د. زين العابدين كامل لـ(الفرقان): الرصيد الحضاري للأمة هو الدرع الواقي والحصن المنيع لها من الذوبان بين الحضارات الأخرى – الحلقة الأخيرة –
ما زال الحديث موصولا مع ضيف الفرقان د. زين العابدين كامل الباحث والمتخصص في التاريخ الإسلامي، حول أهمية دراسة التاريخ وأثر ذلك على الأمم والشعوب، وقد ذكرنا أن من أسباب بقاء الحضارة الإسلامية أنها عالمية وشاملة ومتطورة وتجمع بين العلم والعمل، واليوم نكمل ما بدأناه حول منهجية التغيير الصحيحة واستقراء ذلك من خلال أحداث التاريخ ومواقفه المختلفة.
- ما رأيك في الدعوات المنادية بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي في عصرنا الحاضر؟
- التاريخ ما هو إلا وقائع وأحداث، وأخبار وأحوال للسابقين، ودولهم وملوكهم وأيامهم، ولا شك أن التاريخ الإسلامي قد تعرَّض للتشويه كما ذكرنا آنفًا، والواجب علينا الآن في ظل ضراوة الصراع القائم أن نعيد كتابة التاريخ الإسلامي.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما المقصود بإعادة كتابة التاريخ؟
والجواب: المقصود بإعادة كتابة التاريخ في عبارة شاملة جامعة: «هو تنقيحه مما علق به من أباطيل ثم إعادة صياغته وعرضه وطرحه وتحليله، وإظهار محاسنه وصفحاته المشرقة»، فليست ثمة توازن بين المكتوب من التاريخ، وبين المُنقح والمُفسر منه، فإن ما قام به علماؤنا قديمًا، كان عملًا ضخمًا عظيمًا؛ فقد جمعوا روايات كثيرة جدًّا؛ إلا أن هذه الروايات تحتاج إلى إعادة نظر وتمحيص؛ لأن فيها الصحيح والضعيف والموضوع، وإذا ضربنا مثالًا للمؤرخين القدامى، فليس هناك أشهر من الإمام (الطبري) -رحمه الله-، فلقد جمع (الطبري) في كتابه: (تاريخ الرسل والملوك) الأحداث منذ بداية الخليقة وحتى عام 302 هـ، وكان منهج الطبري -رحمه الله- في كتابه، هو: جمع الرواية التاريخية والاهتمام بسندها، فكان يجمع الروايات ويدونها مع إسنادها إلى أصحابها، أما فيما يتعلق بعدالة الرواة، فإن الإمام الطبري لم يتقيد بضوابط أهل الحديث، فأدخل في تاريخه أقوال الكلبي وابنه هشام، والواقدي، وسيف بن عمر، وأبي مخنف، وغيرهم من الضعفاء والمتهمين بالكذب والوضع في الحديث؛ فعلى الناقل من تاريخ الطبري أن ينتبه لهذا جيدًا، فإن الكتاب رغم منزلته وغزارة علم صاحبه؛ إلا أن فيه أخبارًا ضعيفة لا تصح، وقد ذكرها الإمام الطبري بأسانيدها، ولكنه قد أشار في كتابه إلى أنه قد جمع الأحداث والمرويات دون النظر في أمر صحتها.
أمر الصحة والضعف
فلابد من النظر في أمر الصحة والضعف، وهو ليس مسؤولًا عن كل الأخبار التي نقلها، بل هو قد نقلها كما بلغته فقط، فيقول رَحِمه اللهُ في مقدِّمة كتَابِه: (تَارِيْخِ الرسل والملوْكِ): «فَمَا يَكُنْ في كَتابِي هَذَا مِنْ خَبَرٍ ذَكَرْنَاهُ عَنْ بَعْضِ المَاضِيْنَ مِمَّا يَسْتَنْكِرُهُ قَارِئُه، أو يَسْتَشْنِعُهُ سَامِعُهُ، مِنْ أجْلِ أنَّه لَمْ يَعْرِفْ لَهُ وَجْهًا في الصِّحَّةِ، ولا مَعْنىً في الحَقِيْقَةِ، فلْيَعْلَمْ أنَّه لَمْ يُؤتَ في ذَلِكَ مِنْ قِبَلِنَا، وإنَّمَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ نَاقِلِيْهِ إلَيْنا، وأنَّا إنِّما أدَّيْنا ذَلِكَ على نَحْوِ ما أُدِّيَ إلَيْنا».
