فـي رحــاب الآخـرة
في رحاب الآخرة موضوعٌ جدير بأن يُتحدّث ويكثُرَ الكلام فيه؛ ذلك لأن النبيصلى الله عليه وسلم أمر بالإكثار من ذكر الموت؛ لأن الموت بوابة إلى الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم «أكثروا من ذكر هادم اللذات»، وهادم اللذات ومفرّق الجماعات وقاطع الآجالوالأعمال بإذن الله هو الموت.
مقدمات مختصرة
وسأضع مقدمات مختصرة بين يدي كلامي هذا فأقول:
ذكر الآخرة
إن تذكّر الآخرة والموت، فضلاً عن أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتكثّر من ذكره، إلا أنه في مثل هذه الأزمان أولى لكثرة الغفلة عن ذكر الموت ولكثرة الإقبال على الدنيا وملذاتها؛ وقد ذكر أهل العلم أن التعبّد لله القولي والفعلي والقلبي في أوقات الفتن وغفلة الناس من أعظم الأمور نفعا للناس، ويشهدُ لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهرج كهجرة إليّ»، ومَـثــّلَ أهل العلم بحديث دعاء دخول السوق أجر من العمل اليسير، ولكن الأجر عظيم، قال أهل العلم: وإنما عظم الأجر في أوقات الفتن؛ لأن أكثر الناس يذهل عن التعبد لله، أو تقل رغبته وتضعف عزيمته عن التفرغ للتعبد، كذلك في السوق تجدُ قيل وقال وأيمان، وكثرة سؤال؛ فيغفل النّاس عن الذّكر؛ فإذا دخل العبدُ السوق وذكر هذا الذّكر عـظـُمَ أجره؛ لأن قلبه في السوق سيكون مع هذه الفتن ومع اللهو ومع الأيمان الكاذبة؛ فإذا ذكر الله بقيَ قلبه معلقا بالله -جل وعلا-، وقد سُمّيت الآخرة بذلك؛ لأن قبلها دار أُولى؛ ولهذا يقال التشهد الأخير؛ لأن قبله تشهداً أولاً، والآخرة هي دار المقر والتي قبلها دارُ ممر إلا أن بين الدارين دارٌ أخرى سيأتي الكلام عنها إن شاء الله.
الحياة الدنيا وقتية زائلة
الأمر الأول الذي يجب أن نذكره، أن الحياة الدنيا وقتية زائلة، وقد ذكر أهل العلم أنها سُمّيت بالدنيا لعلل، منها لدنوّ أجلها وأنها زائلة عن قريب، قال -تعالى-: {اقتربت الساعة وانشق القمر}، وأيضا في قوله -تعالى-: {اقترب للناس حسابهم}، {وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا}، وذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : «جاءت الآخرة مقبلة، وارتحلت الدنيا مدبرة، ولكل منهما بنون؛ فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل بلا حساب، وغدا حساب بلا عمل»؛ فالدنيا قد آذنت بالرحيل، أزفت، الله -جل وعلا- يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : «اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون»، وهذا قبل مئات السنين، والقرب كان نسبيا، والآن زاد قرب الدنيا من زوالها .
دناءة الدنيا
الأمر الثاني: قيل أن الدنيا سميت بذلك لدنائتها بالنسبة لنعيم الآخرة؛ ولذلك الشافعي نسب إليه أنه يقول عن الدنيا: وما هي إلا جيفة مستحيلة
عليها كلاب همهنّ اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها
وإن تجتذبها نازعتك كلابها
والمراد أهل الحرص والجشع والطمع .
نهاية الدنيا
الأمر الثالث: نهاية الدنيا على قسمين، نهاية شخصية عينية للفرد بذاته، ونهاية عامة للدنيا بسننها الكونية، ولهذا قال العلماء عندما تكلموا عن تقسيم الساعة، قالوا: الساعة تنقسم لأقسام ثلاث: ساعة صغرى، وساعة وسطى، وساعة كبرى. أما الساعة الصغرى فهي موت الشخص؛ فإذا مات فلان قالوا قامت قيامته، أما الساعة الوسطى الموت الجماعي لأهل قـُطر معين أو في زمنٍ معين؛ فيقال أهلُ البلد الفلاني، قالوا قامت قيامتهم إذا أصابهم موت جماعي بحرب أو كارثة بحرية أو جوية، أما السّاعة الكبرى فهي التي تتغير فيها السّنن التي أجراها الله لهذه الدنيا، قال -تعالى-: {إذا السماء انشقت وأذنت لربّها وحقت}، وقال -تعالى-: {وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلّت}، وقال -تعالى-: {إذا السماء انفطرت}، وقال -تعالى-: {إذا الشمس كورت}، إلى آخر ما جاء في هذا السياق من الآيات الكريمة .
