تلك حدود الله فلا تقربوها
إن اللهَ قد خَلَقَ الْإِنْسَانَ بعدَ أنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَصَوَّرَهُ بقدرته تَصْوِيرا، وَجَعَلَهُ عاقلا سَمِيعًا بَصِيرًا، أَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كُتُبَهُ، وَهَدَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا، لَمْ يَخْلُقْنَا عَبَثًا، وَلَمْ يَتْـرُكْنَا سُدًى وَهَمَلًا -تعالى اللهُ عن ذلك علوا كبيرا-؛ فقد قَالَ -تَعَالَى-: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (المؤمنون: 115 - 116)، بَلْ خَلَقَنَا سُبْحَانَهُ لعبادته، وتَوْحِيدِه وَطَاعَتِه، وَإِخْلَاصِ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ وحدَه، وَإِقَامَةِ شَرْعِهِ، وَالْتِزَامِ حُدُودِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56).
ومما ذكره الله من حدوده ما جاء في قوله -تعالى- في ثنايا آيات الصيام: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (البقرة: 187). تلك المذكوراتُ من تحريم المفَطِّرات في الصيام، وتحريمِ الفطرِ على غير المعذور، وتحريمِ الوطء على المعتكف، {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} التي حدها لعباده، ونهاهم عنها؛ فقال: {فَلَا تَقْرَبُوهَا}.
تنظيم العلاقات الزوجية
ومما ذكره الله من حدوده ما بينه -سبحانه- في تنظيم العلاقات الزوجية، وذلك لأهميتها البالغة، ومن ذلك حَدُّ الظِّهَارِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -سبحانه- أَنَّ الظِّهَارَ مَعْصِيَةٌ، وَبَيَّنَ كَفَّارَتَهُ الْمَذْكُورَةَ، وبَيَّنَ -سبحانه- أن ذلك من حدوده التي حدها لعباده؛ فَمَنْ تَعَدَّاهَا فقد عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ -تَعَالَى-: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المجادلة: 3 -4).
حَدُّ الْخُلْعِ
ومما جاء في الحدود في العلاقات الزوجية كذلك حَدُّ الْخُلْعِ، وذلك في قوله -تعالى-: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(البقرة: 229)، فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ -تَعَالَى- تَجَاوُزَ حُدُودِهِ الَّتِي حَدَّهَا فِي الْعَلَاقَاتِ الزَّوْجِيَّةِ، وَوَصَفَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَنْ يَقَعُونَ فِيهَا بِأَنَّهُمْ هُمُ الظَّالِمُونَ؛ لِأَنَّهُمْ تَجَاوَزُوا مَا حَرَّمَ اللهُ وَنَهَى عَنْهُ -سبحانه.
حَدُّ الْعِدَّةِ
ومما جاء في الحدود في العلاقات الزوجية كذلك حَدُّ الْعِدَّةِ؛ وذلك لِمَنْعِ الضِّرَارِ وَبَيَانِ الْمُدَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لِاعْتِدَادِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ. قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ}(الطلاق: 1)، وبين -سبحانه- حَدَّ الطَّلَاقِ الرجعي للمدخول عليها من غير الحوامل؛ فقال -تعالى-: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}(البقرة: 228)، ونهى عن خروجها وإِخْرَاجِهَا مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا؛ فقَالَ -تَعَالَى-: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}(الطلاق: 1)؛ فمن تعدى هذه الحدودَ الربانية {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} -والعياذ بالله.
حكم الرجعة
ومما جاء في الحدود في العلاقات الزوجية كذلك قولُه -تعالى- في حكم الرجعة: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(البقرة: 230).
حَدُّ الْمِيرَاثِ
ومما جاء في الحدود في العلاقات الأسرية كذلك حَدُّ الْمِيرَاثِ؛ فبين -سبحانه- الْقِسْمَةَ الَّتِي فَرَضَهَا لعباده في ذلك، ونهى عن مجاوزة ذلك؛ فمن شاقَّ اللهَ في حُكمِهِ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِعِقَابِ اللهِ وَعَذَابِه؛ لأنه لَمْ يَرْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- بَعْدَ بَيَانِ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (النساء: 14).
حدود الشرع
وهكذا فقد بَيَّنَ اللهُ -تعالى- لنا حدودَ شرعه، وأرسل إلينا رسولَه صلى الله عليه وسلم ليبين لنا أوامرَ اللهِ ونواهِيه؛ فقال فيصما حده من الأوامر: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (البقرة: 229)، وقال فيما حده من النواهي: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}(البقرة: 187)؛ لأن من اقترب من المحرمات؛ فإنه يوشِكُ أن يقع فيها -والعياذ بالله-، كما قال في شأن الزنا: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}(الإِسراء: 32)؛ فنهى عن كلِّ ما قد يؤدي إلى الوقوع في هذه الكبيرة.
الوقوع في الشبهات
كما نهانا عن الوقوع في الشبهات احترازا من الوقوع في المحرمات؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ»(متفق عليه).
بشارة عظيمة
فاحفظوا حدودَ الله، علما وعملا، فعلا وتركا، حَسْبَما أمر الله؛ فإنكم موعودون على ذلك ببشارة عظيمة من الله، القائلِ -جل في علاه-: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (التوبة: 112).
لاتوجد تعليقات