ثم إننا نعاني من كتابات المستشرقين في التاريخ الإسلامي، فإذا كان بعض مؤرخي الإسلام قد جمعوا الضعيف والموضوع؛ فما بالنا بالمستشرق؟! فقد أتوا بالغرائب والعجائب من الأخبار، واعتمدوا على بعض الكتب غير الموثقة، وهنا وقع قارئ التاريخ بين: مؤرخ قديم ينظر له باحترامٍ وتوقيرٍ، ولكنه لم يعتمد ضوابط أهل الحديث، فكان في كتابه الروايات الساقطة والمكذوبة، وبين ما كتبه المستشرقون وتلامذتهم وهم الذين دسوا السم في العسل -كما يقال-، ومِن ثَمَّ أصبحنا بحاجةٍ ملحةٍ إلى إعادة كتابة التاريخ من منظور إسلامي منضبط، وفق القواعد والضوابط العلمية.
- مَن المؤهل في رأيك لكتابة التاريخ كتابة صحيحة؟
- يكتب التاريخ أهل التخصص الذين يرومون علم التاريخ من أصوله ومنابعه، ويكتبه الذين يجيدون استقراء الواقع التاريخي، ويكتبه التاريخ أصحاب الديانة والأمانة العلمية، ويكتب التاريخ الذين يتمتعون بثراء الفكر المعتدل والفهم الشمولي.
فكم عانى التاريخ الإسلامي من كتابة غير المتخصصين وأصحاب الأهواء، ومن هنا رأينا كتاب: (الأغاني للأصفهاني)، وكتاب: (تاريخ اليعقوبي)، وكتاب: (مروج الذهب ومعادن الجوهر) للمسعودي، هذا فضلًا عن كتابة بعض مؤلفي الروايات والأعمال الدرامية، وبعض المتخصصين في الأدب ونحو ذلك، ولا شك أن كتابة هؤلاء أضعفت الرواية التاريخية، حيث إنهم لا يصلحون لكتابة التاريخ.
- كيف نعرض التاريخ الإسلامي للمسلمين والأجيال الحالية بصورة صحيحة؟
- علينا أولًا أن نتخير ما يتم عرضه من محطات التاريخ، فكما ذكرنا سابقًا أن التاريخ يحمل شقين: أحدهما: عبارة عن صفحاتٍ ناصعةٍ مشرقة، كالتاريخ الحضاري للمسلمين، والتقدم الذي صاحب المسلمين في أغلب محطات التاريخ، وهناك شق آخر يحمل بين طياته أحداثًا مؤلمة: كبعض الأحداث السياسية التي وقعت في بعض العصور؛ فعلينا بداية أن نتخير من التاريخ ما يكون عاملًا من عوامل النهوض، وما يساعدنا في إشعال فتيل الإصلاح المنشود، ثم يجب علينا ثانيًا أن نتخير من المصادر التاريخية ما نثق به.
ثم هناك واجب آخر يتمثل في تربية الأجيال الناشئة على حب تاريخ أمتنا، وهذا الدور منوط به بداية القائمين على وضع المناهج التعليمية، ثم القائمين على عملية التدريس، ثم أخيرًا: يجب على الإعلام أن يظهر الوجه الحسن من التاريخ الإسلامي، فنحن الآن نعاني الجهل بمعظم النتاج التاريخي، ونسبة المهتمين بقراءة التاريخ من أبناء الأمة نسبة ضئيلة للغاية، وهذا بلا شك له تأثير سلبي على كيان الأمة بصفة عامة.
