أخلاق الكبار
ما زال الحديث موصولاً عن أخلاق الكبار، أصحاب النفوس الكبيرة، الذين يحلقون عاليا، ويترفعون عن الدنايا وسفاسف الأمور، وذكرنا في المقال السابق أهمية هذا الموضوع، وشدة الحاجة إلى مذاكرته لكثرة الغفلة عنه، ولاشك أننا لو تحلينا بهذه الأخلاق لاستطعنا أن نكسب كثيرًا من القلوب، ونحن قد نتعامل مع بعض الذين نختلف معهم من المسلمين تعاملا فظًا غليظًا؛ فنكون بهذا أشداء على أهل الإيمان، والله وصف أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بأنهم: {رحماء بينهم}، والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه}.
فهذا عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين، قال في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين في غزوة المريسيع: «ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول سمن كلبك يأكلك»، ويقول ظنا أن خزائن السموات والأرض بيده : «لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا»، يقول: «أنتم الذين آويتموهم وأطعمتموهم، فلا تنفقوا عليهم من أجل أن يتفرقوا عن بلادكم ويبحثوا عن بلد آخر تؤويهم»، فهذا من أصحاب النفوس الصغيرة ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب نفس كبيرة؛ لما مات هذا المنافق ذهب إلى قبره، وأعطى ابنه قميصه ليكفنه فيه، وقام على قبره يستغفر له حتى نهي عن ذلك، وهذا لا يفعله إلا أصحاب القلوب الرحيمة الواسعة الكبيرة.
الفرق بين الولاء والبراء حظ النفس
وليس معنى ذلك تمييع قضية الولاء والبراء، بل هي أصل ثابت، ولكن يجب أن نفرق بين الولاء، والبراء، وبين حظ النفس، فالولاء والبراء ثابت في القلب، وأما النفس فدعها خلف ظهرك، لا تنتصر لها، ولا تقف عندها، والكبار لا يليق بهم أن يدوروا حول أنفسهم، حقدا على هذا، ومشكلة نفسية مع هذا، وقضية شخصية مع ثالث؛ فهذه النفسية لا تصلح أن تكون نفسية داعية، وهذا يفسد أكثر مما يصلح.
إني قد أحللتك
لما مرض شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله- مرض الوفاة في السجن، وقد منع عنه كل شيء، حتى الأقلام والأوراق؛، لكي لا يؤلف بتحريض من هؤلاء المبتدعة، من شيوخ الضلالة، ومن الحسدة، كأن بعضهم قد تحرك ضميره، فجاء إلى شيخ الإسلام في السجن يعتذر إليه، ويلتمس منه أن يحلله، لكنَّ شيخ الإسلام لم يقل: الآن! هيهات أن أعفو عنك، أبدا ما قال شيئا من ذلك، بل قال: «إني قد أحللتك وجميع من عاداني، وهو لا يعلم أني على حق»، وقال: «إني قد أحللت السلطان الملك الناصر من حبسه إياي، كونه على ذلك مقلدا غيره، فَمثْله يتقطع قلبه من الغل لا ينام الليل، وليقتص منهم، ولم يتشف من هؤلاء الأعداء، يموت في السجن وهم يشمتون فيه.
الآن يتم الانتقام
بل أكثر من هذا وقع للملك الناصر انقلاب؛ فذهب عليه ملك، وكان الذي قام بهذا الانقلاب ملك يقال له: المظفر ركن الدين بيبرس، وكان هؤلاء العلماء، والفقهاء، والقضاة، والحسدة الذين لم يألوا جهدًا لشيخ الإسلام ابن تيمية، كانوا قد التفوا حول هذا الملك الجديد، وصاروا حاشية له، وأداروا ظهورهم للأول؛ فتركوه وتوجهوا من جديد إلى الملك الجديد، ثم استطاع الملك الناصر أن يسترد ملكه من جديد؛ فجاء وجلس على سرير ملكه، وأحضر هؤلاء القضاة، والعلماء، والفقهاء، وأجلسهم بين يديه، وقد طأطؤوا رؤوسهم، لا يدرون ماذا سيصنع بهم، وبينما هم كذلك؛ إذ طلع عليهم رجل من بعيد لم يميزوه في بادئ الأمر فلما اقترب؛ فإذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي كان في السجن قد أمر الملك بإخراجه من جديد ودعاه إلى مجلسه؛ فأسقط في أيديهم، وقالوا: الآن يتم الانتقام.
