شبهة الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي
اتَّفق سلف الأمة على أنه لا حجَّة لأحد على الله في تركِ واجب، ولا في فعل محرَّم، وتصديق ذلك في كتاب الله قوله -تعالى-: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 149)، والمعنى: «لا حجَّة لأحد عصى الله، ولكن لله الحجة البالغة على عباده»، قاله الربيع بن أنس -رحمه الله.
فمن احتجَّ بالقدر على ترك ما أُمر بفعله، أو على فعل ما نُهي عنه، أو دفع ما جاءت به نصوص الكتاب والسنة في الوعد والوعيد، فقد أعظم الفرية على الله -تعالى- وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويلزم على قولهم لوازم باطلة، كإسقاط الحدود والعقوبات عن جميع أهل الجرائم، إذ كيف يعاقبون وتقام عليهم الحدود وهم غير قادرين بل مجبورون؟! فهذا القول الباطل مخالف لجميع أصول الدين وفروعه، وفي هذه المقالة بيان -بما يناسب المقام- لوجوهِ إبطال شبهات الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي والذنوب، ثم دحض أشهر ما احتجّوا به على ذلك.
إبطال القرآن الكريم للشبهة
أولًا: إبطال القرآن الكريم لشبهة الاحتجاج بالقدر من وجوه عدة:
الوجه الأول
الإيمان بالقدر لا ينافي اختيار العبد
أن الإيمان بالقدر لا ينافي اختيار العبد وقدرته على الفعل، قد دلَّ الشرع والواقع على أن للعبد مشيئةً واختيارًا وقدرةً على الفعل، قال -تعالى-: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} (المزمل: 19)، والمعنى: فمن شاء من الخلق اتَّخذ إلى ربِّه طريقًا بالإيمان به، والعمل بطاعته([3])، فأثبت الله -تعالى- للعبد مشيئة واختيارًا، والواقع شاهد على ذلك، حيث إن كل إنسان يعلم من نفسه أن له مشيئةً وقدرة واختيارًا فيما يفعل ويترك، على أن مشيئة العبد وقدرته واختياره واقعة بمشيئة الله -تعالى- وقدرته، قال -تعالى-: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (الإنسان: 30).
الله -تعالى- أمر عباده ونهاهم
وقد أمر الله -تعالى- عباده ونهاهم، ووعد الطائعين بجنته ورضوانه، وأوعد العاصين بأليم عقابه ونيرانه، وهو -سبحانه- لم يكلِّف عبادَه إلا ما في وسعهم ويستطيعون القيام به، فقال -سبحانه-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286)، وقال قال -عز وجل-: به، فقال ؟؟؟؟: وترك كتبالشيخان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه -عز وجل-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} (التغابن: 16)، وقال تقدست أسماؤه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} (الطلاق: 7)، فأثبتتِ الآيات للعبد قدرة واكتسابًا، فلو كان العبد مجبورًا على فعل المعصية، لكان مكلفًا بما لا يستطيع، وهذا باطل بنص الآيات الكريمات.
الوجه الثاني
الردّ على المشركين المحتجين بالقدر
أصلُ الاحتجاج بالقدر، إنما هو من قول المشركين الذين اتبعوا أهواءهم بغير علم، فقد أخبرنا الله -تعالى- بقيلهم وأبطل شبهاتهم في غير آية من كتابه العزيز، ومنها قوله -سبحانه-: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148).
الردَّ الدامغَ
وتأمَّل هذا الردَّ الدامغَ على تلك الشبهاتِ التي تشبَّث بها المشركون في شركهم وتحريمهم لما حرَّموا، مدَّعين بأن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك والتحريم لما حرَّموه، وهو قادر على تغييره بأن يلهمهم الإيمانَ، أو يحول بينهم وبين الكفر، فلم يغيره، فزعموا باطلًا أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منهم فعلوا ذلك، وقد أبطل الله تلك الشبهةَ، وبيَّن أنها حجَّة داحضَة باطلة، لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه، وأليم عقابه وانتقامه، ثم يسألهم: هل عندكم من علم بأن الله -تعالى- راضٍ عنكم فيما أنتم فيه، فتظهروه لنا وتبينوه وتبرزوه؟! ولما كان المتكلّم العليم الخبير -سبحانه- جازمًا بانتفاء ذلك أعقبَه بالجواب: إن تتَّبعون إلا الاعتقادَ الفاسد، وما هو إلا الوهم والخيال، وإن أنتم إلا تكذبون على الله فيما ادَّعيتموه.
الوجه الثالث
قيام الحجة بإرسال الرسل لا بالقدر
قد بيَّن الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العزيزِ أن الحجةَ قد ثبتت وقامت على الناس جميعًا بإرسال الرسل، ولو كان القدر حجةً تصلح للاحتجاج بها على المعاصي لما انتفت الحجة بإرسال الرسل، يقول الله -تعالى-: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء: 165)، فمن وظائف الرسل أنهم يبشّرون من أطاع الله -تعالى- بالخيرات والرضوان، وينذرون من عصى الله -تعالى- وخالف أمره بالخزي والخسران، لئلا يبقى لمعتذر حجّة واعتذار.