- كيف يمكن توظيف التاريخ في نشر الإسلام وسماحته وتعريف العالم به؟
- مِن أهم العوامل التي ساعدت على نشر الإسلام وقبوله بين الناس: الأخلاق الحسنة، والمعاملة الكريمة من قِبَل المسلمين لغيرهم، والتزام المسلمين بالمعاهدات التي أبرموها مع غيرهم، فلم ينكثوا عهدًا ولم ينقضوا معاهدة، ولو رفع أحد من غير المسلمين شكوى إلى الوالي المسلم، يرى كيف يكون العدل فوق الجميع ولو كان الخصم هو الوالي نفسه، وقد ظهر ذلك في مواقف تاريخية كثيرة، فلقد رأى أهل البلاد المفتوحة أسمى معاني العدل والسماحة والكرم في المسلمين، وها هو عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يضرب لنا أروع الأمثلة لحضارة الإسلام والمسلمين، فقد ذكر المؤرخون أن (قتيبة بن مسلم) -رحمه الله- لما فتح مدينة سمرقند، شكا أهلها قتيبة للوالي، وقالوا: «إن قتيبة غَدَر بنا، وظلمنا وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف، فائذن لنا فليفد منّا وفد إلى أمير المؤمنين يشكون ظُلامنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإنّ بنا إلى ذلك حاجة، فأذن لهم، فوجّهوا منهم قومًا، فقدموا على عمر بن عبد العزيز، فكتب لهم عمر إلى سليمان بن أبي السريّ: إن أهل سمرقند قد شكَوا إليّ ظلمًا أصابهم، وتحاملًا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة، فأجلس لهم سليمان جُمَيع بن حاضر القاضي الناجيّ، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحًا جديدًا أو ظفرًا عنوةً، فقال أهل المدينة: بل نرضى بما كان، ولا نجدِّد حربًا. وتراضوا بذلك»، وهكذا رفض أهل سمرقند مغادرة المسلمين للمدينة، بعد أن شاهدوا عدالة الإسلام، المتمثلة في قبول عمر بن عبد العزيز لطلبهم ومظلمتهم والوقوف بجانبهم، ثم قرار القاضي بانسحاب المسلمين من المدينة وتركها لأهلها!
روائع الحضارة الإسلامية
ومن روائع الحضارة الإسلامية أيضًا: أن الوليد بن عبد الملك قد هدم جزءًا كبيرًا من (كنيسة يوحنا) ليقيم عليها امتداد المسجد الأموي، وقد كان المسلمون يحتاجون هذه المساحة من الكنيسة منذ عصر معاوية، ولكنّ معاوية بن أبي سفيان لما أراد أن يزيد كنيسة يوحنا في المسجد بدمشق أبى النصارى ذلك فأمسك، ثُمَّ طلبها عَبْد الملك بْن مروان في أيامه للزيادة في المسجد وبذل لهم مالًا فأبوا أن يسلموها إليه، ثُمَّ إن الوليد بْن عَبْد الملك جمعهم في أيامه وبذل لهم مالًا عظيمًا عَلَى أن يعطوه إياها فأبوا، فقال: لئن لم تفعلوا لأهدمنها.
أمر الكنيسة
قال ابن كثير -رحمه الله- في أمر هذه الكنيسة: «وقد كان موضع هذا المسجد كنيسة يقال لها كنيسة يوحنا، فلما فتحت الصحابة دمشق جعلوها مناصفة، فأخذوا منها الجانب الشرقي فحولوه مسجدًا، وبقي الجانب الغربي كنيسة بحاله من لدن سنة أربع عشرة إلى هذه السنة، فعزم الوليد على أخذ بقية الكنيسة منهم وعوضهم عنها كنيسة مريم لدخولها في جانب السيف، وقيل: عوضهم عنها كنيسة توما، وهدم بقية هذه الكنيسة وأضافها إلى مسجد الصحابة» (البداية والنهاية).