فتاوى تحريضية
فقام الملك يمشي إلى شيخ الإسلام توقيرا له، ولم يكن من عادته ذلك، هو يجرجره من سجن إلى آخر، ثم عانقه وأخذه إلى شرفة وناحية في القصر، وجلس يتحدث معه سرا، قال له: ما تقول في هؤلاء؟ يقول شيخ الإسلام: فعلمت أنه قد حنق عليهم، وأنه أراد أن ينتقم لنفسه، يقول: فشرعت في مدحهم، والثناء عليهم، وشكرهم، وأنهم لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، ولا قيام لملكك، إلا بهم فهم قضاة البلد وفقهاؤهم يقول: فأخرج لي أوراقا وقراطيس من جيبه، فيها فتاوى بخطوطهم يقول: انظر ماذا قالوا فيك، كفروك، وأفتوا بقتلك، لو كان الإنسان صاحب نفس صغيرة لانتقم لنفسه؛ فماذا قال شيخ الاسلام: أما أنا فهم في حل من جهتي، قد عفوت عنهم، ثم بدأ شيخ الإسلام بعد ذلك يبث علمه في المساجد، وكثر أتباعه وناصروه ومؤيدوه.
لا أحب أن يؤذى أحد من المسلمين
وبدأ أولئك الذين يتحركون في الكيد له، ويطمعون بالنيل منه، بدؤوا يتلطفون له ويعتذرون إليه من سابقتهم؛ فماذا كان يقول؟ قد جعلت الكل في حل مما جرى، وكان يقول: «ليُطوَ هذا البساط»، وكتب رسائل إلى أصحابه وإخوانه في دمشق، يذكرهم بهذا المعنى يقول: أول ما أبدأ بما يتعلق بي؛ فتعلمون أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين، فضلا عن عموم أصحابنا بشيء، لا باطنا، ولا ظاهرا، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم, بل لهم عندي من الكرامة، والإجلال، والمحبة، والتعظيم، أضعاف أضعاف ما كان كل بحسبه، ولا يخلو الرجل، إما أن يكون مجتهدا مصيبا، أو مخطئا مذنبا؛ فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد؛ فمعفو عنه مغفور له.
ما رأينا مثل ابن تيمية
يقول: وقد أظهر الله الحق وبينه، فلا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كذبه عليَّ أو ظلمه وعدوانه؛ فإني قد أحللت كل مسلم، وإني أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمنٍ من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا أو ظلموا فهم في حلٍ من جهتي، وأما في حق الله؛ فالله يتولى الجميع إن شاء غفر لهم، وإن شاء عاقبهم، يقول ولو كان أحد يشكر على سوء صنيعه، لشكرت هؤلاء على سوء صنيعهم معي؛ فمن منا يفعل هذا؟ من منا يتعامل مع الخصوم بهذه الطريقة؟؛ ولذلك كان ابن مخلوف يقول وهو عدوه المالكي الذي ذكرته آنفا -كان يقول-: «ما رأينا مثل ابن تيمية، ما تركنا شيئا في السعي فيه، ولمَّا قدر علينا عفا عنا». بهذا نستطيع أن نكسب قلوب الناس، بهذا نستطيع أن نكسب قلوب الأعداء، فضلا عن الأصحاب والأصدقاء.
