من صفات عباد الرحمن اجتناب الزور واللغو
قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان:72)، أي لا يشهدون بالكذب، ولا يحضرون مجالسه، وإذا مروا بأهل اللغو من غير قصد، مروا معرضين منكرين، يتنزهون عنه، ولا يرضونه لغيرهم، وقوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}، أي لا يشهدون شهادة الزور، وهي الكذب متعمدًا على الآخر، قاله القرطبي وغيره، ولا يحضرون مجالس الزور، وهي المشتملة على الكذب والباطل، قاله ابن كثير وغيره.
المقصود بشهادة الزور: هي أن يشهد إنسان لآخر أو عليه، بغير ما علم أو سمع، فهي قلب للحقائق، وتضييع للحقوق، وإعانة للظالمين، ومن أنواعها: (الكذب في الأنساب، والوصايا، والجنايات، والأموال، ونحو ذلك، وكذا تزكية إنسان أو جرحه بما ليس فيه، سواء في الزواج، أم الوظائف والإمارات، ونحوه، وكذا الكذب في التقارير التي تضر بالناس عند الحكام والمسؤولين ونحوها، وهكذا...).
وعيد شديد
لذا جاء الترهيب والوعيد الشديد على شهادة الزور: عن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبائِرِ ثَلاثًا، قَالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: الإِشْراكُ بِاللهِ وَعُقوقُ الْوالِدَيْنِ وَجَلَسَ، وَكانَ مُتَّكِئًا؛ فَقالَ أَلا وَقَوْلُ الزّورِ قَالَ فَما زَالَ يُكَرِّرُها حَتّى قُلْنا لَيْتَهُ سَكَتَ» (متفق عليه)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ الله لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبا مِنْ أَرَاكٍ» (رواه مسلم)، وقال ابن كثير -رحمه الله-: «والأظهر أن المراد: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}: أي لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به، مروا ولم يتدنسوا منه بشيء، ولهذا قال -تعالى-: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}.
دليل على ضعف الدين
ولا شك أن حضور مجالس الزور دون نكير أو محاولة تغيير، دليل على ضعف الدين: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ؛ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» (رواه مسلم)، لذلك أمر الله -عز وجل- بمفارقة أصحاب هذه المجالس إذا لم يستطع التغيير: قال -تعالى-: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (النساء:140)، وقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى? يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأنعام:68)، وجعل الله عاقبة مخالطة مجالس الزور دون نكير ولا تغيير شديدة قال -تعالى-: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ» (المائدة:78-79).
مواقف السلف
مواقف السلف في هجر المجالس التي تشمل المنكرات كثيرة نذكر منها: قول البخاري تعليقًا في كتاب النكاح: «باب هل يرجع إذا رأى منكرًا في الدعوة»؟ وذكر: «وَرَأَى أَبُو مَسْعُودٍ، صُورَةً فِي البَيْتِ فَرَجَعَ وَدَعَا ابْنُ عُمَرَ أَبَا أَيُّوبَ، فَرَأَى فِي البَيْتِ سِتْرًا عَلَى الجِدَارِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: غَلَبَنَا عَلَيْهِ النِّسَاءُ، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهِ فَلَمْ أَكُنْ أَخْشَى عَلَيْكَ، وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا، فَرَجَعَ»، وروى أحمد في الزهد، وابن حجر في الفتح: «أن رجلًا دعا ابن عمر إلى عرس، فإذا بيته قد ستر بالكرور، فقال ابن عمر: يا فلان متى تحولت الكعبة في بيتك؟».
المقصود باللغو
وعن سعيد ابن المسيب -رحمه الله- قال: «قَدِمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ المَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ، قَدِمَهَا فَخَطَبَنَا، فَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ اليَهُودِ، وَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- سَمَّاهُ الزُّورَ يَعْنِي الوِصَالَ فِي الشَّعَرِ» (متفق عليه)، وقوله -تعالى-: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}: المقصود باللغو: قال السعدي في التفسير: «وهو الكلام الذي لا خير فيه، ولا فائدة دينية ولا دنيوية». وقال السندي في حاشيته على النسائي: «أي: الكلام قليل الجدوى.
مدح المؤمنين
وتكرار مدح المؤمنين بذلك دليل على شرف الوصف: قال -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون:1-3)، وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (القصص:55)، قال السعدي -رحمه الله- عن اللغو: «وإن كان لا إثم فيه؛ فإنه سفه ونقص للإنسانية والمروءة».
المؤمن الصالح
وأخيرًا؛ فإن المؤمن الصالح ينزه نفسه عن اللغو، فيقلب المباحات طاعات بالاحتساب، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأتي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكونُ له فِيهَا أَجْرٌ؟ قالَ: «أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ أَكانَ عليه فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذلكَ إذَا وَضَعَهَا في الحَلَالِ كانَ له أَجْرٌ» (رواه مسلم)، وقال معاذ بن جبل: «أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ، فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي» (رواه البخاري).
لاتوجد تعليقات