هل يحتاج التراث الإسلامي إلى تنقية؟
كثر في الآونة الأخيرة الحديث عمّا يسمى بتنقية التراث الإسلامي، وقد تولى كبر هذه القضية تيارات تنسب نفسها إلى التنوير والتجديد؛ فيقولون: إن في التراث دخيلاً يجب التخلص منه، وفي التراث نصوص لا يقبلها العقل، وأحكام لا تتناسب مع مجتمعاتنا وعصرنا اليوم، حتى قال بعضهم: لو جاء الشافعي لصنع مذهباً جديداً؛ ولأن الهوية الإسلامية إنما نشأت على فهم السلف (الذي هو التراث) كان لازماً علينا أن نناقش هذه القضية – تنقيح التراث – بشيء من الموضوعية والإنصاف، توعية للأجيال، ودفاعاً عن الموروث الثقافي لأعلام هذه الأمة وأفضلها، وهم الرعيل الأول، فهيا بنا أيها القارئ الكريم.
ما التراث؟
التراث والإرث والموروث يطلق على ما ورثه الناس ممن سبقهم، سواء كان مادياً أم معنوياً، وتراث الأمة: مَا لَهُ قِيمَةٌ بَاقِيَةٌ مِنْ عَادَاتٍ وَآدَابٍ وَعُلُومٍ وَفُنُونٍ، ويَنْتَقِلُ مِنْ جِيلٍ إِلَى جِيلٍ التُّرَاثُ الإنْسَانِيُّ، والتُّرَاثُ الإِسْلاَمِيُّ، والتُّرَاثُ الأَدَبِيُّ، ومنه أيضاً التراث الشعبي وهو الأثر الذي خلَّفته الحضارات، أو تركته الأجيال السابقة، وله قيمته الوطنية أو العالمية، ونسبته إلى الإسلام (التراث الإسلامي) يعني أنه يعلق بالعلوم الإسلامية، من عقيدة وسنة وتفسير وفقه وتاريخ وغير ذلك.
أنواع التراث الإسلامي
ينقسم التراث الإسلامي إلى قسمين: الأول تراث مقدس وهو الوحي الشريف القرآن والسنة، وهما مصدر الشريعة، ومعصومان عن الخطأ قال -تعالى-: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 3،4)، وقال -تعالى-: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} (المائدة: 50)، والقسم الثاني: التراث المحترم، الذي هو نتاج علم وعمل علماء الأمة، الذين تلقوا الوحي عن رسول الله[؛ فهذا وإن لم يكن مقدساً كقداسة الإسلام، إلا أنه نتاج علم قوم أقر النبي بعدالتهم وفقههم، وأنهم أفضل القرون، وكذا فهم أعلم الأمة وأقدرها على إخراج علمي شرعي منضبط بالقواعد، وهو غير معصوم كعصمة الوحي، بل هو قابل للصواب والخطأ، لكنه ناتج عن أتقياء علماء أئمة. {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا}(فاطر: 32).
هل يمكن الاستغناء عن التراث؟
يؤمن أهل السنة أن القرآن الكريم كلام الله -تعالى- غير مخلوق، وذلك دليل على أنه لا يمكن الاستغناء عنه؛ لأن من تبعيات القول بخلق القرآن، أن يكون محصوراً في زمانه الذي نزل فيه، لكن نؤمن أن كلام الله -تعالى- ليس خاصاً بزمن، بل هو خطاب للخلق كلهم في كل زمن، قال -تعالى-: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً}(سبأ: 28)، وقد جعل الله هذه الرسالة خاتمة الرسالات، ولو كان خاصاً بزمن، لبقي العالم إلى يوم القيامة بعد ذلك بغير هداية، وهذا من أعظم العبث؛ فلا يمكن الاستغناء عن الوحي؛ لأنه لا وحي بعده قال -تعالى-: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} (الأحزاب: 40)، وبما أن هذا التراث الإسلامي، تراث أمة لا تراث مكان معين، ولا إقليم معين، ولا مذهب معين؛ فإنه من هنا يكتسب قيمته وأهميته؛ لأنه تراث أمة مسلمة.
كيف نتعامل مع التراث؟
أولاً: التعامل الشرعي
في هذه النظرة الشرعية للتراث نجد أنها تُعنى بأمرين مهمين:
- الأمر الأول: أن ما كان مقدساً من التراث، كالقرآن، والسنة لا يمكن بحال من الأحوال التعرض لهما، كونهما رسالة الله -تعالى- إلى الناس، ولا يصح بحال التلاعب به لا زيادة ولا نقصاً، ولا تبديلاً فضلاً عن إخضاعه لعملية النقد البشري.
- الأمر الثاني: وهو الخاص بجهود العلماء وما خرج عنهم من علم؛ فهذا يجب الانطلاق منه والبناء عليه، والدعوة إلى تجاوزه مرفوضة، وهو وإن جاز نقده من أهل العلم للترجيح بين أقوال العلماء فيه؛ فإنه لا يمكن أن يتحول إلى مجرد ذاكرة مملوءة بالأخبار، لا ينتفع به ولا يلتفت إليه.
