مفهوم العبادة مشكلة لها جذور
إن الله -تعالى- خلق الخلق على ملة واحدة مستقيمة، وفطرة سوية سليمة، لكن الشياطين حولت وجهتهم، وزينت لهم اتباع الهوى واللهاث خلف الشهوات؛ فلذلك بعث الله الرسل مبشرين بالجنة للمؤمنين، ومنذرين بالنار للكافرين، ووسيلتهم في ذلك لم تكن سوى (تصحيح المفاهيم)، مفهوم الإله، مفهوم الحياة، مفهوم الخير، مفهوم العبادة، مفهوم الحرية، مفهوم الموت، وهكذا؛ فالأنبياء والمرسلون، صححوا المفاهيم للناس، وبينوا لهم السبيل، وأوضحوا لهم الحق من الضلال، ولكن مع ذلك ظل الناس فريقين: فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير.
أئمة الضلال
للباطل أئمة معاندون شرسون، نذروا أنفسهم سدنة له وخداماً، كما للحق أئمة، ولا عجب، ففي آية كريمة من سورة القصص يصف الله -تعالى- فرعون وجنودِه، بعد استكباره وإياهم على الحق، وإصرارهم على الباطل، فيقول: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} (القصص: 41)، لكن الواضح من قصص النبيين والمرسلين، أن هذا الوصف (أئمة يدعون إلى النار)، لم يكن في عصر من العصور قاصراً على فرعون وأهل ديانته؛ فإن للباطل في كل العصور سدنة يُعدُّون ما هم عليه من ضلال جزءًا لا يتجزأ من كينونتهم، كما يُعدُّون الحرب ضد الحق حرب وجود؛ فلقد كانت دعوة النبيين عيسى ويحيى وزكريا -عليهم السلام-، يحاربها ويقف في طريقها رجال دين يهود، أهل كتاب، أحبار، ورهبان، بل كان كثير ممن سلك طريق الضلال ونافح عنه وأيده بقوة وشراسة في بعض العصور من أحفاد الأنبياء السابقين، ولا عجب؛ فإن الله -تعالى- ليس له زوجة ولا ولد، والحق ليس حكراً على أحد؛ فليس بين الله وخلقه إلا ذلك الميثاق، ميثاق العبودية، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}، (الأعراف: 172)؛ فمن قام بذلك الحق، فهو عبد الله وسيد الكون، ولو كان هملاً مهملاً لا يُأبه له، ومن فرط فقد خان وهان، مهما كان في الدنيا قدره، وسما في الظاهر شرفه، وليس في ذلك من إشكال في الواقع؛ لأن الحرية مكفولة لمن أراد ذلك الطريق أو ذاك، مع تحمل المسؤولية الكاملة عن التبعات، لكن الإشكال هو مدى ما يُحْدِثُه ضلال الرؤوس المتبوعين ذوي المكانات والأنساب من إفراط أو إضلال، وما يسهم به في تحويل المفاهيم الدينية عن أصل وضعها، إلى معان أخرى تقترب أو تبتعد عن الأصل بمقدار ما تسمح به الأهواء والرغبات.
التجرد شرط في تحرير المفاهيم
تمييز الحق من الباطل في كل شيء يتوقف على مدى دقة تحرير المفاهيم من عدمهما، لكن ذلك يحتاج إلى شيء مع العلم، لا يقل أهمية عنه، وهو التجرد والرغبة الخالصة في تحقيق الحق في باب العبادة: (تحقيق مقصود الشرع)؛ فالوصول إلى الحق يكاد يكون محفوفاً بالمصاعب التي ترجع أساسا إلى الطبيعة الإنسانية نفسها، ورغبتها في التحلل من الالتزامات والميل مع الأهواء وتغليب المصالح الدنيوية؛ فسقوط الإنسانية في أوحال الضلال مرده إلى سقوط قيمها ومبادئها، وإن القيم والمبادئ تسقط حتماً حين تنحرف المفاهيم؛ ولذلك فإن المعيار الثابت لتحصيل مفهوم ديني صحيح ودقيق، هو الاستناد إلى هدف سالم عن معارضة الشرع، ينقطع عن أطماع الأرض، ويطلب أصحابه مرضاة الرب، لا مرضاةَ النفسِ ولا العباد، ومجاراة الحق، لا مجاراة السائد ولا العادات.
