العمل الإغاثي وتقنية الطائرات دون طيار
من أكثر المشكلات تعقيدًا في أثناء عمليات الإغاثة وإدارة الكوارث في الحروب والنوازل والأزمات صعوبات الوصول إلى ميدان الكارثة وإنزال المساعدات، وإجلاء الجرحى والمصابين، ورفع الجثث تمهيدًا لدفنها تجنبًا لانتشار الأوبئة؛ فالإنزال الحالي في أوقات الأزمات يعتمد على الطائرات التقليدية والمروحيات، وهي عملية مكلفة ومعقدة للغاية، ولاسيما أن تلك الطائرات تواجه صعوبات شديدة في الوصول إلى المناطق الوعرة وفي الحرائق وأثناء الحروب.
تزداد الصعوبة في عدم جاهزية معظم فرق الإغاثة للقفز المظلي في الأماكن المستقرة، فما بالنا بالقفز في وسط المخاطر المهلكة وتداعيات الأزمة الكارثية؟! كما أن العشوائية في إنزال المعونات سمت مصاحب لتوزيع المعونات الغذائية والكسائية والمستلزمات الطبية عبر الطائرات التقليدية في أوساط الأزمات، فهو إنزال يصاحبه الكثير من التلفيات للمعونات، وضعف وصولها إلى المستهدفين من المنكوبين، مع عدم وصولها في أحيان كثيرة لفرق الإغاثة والمتطوعين لإدارة توزيع تلك المعونات في ميدان الكارثة.
أهمية تلك التقنية
من هنا برزت أهمية تقنية الطائرات دون طيار الجديدة وسريعة التطور والمتحكم فيها رقميًا عن بعد، وذلك في توظيفها في ميدان الإغاثة وإدارة الكوارث. البداية كانت من سنوات قليلة وبطريقة اختبارية؛ حيث وظّفت في تحديد أماكن الضحايا في بعض الأعاصير التي ضربت مناطق جنوب شرق أسيا، تحديدًا خلال إعصار (هايان) في الفلبين في عام 2013، الذي تسبب في مقتل أكثر من عشرة آلاف شخص، وخسائر مادية بالمليارات، ونجحت التجارب المبدئية لاستخدام الطائرات دون طيار في تحديد أماكن بعض الوفيات والمصابين؛ مما سهل على أطقم الإغاثة الأرضية أن تصل إلى الأماكن بيسر بعد أن كانت تعتمد على المسح البشري عبر الكلاب المدربة، أو من خلال طائرات (الهليكوبتر) التي كانت تواجه صعوبات كثيرة، ولا تأتي بالنتائج الكافية فضلاً عن التكلفة العالية المصاحبة للطيران، والمخاطر التي تواجهها مثل فقدان الطائرات وفرقها أحيانًا.
عشرات الطائرات
وعبر الأعوام الثلاثة المنصرمة استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية عشرات الطائرات دون طيار لتحديد مواقع المفقودين في الأعاصير التي ضربتها، كما ساعدتها الطائرات في تحديد خريطة انتشارية الكوارث، وتقدير حجم الخسائر المادية التي خلفتها تلك الأعاصير عبر المسح الجوي عالي التقنية، وفعلا نجحت الطائرات دون طيار في مهمتها بكفاءة عالية.
المفوضية السامية
كما قامت المفوضية السامية للاجئين باستخدام الطائرات دون طيار لمساعدة السكان النازحين في إفريقيا؛ حيث تم استخدام الطائرات دون طيار استخداما كبيرا في (النيجر) و(بوركينا فاسو) و(أوغندا) للمساعدة في تحديد السكان النازحين بأعداد ضخمة، وتقييم احتياجاتهم، ومعرفة أفضل طريقة لحصولهم على المساعدة، مع تقييم الضرر البيئي الناجم عن النزوح، وفي ذلك يقول (أندرو هاربر) -رئيس وحدة الابتكار التابعة للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين-: «الاستخدام المحتمل للطائرات دون طيار (كبير)؛ فهناك العديد من الاستخدامات السلمية لهذه التكنولوجيا، سواء في حقوق الإنسان أم في تقديم الإغاثة أم في تحديد المخيمات».