دلالة السنة
ثانيًا: دلالة السنة على بطلان شبهة الاحتجاج بالقدر على المعاصي: دلَّت السنة المطهَّرة على بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي والذنوب في أحاديث كثيرة، ومنها: ما رواه الشيخان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: «ما منكم من أحد -ما من نفس منفوسة- إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة»، قال: فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟! فقال: «من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة، فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة»، فقال: «اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة، فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة»، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (الليل: 5-10)، ففي هذا الحديث تصريحٌ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل، وعدم الاتكال والاعتماد على القدر، يقول الإمام الطبري: «هذا الذي انقدَح في قلب الرجل هي شبهة النافين للقدر، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بما لم يبق معه إشكال، وتقرير جوابه: أن الله -سبحانه- غيّب عنَّا المقادير، وجعل الأعمالَ أدلة على ما سبقت به مشيئته من ذلك، فأمرنا بالعمل، فلا بد لنا من امتثال أمره».
نقض الفطرة
ثالثًا: نقض الفطرة لشبهة المحتجّين بالقدر على المعاصي: من المستقرّ في فطرة كلّ عاقل: أن من ذمَّك ذممته، ومن عابك عِبته، ومن ظلمك في نفسك أو مالك عاملته معاملة الظالم، وهنا يتوجَّه السؤال لهؤلاء المحتجين بالقدر على فعل المعاصي: كيف يعذر الواحد منهم نفسَه إذا عصى الله -تعالى-، ولا يعذر الناس إذا ذموه أو ظلموه، بل يبغضهم ويذمهم، ويقابلهم على ظلمهم بما يقدر عليه؟! إذا تبين هذا: علم أنَّ المحتجَ بالقدر على المعاصي، كما أنه مخالف للشرع والعقل، فهو مخالف للفطرة التي فطر عليها كل أحد.
نقض العقل
رابعًا: نقض العقل لشبهة المحتجين بالقدر على المعاصي: لا شكَّ أن الإنسان يسعَى في هذه الحياة آخذًا بالأسباب لجلب ما ينفعه ودفع ما يضره، فما بال بعضهم يحتجّ بالقدر على مخالفته لأمر الله -تعالى-، حيث يعدل عمَّا ينفعه في أمور دينه، بارتكاب ما نهى الله -تعالى- عنه متعلِّلًا بالقدر، ويتبادر إلى الذهن سؤال: أليس الشأن واحدًا؟! فلماذا لا يكون النهجُ واحدًا؟!
بالمثال يتضح المقال
فلو كان بين يدي الإنسان طريقان: أحدهما ينتهي به إلى بلد كلها فوضى، وقتل، ونهب، وانتهاك للأعراض، وخوف وجوع، والثاني ينتهي به إلى بلد كلّها نظام، وأمن مستتبّ، وعيش رغيد، واحترام للنفوس والأعراض والأموال، فأيُّ الطريقين يسلك؟ إنه سيسلك الطريقَ الثاني الذي ينتهي به إلى بلد النظام والأمن، ولا يمكن لأي عاقل أبدًا أن يسلك طريق بلد الفوضى والخوف ويحتج بالقدر، فلماذا يسلك في أمر الآخرة طريق النار دون الجنة ويحتج بالقدر؟
شبهة الاحتجاج ببعض آيات القرآن
ادَّعى بعضهم تقوية مقولتهم بقوله -تعالى-: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} (الأنعام: 106، 107)، فأخبر -سبحانه- أن شركهم واقع بمشيئة الله -تعالى.
والجواب عن ذلك نقول: نعم في الآية إخبار من الله -تعالى- بأن شركهم واقع بمشيئته -تعالى-، والمعنى: «لو أراد ربك هدايتهم واستنقاذهم من ضلالتهم للطف لهم بتوفيقه إياهم فلم يشركوا به شيئًا، ولآمنوا بك فاتبعوك وصدقوا ما جئتهم به من الحق من عند ربك»، وليس في الآية إثبات للعذر لهم في شركهم، وقد أبطل الله -سبحانه- عذرهم في قوله -تعالى-: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148)، وقد تقدَّم بيان وجه الدلالة فيها.
شبهة الاحتجاج بمحاجَّة آدم موسى
ادَّعى بعضهم الاحتجاج بالقدر على المعاصي بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «احتج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق!»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فحج آدمُ موسى مرتين.
والجواب عن ذلك: قد أجاب العلماء عن تلك الشبهة بأجوبة كثيرة، ويمكن تلخيصها فيما يلي: منزلة سيدنا آدم -عليه السلام- كبيرة، وهو نبيّ يوحى إليه، وقد بلغ من العلم مبلغًا عظيمًا، يمتنع معه أن يحتجَّ بالقدر على فعل الذنوب والمعاصي، وموسى -عليه السلام- قام بتوجيه اللوم إلى آدم -عليه السلام- بسبب المصيبة التي وقعت عليه وعلى ذريته بالخروج من الجنة، ولم يكن لومه موجهًا إليه بسبب الذنب، ذلك أن الله -تعالى- قد تاب على آدم واجتباه، فقال -تعالى-: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (طه: 121، 122)، فكيف يلومه موسى على ذنب قد تاب منه؟!، حينئذٍ قام آدم بمحاجّة موسى مستدلًّا بأن ما وقع من المصيبة -وليس الذنب الذي تاب منه- إنما كان بقدر من الله -تعالى-، قبل أن يخلق آدم، وبهذا حج آدمُ موسى، وغلبه بالحجة، فالسعيد يستغفر من المعائب، ويصبر على المصائب، كما قال -تعالى-: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (غافر: 55)، والشقيّ يجزع عند المصائب، ويحتج بالقدر على المعائب.
لاتوجد تعليقات