ثانياً التعامل الحداثي
في هذه الطريقة يقلل الحداثيون من قيمة التراث، بكونه -حسب زعمهم- مجرد آراء بشرية يمكن تجاوزها، أو صناعة آراء أخرى بشرية تساعد في الاستغناء عنها، وطالما كانت -بحسب زعمهم- مجرد آراء بشرية فهي قابلة للرفض، وغير صالحة لزمان غير زمانها، ويمكن اختصار رؤية الحداثيين لطريقة التعامل مع التراث بما يلي:
1- التنكر في التراث والرغبة الصريحة في تجاوزه، وبالتالي فإن أي دعوة إلى إحياء هذا التراث هي -في زعمهم- عودة إلى الماضي وعزوف عن المستقبل، وهذا يرجع إلى أن مذهبهم (الحداثة) هو القطيعة بينهم وبين كل قديم.
2- التوجه التوظيفي للتراث، الذي يعمل على قولبة التراث وتحريف بعض مكوناته أو انتقائها وتوظيفها لخدمة رؤية أيديولوجية معينة، ولا يتوانى أصحاب هذا التوجه في تزوير التراث وتحريفه بهدف توظيف الأمثل.
مصطلح تنقية التراث
لقد بدأ الحديث عما يسمى بتنقية التراث بعدما كتب طه حسين كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي أعلن أيضاً أنه ذاهبٌ مذهب ديكارت؛ حيث يقول: «إن القاعدة الأساسية في منهج ديكارت، أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل بحثه خالي الذهن، خلواً تاماً»، وهذا منهج خطأ؛ إذ الثقافة نفسها قائمة على منهج، ويجب أن يكون نقدها منها، لا أن يتخلى الباحث عنها وعن منهجها ثم يصنع منهجاً هو لينتقدها.
هل يحتاج التراث إلى تنقية؟
نرى من خلال تتبع مقالات التيارات التغريبية وحواراتها وتعليقاتها التي تتناول هذا المصطلح، أن التنقية في نظرهم تعني أمرين: الأول رفض ما لا يتوافق مع عقولهم، والثاني: إعادة تفسير النصوص الدينية تفسيراً عصرياً، يتم فيه تجاوز كتب التراث الأولى، وهذا بالتأكيد ليس منهجاً علمياً؛ لأن الغاية التي يريدونها من التنقية هي التجديد (تجديد التراث)، وتجديد التراث ينبغي أن يكون بعد الاعتراف بالتراث بوصفه حقيقة موضوعية، مع الإبقاء على أصوله الثابتة التي لا تقبل التغيير، بمعنى أن نفرق في دائرة الموروث بين ثوابت ومتغيرات نستبقي الأولى كما هي، وننطلق في ضوء ثباتها إلى تجديد الثانية.
التنقية في مذهب الأئمة الكبار
بالنظر إلى طبقات الأئمة، نجد أن عملهم في الدين، لم يكن مجرد نقل النص أو الفتوى، بل تطورت أعمالهم في آخر عهد الأمويين إلى نهاية القرن الرابع عشر تقريباً، حتى أصبحت المذاهب الفقهية مدارس علمية دقيقة، وقد تناول هذا الطور في هذه الفترة الأئمة العظام والأئمة المنتسبون ومجتهدو المذاهب وأهل الترجيح، وهؤلاء المتخصصون جميعاً عملوا على تحديد القواعد التي يقوم عليها المذهب قبل استخراج المسائل وبيان أحكامها، ومنهم من جاء بعد ذلك يستخرج المسائل التي لم يتكلم عنها الإمام ليستنبط أحكامها على طريقته ومنهاجه وقواعده، وهؤلاء من يسمون (مجتهدو المذاهب) وربما يخالفون إمامهم في المسائل المبنية على العرف، ويعبرون عن هذه المسائل بأنها ليست من قبيل اختلاف البرهان، بل من قبيل اختلاف العادات، وهؤلاء هم الذين يعتمد عليهم في تحقيق المذهب.
المجتهدون المرجحون
إذا كانت التنقية المقصودة هي الترجيح لبيان ضعيف الأقوال وصحيحها واستبعاد شاذها وخطئها؛ فإن طائفة (المجتهدين المرجحين) كانوا في المذاهب كلها، كالجصاص الرازي، والدبوسي، والحلواني، والسرخسي، في المذهب الحنفي، وكالقرافي والباجي، والمازري في المذهب المالكي، وكالشاشي، والإصطخري، في المذهب الشافعي، وكالخلال والخرقي وأبي يعلي في المذهب الحنبلي، وهؤلاء هم أعلم الناس بالتراث الفقهي وفي كل فرع من فروع العلم نجد أمثال هؤلاء؛ ففي الحديث مثلاً نجد علم مصطلح الحديث الذي يتناول الأحاديث؛ من حيث متنها وروايتها؛ فيبحث في أقسام الحديث، وفي معرفة الرجال، وفي تحمل الرواية من سماع أو عرض، أو إجازة، وبه علم العلل التي هي أسباب غامضة خفية قادحة في صحة الحديث، مع أن الظاهر السلامة منها، وهذا أكبر دليل على أن سلفنا الصالح أول من وضع القواعد للحفاظ على تراث الأمة، وأول من نقاه مما دخله من موضوعات في الأخبار وأغلاط من بعض الأفهام، وأن المزايدة عليهم إشارة إلى نية غير طيبة ممن يريد صناعة قواعد أخرى يتجاوز بها التراث بأنواعه؛ فالتنقية التي ينادون بها تعني التجاوز والتحريف وإعلان القطيعة مع الدين، وأخيرا: التراث يحتاج إلى تفعيل لا إلى تزوير وتحريف.
لاتوجد تعليقات