إيقاع سريع
إن تطوير الطائرات دون طيار عموما يجري بإيقاع سريع، واهتمام شديد من الدول المتقدمة تكنولوجيًا غربًا وشرقًا، وهو تطور يتناسب طرديًا مع التطور التكنولوجي السريع، والتطوير من أجل التوظيف الإغاثي يسير تقنيًا أيضًا بالوتيرة التطويرية نفسها؛ ففي سويسرا مثلا يوجد (المعهد التقني الفدرالي العالي) الذي أصبح حاضنًا لما يعرف بـ(وادي الطائرة دون طيار)، ويضم حاليًا حوالي ثمانين شركة تطوير طائرات دون طيار، وتهتم بصناعة طائرات دون طيار، وتعمل في مجال الإغاثة وإنقاذ الأرواح وإطفاء الحرائق.
التفاتة دولية
من الواضح إذاً أن هناك التفاتة دولية لأهمية توظيف الطائرات دون طيار في أعمال الإغاثة، وقد أدرجت فعلا تلك التقنية ضمن السياسات الإغاثية لبعض المنظمات الدولية المعنية بالإغاثة؛ فالأمم المتحدة -مثلا وعبر مفوضية شؤون اللاجئين- لديها وحدة تقنية متعلقة بالابتكار، تحاول من خلالها مواكبة التطورات التكنولوجية لتوظيفها في المجال الإنساني ولاسيما العمل الإغاثي، والطائرات دون طيار هي إحدى الاهتمامات التقنية المتابع تطورها وبحث آليات توظيفها إغاثيًا.
نموذج مفتقد
وهذا أنموذج مفتقد لدى غالبية المنظمات الإغاثية والخيرية في عالمنا الإسلامي، سواء على مستوى وحدة الابتكار، أم على مستوى الالتفات لهذه التقنية الجديدة التي يتوقع لها تكنولوجيًا ولوجستيًا أن تحدث تغييرًا كبيرًا خلال السنوات العشر القادمة -بإذن الله- على مستوى إدارة الكوارث والأزمات وتقديم الخدمات الإغاثية، وعليه فإن المؤسسات الإغاثية في العالم الإسلامي ستجد نفسها مدفوعة طبيعيًا لتوظيف تلك التقنية -تقنية الطائرات دون طيار- في أعمالها الإغاثية مواكبة للتوظيف الإغاثي العالمي لها، بل حاليا هناك بعض الاستخدامات العملية الفعلية التي دخلت الميدان الإغاثي كما أوضحنا، ويمكن للمؤسسات الإغاثية لدينا توظيفها بما يحقق أفضل النتائج على مستوى إدارة الأزمات ومواجهة تداعيات الكوارث.
تحديات وعقبات
وحتى تكون المؤسسات الإغاثية في العالم الإسلامي على المسافة نفسها التي تقفها المؤسسات الإغاثية الدولية من تقنية الطائرات دون طيار فإن هناك بعض التحديات التي نرى أهمية تسليط الضوء عليها، المتمثلة في الآتي:
المظلة التشريعية
لابد ابتداءً من المظلة التشريعية التي تنظم توظيف الطائرات دون طيار إغاثيًا وتضبطها، وتفصلها عن المحاذير كافة المرتبطة بعمل تلك الطائرات المسيرة داخل الدول الإسلامية؛ وهذه المظلة لن تتأتى إلا إذا تولد الإيمان التام لدى الجهات المعنية كافة بأهمية التوظيف الإغاثي للطائرات دون طيار، ومن ثم وضعها ضمن السياسات العامة المرتبطة بالأعمال الإغاثية للدول الإسلامية، والمؤسسات الإغاثية المنتمية إليها.