الموت حق
الأمر الرابع: أن الموت حق، بل قال بعض العلماء الموت لا يجادل فيه أحد، فالأمور الغيبية يخوض فيها العقل؛ فيُقدم ويؤخّر ويُقبّح ويحسن ويمدح ويقدح، لكن هناك أمر أو هناك أمور منها: الموت لا مجال للعقل أن يتردد ويخوض فيه، علم الغيب وما أعد الله للناس من النعيم والجحيم أنكره قوم منهم كفار قريش أنكروا البعث، قال -تعالى-: {أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون}، وقال -تعالى-: {أئذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة}، وقال -تعالى-: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا أنكم مبعوثون}، هذا مستحيل في عقولهم القاصرة لكن ما يستطيعون إنكار الموت، ولن تجد أحدا مهما كان اعتقاده أو ديانته مهما بلغ ضلاله ينكر الموت، كفار قريش أنكروا البعث لكنهم لم ينكروا الموت قالوا: {أإذا متنا وكنا ترابا ...}؛ لأن الموت يمر على كل أحد منا.
الموت كأس وكل الناس شاربه.
ولا يعرف الموت بواباً ولا حرسا.
استغلق بسره على الحكماء وأعجز بأمره العظماء والعلماء، فلان بيننا خرجت روحه، مات، الجوارح موجودة والجسد موجود، إلا أنه لا يستطيع حراكا ولا همسا، طفل صغير في حضن أمه تخاف عليه أكثر من خوفها على نفسها لا تستطيع الأم بما تملك من الرحمة والشفقة و الحنان أن ترد عنه الموت، ثري يملك الذهب والفضة لا يستطيع رد الموت ، أبدا ، كل نفس ذائقة الموت، قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- وفي هذه الآية تعزية لجميع الناس، إذاً الموت أمر لابد أن يمر به كل واحد منهم مهما فعل، مهما طال الأجل؛ فإذا حملت إلى القبور جنازة فاعلم بأنك بعدها محمول.
مصير الميت
الأمر الخامس: إذا كان الموت نقلة للإنسان من هذه الحياة والدار الفانية إلى الدار الباقية، ما مصير هذ الميت؟ ما مآله؟ علمه عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، إلا أن هناك مُبشّرات جعلها الله دلائل خير وبشائر خير يفرح بها العبد ويسر بها وينشرح صدره، وينشط بسلوك درب الخير إن كان مقصرا، في الحياة الدنيا هناك المنامات الصالحة قد تكون مبشّرات؛ ففي البخاري في كتاب التعبير(باب المبشرات) فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات قال الرؤيا الصالحة»، وبعد الموت هناك الرؤى قد ترى في الميت؛ فيفرح ويسر من رآها إذا كان الموت عزيزا عليه، لكن هناك بوادر لحسن الخاتمة، وقرائن تدل على خيرية لهذا الميت، وهي التي سمّاها أهل العلم بعلامات حسن الخاتمة، وقد ذكر بعض أهل العلم حصراً أو جمعا لها مما يستأنس به عند احتضار الميت علامات.
ضابط أهل العلم
لكن قبل ذكر هذه العلامات ينبغي أن نعلم ضابط أهل العلم، يقول عبدالحق الإشبيلي في كتاب العاقبة: «اعلم أنه لم يعرف أن الله ختم لعبد بخاتم سوء إذا كان ذلك العبد مقيما بقلبه ويظهر لجوارحه على طاعة الله، وقد عرف عند الناس بالخير»؛ فالله -جل وعلا- لا يظلم مثقال ذره وإن تكن حسنة يضاعفها، وصاحب الخير قد يختم له بعلامة خير، وقد يموت الإنسان موتا عاديًا وهو على خير في حياته وهذا يرجى له الخير، لكن هناك علامات تحصل لابن آدم وهي بشائر، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة»، قد يموتُ بعض الناس وهم صُمتا لم يتكلموا وهم على خير إن كانت سيرتهم حسنة وقد أدّوا ما فرض الله عليهم، لكن هذه العلامة يتفاءل بها لصاحبها زيادة.
