق إليه ممن بعدهم.
والداعي يدعو الله وحده، كما نهى عن استقبال الحجرة عند دعائه لله تعالى، وكذلك نهى عن استقبال الحجرة عند الصلاة لله تعالى كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي مرثد الغنوي أن النبي [ قال: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها».
فلا يجوز أن يصلي إلى شيء من القبور، لا قبور الأنبياء ولا غيرهم؛ لهذا الحديث الصحيح، ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يشرع أن يقصد الصلاة إلى القبر، بل هذا من البدع المحدثة وكذلك قصد شيء من القبور لاسيما قبور الأنبياء والصالحين عند الدعاء، وإذا لم يجز قصد استقباله عند الدعاء لله تعالى فدعاء الميت نفسه أولى ألا يجوز، كما أنه لا يجوز أن يصلي مستقبله فألّا يجوز الصلاة له بطريق الأولى.
فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئاً، لا يطلب منه أن يدعو الله ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يشكى إليه شيء من مصائب الدنيا والدين» (انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ص 319 – 320).
لاتوجد تعليقات