مفهوم العبادة مظلوم
فمن المفاهيم التي انحرفت في قلوب بعض المسلمين في عصرنا هذا، مفهوم العبادة؛ فلطالما جهد المفسدون في الليل والنهار بلا كلل ولا ملل، من أجل أن يشكلوا مفهوماً جديداً للعبادة في الإسلام، ينحسر في نطاق الشعائر التعبدية وحدها؛ فالعبادة عند أهل الفساد والضلال، هي فقط صلاةٌ وصومٌ وحجٌ وصدقاتٌ، تؤدَّى بمحض الاختيار من دون تحديد أو تقدير، ثم إن الدين لا علاقة له بمطعم ولا مشرب ولا لباس، ولو كانت له علاقة؛ فينبغي تحجيمها بما لا يؤثر على مصلحة أحد من الناس، وفي كل حال ينبغي عندهم تفسير الدين تفسيراً معاصراً مطلقاً من القيود، تُستلهم فيه روح النصوص مجملة ومطلقة عن وقوف على التفاصيل، ثم إن هذه الروح قد تكون هي أصول الشريعة أحيانا، لكنها إن عادت إلى التصادم مع أهوائهم؛ فإنها لن تظل أصول الشريعة كما كانت، وإنما تتحول لتصبح الأصول الإنسانية الفضفاضة، حتى لا ندخل فيما يسميه أحدهم (صراع المطلقات) (مراد وهبة، ملاك الحقيقة المطلقة)؛ وبذلك يصبح الإسلام في نهاية المطاف مجردا عن المدلول، وتصبح عباداته مجرد شعائر خاصة، تمارس في الخفاء.
حقيقة العبادة في الإسلام
العبادة هي اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال، والمشاعر، والأفكار؛ فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج عبادة، والصدق وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام عبادة، والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد عبادة، والإحسان إلى الجار، واليتيم، والمسكين، والأجير عبادة، والاتحاد بين المسلمين عبادة، والحكم بالشرع الحنيف عبادة، وحب الله وحب رسوله وخشية الله، والإخلاص، والصبر، والشكر، والرضا عبادة؛ فمفهوم العبادة في الإسلام شامل يعم كل أنشطة الحياة البشرية؛ لذلك أمَرَ الله -تعالى- فقال {قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَـالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162- 163)؛ ولذلك جاء في المسودة: «كل ما كان طاعة لله ومأمورا به، فهو عبادة عند أصحابنا والمالكية والشافعية، وعند الحنفية العبادة ما كان من شرطها النية»، ص576، ومن أجل أن هذا هو مفهوم العبادة في الإسلام، تجد أن ديننا لم يترك شاردة ولا واردة في حياة الناس إلا وكان له فيها توجيه.
لا سعادة بغير الكتاب والسنة
توجيه الإسلام في مجالات الحياة المختلفة، لا يعني تسلط طبقة أو فئة من رجال الدين على حياة الناس، بل يعني خضوع الجميع لتوجيهات الله ورسوله؛ فليس صحيحاً أن هناك شيئا في النشاط البشري يمكن أن يضمن السعادة والرخاء والاطمئنان للفرد والمجتمع جميعاً، بغير توجيه من الكتاب والسنة؛ وأن العبادة في دين الله، هي التي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها؛ وهي بهذا المعنى تشمل النشاط الإنساني كله، وأن محاولة النيل من الدين بهذا المعنى الجامع من قبل فئات ضالة، إنما يتم في كثير من الحالات عن طريق تحويل النصوص الدينية إلى معان غير مرادة لله ورسوله، ولا يتم لهم ذلك إلا بتجاوز أقوال العلماء الأثبات، ولا يمكن لهم أن يتجاوزوا أقوالهم إلا بعد الطعن في شخوصهم، والنيل من مكانتهم؛ فخلخلة المفاهيم الدينية ولاسيما مفهوم العبادة، بما يدخل تحته من مفاهيم فرعية كمفهوم الحجاب، والخمر، والجهاد، والربا ونحو ذلك، لا يتم لهم رأساً إلا بتمهيدات تضمن تشكيكاً في العلماء الأثبات، وتعظيماً للأقوال الشاذة.
دليل على صحة الدين
فَهْمُ العبادة في الإسلام بشمولها وكمالها، هو في الحقيقة أهم ما تتميز به شخصية المسلم الحق عن الشاكِّ المُخَلِّط؛ لأن المسلم لا يعد نفسه بعيداً عن الله في أي شيء يصدر عنه، بل يعد كل قول أو فعل يخرج منه ليس له إلا سبيلان: إما كتاب حسناته فهو طاعة، أو كتاب سيئاته فهو معصية، وهو في كل الأحوال عاملٌ عند الله، عبد من جملة عبيده؛ فليس من شأنه إلا أن يطيع؛ ولذلك يوجهنا الرسول صلى الله عليه وسلم توجيها إيجابياً في هذا الجانب، حتى يكون مفهومنا للعبادة مفهوماً صحيحا وعملياً فيقول: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة» (رواه الترمذي)، وفي حديث آخر يقول: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى فِيِّ امرأتك» (رواه ابن حبان)، ويقول: «ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة إلا كان له صدقة» (رواه البخاري)، ويقول: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء» (رواه الترمذي).
تحقيق العبادة سبيل النجاح
لقد فهم أسلافنا الذين بنوا الحضارة والمجد، ووحدوا الأمة تحت راية الإسلام، أن كمالهم إنما هو في تحقيق كمال عبوديتهم لله -تعالى- على هذا النحو؛ ولذلك يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية، ازداد كماله، وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق حين يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه؛ فإنه يكون أكمل فهو من أجهل الخلق وأضلهم» (العبودية ص75).
لاتوجد تعليقات