النطق بالشهادتين
ذكروا في كتب التراجم أن الإمام الرازي المحدّث المشهور لما ثقل عليه مرض الموت، أراد تلاميذه أن يلقنوه الشهادة؛ فهابوا من وضاءة وجهه مما يعلوه من الهيبة؛ فتذاكروا عنده حديثا وهو قوله صلى الله عليه وسلم : «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة»؛ فأخذوا يذكرون أستاذهم؛ فقدّموا في رجل وأخـّروا في رجل؛ فأشار لهم بيد إشارة ضعيفة! فهم تعمّدوا الخطأ حتى يذكّروه بالحديث؛ فقال لهم بصوت خافت: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجن»، ثم مات من ساعته -رحمه الله-؛ فهذه علامة خير.
موت المؤمن بمرض البطن
علامة أخرى من علامات حسن الخاتمة، أن يموت من أدّى فرائض الله وما أوجب الله عليه أن يموت بمرض البطن، قال صلى الله عليه وسلم: (ما تعدّون الشهيد فيكم؟ قالوا يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال صلى الله عليه وسلم إن شهداء أمتي إذا لقيليل ثم قال: المبطون شهيد)، قال أهل العلم من مات بداء البطن في أي مرض من أمراض البطن، ثم قال صلى الله عليه وسلم (والحرق شهيد) - وفي لفظ والحريق شهيد - من مات محترقا، وعلامة أخرى قال صلى الله عليه وسلم: ( والغرق - وفي لفظ والغريق شهيد)، وعلامة خامسة قال صلى الله عليه وسلم: (والهدم شهيد)، –أي من هدم عليه شيء فهو شهيد– وقاس عليها بعض العلماء المعاصرين الحوادث وما يتعلق بالسيارات والطائرات وما شاكلها.
الموت في سبيل الله
أيضا من علامات حسن الخاتمة الموت في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم : «للشهيد عن الله خمس وفي لفظ ست وفي لفظ سبع خصال –حديث المقداد رضي الله عنه – وعدّ منها يغفر له عند أول دفعة من دمه، ويزوج سبعين من الحور، ويتشفع في سبعين من أهل بيته، ويلبس تاج الوقار ، ويأمن الفتن»، كل هذه علامات وبشائر.
موت المرأة عند ولادتها
أيضا من علامات حسن الخاتمة أن تموت المرأة عند ولادتها قال صلى الله عليه وسلم : «والمرأة تموت بجمع شهيدة»، قال بعض العلماء في بعض الروايات: «يأخذها ولدها بسررها إلى الجنة»، إذا ماتت من آلام الحمل وهذا مما يوجب عظيم منزلة الوالدين، ولاسيما الوالدة لِما لها من الحقّ العظيم والمكانة الشريفة والشأن الجليل.
الموت بالطاّعون
أيضا من علامات حسن الخاتمة الموت بالطاّعون قال صلى الله عليه وسلم : «المطعون شهيد»، والطاعون مرض معروف قاس عليه بعض أهل العلم مرضى السرطان -عافانا الله وإياكم ورزق من ابتلي به الأجر والشفاء .
الموت دافعاً عن العرض
أيضا من علامات حسن الخاتمة أن يموتَ الإنسان مدافعاً عن عرضه، أو ماله، أو نفسه، قال صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون عرضه فهو شهيد ومن قتل دون نفسه فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد).
فائدة فقهية
كل هذه علامات يستأنس بها ويفرح بها لمن مات عليها، لنكن هنا فائدة فقهية، وهي أن الشهيد شهيدان كما قال العلماء شهادة حُكمية وحقيقية، الحقيقية من قتل في سبيل الله في المعركة مقبلا غير مدبرًا هو شهيد، وله أحكام الشهيد، لكن من جاء به الحديث في وصفه شهيد كالغرق والهدم؛ فهؤلاء لهم الشهادة الحكمية، يعاملون كما يعامل الموتى من الغسل والكفن وما شاكلها.
لاتوجد تعليقات