ويذكر (البلاذري) أمر هذه الكنيسة فيقول: «ثُمَّ إن الوليد بْن عَبْد الملك جمعهم في أيامه، وبذل لهم مالًا عظيمًا عَلَى أن يعطوه إياها فأبوا، فقال: لئن لم تفعلوا لأهدمنها، ثُمَّ جمع الفعلة والنقاضين فهدموها، وأدخلها في المسجد، فلما استخلف عمر بن عبد العزيز شكا النصارى إليه ما فعل الوليد بهم في كنيستهم، فكتب إِلَى عامله يأمره برد ما زاده في المسجد عليهم، فكره أهل دمشق ذلك وقالوا: نهدم مسجدنا بعد أن أذنا فيه وصلينا، وفيهم يومئذٍ سُلَيْمَان بْن حبيب المحاربي وغيره منَ الفقهاء، وأقبلوا عَلَى النصارى فسألوهم أن يعطوا جميع كنائس الغوطة الَّتِي أخذت عنوة وصارت في أيدي المسلمين، عَلَى أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا ويمسكوا عَنِ المطالبة بها، فرضوا بذلك وأعجبهم، فكتب به إِلَى عُمَر فسر عمر بذلك وفرح ووافق على الاتفاق وأمضاه»، فهذه هي حضارة الإسلام، وهذه هي عدالة الإسلام، وهذه هي سماحة الإسلام، مَن كان يتخيل من الناس أن عمر بن عبد العزيز كان سيصدر مثل هذا القرار؟!
الغرض المقصود: أن هذه النماذج نحتاج لنشرها حتى يتعرف العالم على حقيقة الإسلام، ثم يجب علينا أن نعيد هذه النماذج إلى واقع يراه الناس اليوم كما رأيناه نحن في صفحات التاريخ.
- ما دور العلماء والدعاة إلى الله تجاه تاريخ الأمة الإسلامية؟!
- يتمثل دور الدعاة والعلماء في نشر تاريخ الأمة عبر وسائل الدعوة المختلفة، فمن التاريخ ما يصلح لأن يُعرض في الخطب أو المحافل العامة، وهناك ما يصلح للدروس في المساجد، ومنه ما يصلح في الكتابة والتأليف، فلا بد من نشر تاريخ أمتنا، ثم يتحتم على العلماء والدعاة أن يقوموا بدور المدافع عن صحيح التاريخ، وذلك بدحض الشبه والمفتريات، ومكافحة الأكاذيب التي يدسها أعداء الأمة بين صفحات التاريخ.
- ما دور المسلمين اليوم عموماً تجاه تاريخهم؟
- يعيش العالم اليوم وهو يلهث خلف الماديات، وما أكثر التصورات المادية التي يتعلق الإنسان بها، فقد طغت المادة على ما سواها عند الكثيرين، حتى أوشكت المادة أن تُفقد الإنسان المسلم ذاته وهُوِيته، ومن هنا أقول بضرورة بروز الحضارة الإسلامية، فنحن أمة تختلف عن غيرها من الأمم؛ فنحن لدينا رصيد حضاري عريق زاخر، وتاريخ مشرق عامر، وهذا هو الدرع الواقي والحصن المنيع لنا من الذوبان بين الحضارات الأخرى؛ لذا فيجب على كل مسلم أن يتعرف على تاريخ أمته وحضارتها، وتراثها الفكري والثقافي، تلكم الحضارة التي جعَلَت منَّا ذات يوم خيرَ أمة أخرجت للناس، والأمة ما زالت هي خير أمة، ولا سيما وقد عجزت الأمم بأسرها، بل والحضارات بأنواعها، أن تكون قائدة وقوية وعادلة، كما كانت أمة الإسلام.
لاتوجد تعليقات