التنسيق مع الجهات المعنية
أن يكون الإشراف على التوظيف الإغاثي للطائرات دون طيار تنسيقيًا بين المؤسسات الإغاثية والجهات المعنية بتنظيم التحليق الجوي وضبط مساراته.
وحدات للمتابعة
ضرورة استحداث وحدات للمتابعة التقنية والتطوير والتدريب التكنولوجي داخل المؤسسات الإغاثية في العالم الإسلامي، تكون مهمتها متابعة المستجدات التكنولوجية كافة المتعلقة بتوظيف الطائرات دون طيار إغاثيًا، وتوفير المستلزمات التقنية، المطلوبة لإدارة المؤسسات الإغاثية لتلك الطائرات المسيرة، وتنظيم البرامج التدريبة اللازمة لإعداد الكوادر الفنية والوظيفية المصاحبة لعملية توظيف تلك التقنية الحديثة إغاثيًا.
دراسة موسعة
أن تجري المؤسسات الإغاثية دراسة موسعة عن ميدان الطائرات دون طيار والمصنعة خصيصًا للعمل الإغاثي؛ تشمل الأبعاد التقنية والتشريعية والاقتصادية واللوجستية والفنية كافة، مع الدراسة التقييمية لتجارب التوظيف الإغاثي الدولي لها، لتعقد بعدها مجموعة من ورش العمل التفاعلية بين الخبراء المعنيين لمناقشة النتائج وبلورة الدراسة، لتكون تلك الدراسة الموسوعية في النهاية بمثابة مرجعية علمية للمؤسسات الإغاثية في العالم الإسلامي، تنير لها طريق التوظيف العملي لتقنية الطائرات دون طيار في الأعمال الإغاثية.
امتلاك الطائرات
بعد التكييف التشريعي وضبط المسارات القانونية كافة؛ فإن هناك مسارين في امتلاك المؤسسات الإغاثية في العالم الإسلامي للطائرات دون طيار وتكوين أسطولها الإغاثي الجوي منها:
- المسار الأول: شرائي: ومن خلاله تقوم المؤسسات الإغاثية بشراء الطائرات المسيرة الحديثة، وتكوّن أسطولها الجوي الإغاثي عبر الشركات المصنعة والمطورة للطائرات دون طيار حول العالم.
- المسار الثاني: إنتاجي: وعبره تقوم الدول الإسلامية بالدخول تقنيًا واستثماريًا في قطاع صناعة (مستلزمات الإغاثة الجوية) وتطويرها لتعمل على تطوير تلك الطائرات محليًا بما يناسب الأعمال الإغاثية ومستلزماتها؛ وهو الأمر الذي سيحقق الكثير من الامتيازات التقنية والمالية والتقدمية؛ لكنه سيحتاج إلى مظلة علمية وبحثية وتصنيعية وتطويرية ترعى أصحاب الابتكارات والاختراعات والموهوبين، وتضم الخبراء في هذا الحقل التقني من المطورين والفنيين في البلدان الإسلامية.
ميدان بكر
إن ميدان الإغاثة الجوية عبر هذه الطائرات (ميدان بكر) والمؤسسات الإغاثية جميعها حول العالم على مسافة متقاربة من هذه التقنية، والتقدم الذي حققته بعض الدول والمؤسسات الإغاثية الدولية في توظيف تلك التقنية في بعض الكوارث يمكن تداركه بسهولة من المؤسسات الإغاثية في العالم الإسلامي؛ ليبقى الجميع على المسافة ذاتها من تقنية تلك الطائرات، ولتسير مؤسسات الإغاثة حول العالم بالخطى التقدمية نفسها نحو تطوير ميدان الإغاثة الجوية بما يحقق أفضل النتائج الإغاثية في أوقات الكوارث والأزمات.
لاتوجد تعليقات