سرعان ما ينفرط العقد
حينما يكون حول العالم، أو الداعية، مجموعة من طلابه وتلامذته؛ فيتعامل معهم بطريقةٍ يتعلق فيها بحظوظه النفسية الخاصة؛ فإن هؤلاء لا يمكن أن يصبروا على الاستمرار والمداومة معه، ولا يمكن أن يُنتجوا عملا تنتفع به الأمة؛ لأن هؤلاء سرعان ما ينفرط العقد، ويتفرقون ويتحولون إلى أعداء، بل إن شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله- انفرد به بعض أهل البدع في ناحيةٍ من نواحي القاهرة؛ وضربوه، وشتموه؛ فتسامع الناس بذلك؛ فخرج كثير من الأمراء، والقادة، والجنود، والعامة، والوجهاء، يبحثون عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-؛ فوجدوه في مسجد على البحر، وتتابع آخرون يتلاحقون ويتسامعون؛ فاجتمعوا عنده، وقالوا له: يا سيدي قد جاء خلقٌ من الحسينية لو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا!
ليس الأمر كما تزعمون
فماذا قال لهم؟ هل قال لهم؟ نعم أنتم الذين تعرفون قدر علمائكم، ولا خير في أمة لا تعرف قدر علمائها، هؤلاء أهل بدع وضلالات أحرقوهم وأريحوا الناس منهم، ما قال هذا الكلام، القضية تتعلق بشخصه هو؛ فماذا قال؟ قال لهم لأي شيء؟ قالوا لأجلك، قال لهم: هذا لا يحق، قالوا نحن نذهب الى بيوت هؤلاء الذين آذوك؛ فنقتلهم ونخرب دورهم؛ فإنهم شوشوا على الناس؛ فرفض ثم أعادوا الكرة بثوب آخر أنهم أثاروا فتنه وشوشوا على الناس؛ فقال هذا لا يحل؛ فقالوا: فهذا الذي فعلوه بك هل يحل؟ ولابد أن نذهب إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا؛ فكان ينهاهم ويزجرهم عن ذلك؛ فلما أكثروا عليه، قال: إنما يكون الحق لي، أو لكم أو لله؛ فإن كان الحق لي فهم في حل؛ فإن لم تسمعوا مني ولم تستفتوني؛ فافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله؛ فالله يأخذ حقه كيف شاء؛ فقالوا له: هذا الذي فعلوه بك هل هو حلال؟ قال هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه، قالوا: فتكون أنت على الباطل وهم على الحق؟ فقال ليس الأمر كما تزعمون؛ فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين؛ ففعلوا ذلك باجتهادهم والمجتهد المخطئ له أجر! ناس يضربونه ويشتمونه، ويؤذونه ببدنه، ومن أهل الضلالات والأهواء والبدع، ويقول: إنهم قد يؤجرون! أين نحن من مثل هؤلاء؟
أنا لا أنتصر لنفسي
بل خرج عليه رجل من المبتدعة؛ فانفرد بشيخ الإسلام في محلةٍ وناحية، ولم يكن هناك أحد فأساء الأدب إليه وأسمعه ما يكره وشتمه؛ فعلم الناس بذلك، وبدؤوا يأتون NgD شيخ الإسلام، يريدون الانتصار له؛ فسمع ذلك الرجل؛ فبدأ يتلطف ويرسل الوسائط، يظن أن شيخ الإسلام سينتصر لنفسه؛ فكان شيخ الإسلام يرد بعبارةٍ مختصرة، يقول: أنا لا أنتصر لنفسي، يعني دعوا هذا الرجل يطمئن، ويرتاح، وينام قرير العين، أنا لا أنتصر لنفسي.
العقيدة والمنهج
هؤلاء قومٌ يختلف معهم شيخ الاسلام في مسائل تتعلق بالعقيدة والمنهج، أما الخلاف في المسائل الفرعية؛ فهذا يكون الحكم فيه كما سبق سعة الصدر، وهو أحرى بذلك وأولى؛ لأن الخلاف في المسائل العلمية الاجتهادية الفرعية، أمر سائغ ولا يلحق المخالف فيه تضليلٌ ولا تبديع، ولا ينسب إلى هوى إذا كان يقصد الحق، والناس لطالما اختلفوا في مسائل الاجتهاد ولكن أصحاب النفوس الصغيرة، لربما احتدم النقاش معه؛ فصار يلقاك بوجه آخر وابتسامةٍ مائلة من شقٍ واحد، يُضمر لك ضغينةً، ويحمل عليك في نفسه؛ لأنه قد اختلف معك في مسألة من مسائل الفروع.
لاتوجد تعليقات