رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 29 ديسمبر، 2019 0 تعليق

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية – مسائل فقهية في ميثاق الله لبني إسرائيل


قال الله -سبحانه-:{وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}(البقرة:83)، قال ابن كثير: يُذكّر -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ، وَأَخَذَ مِيثَاقَهَمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَعْرَضُوا قَصْدًا وَعَمْدًا، وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ.

قال الشيخ ابن سعدي: «وهذه الشرائع من أصول الدين، التي أمر الله بها في كل شريعة، لاشتمالها على المصالح العامة في كل زمان ومكان؛ فلا يدخلها نسخ، كأصل الدين»؛ فهذه الآية الكريمة فيها مسائل فقهية، منها على سبيل الإجمال:

المسألة الأولى

وجوب توحيد الله -تعالى- في العبادة

     لاشك أن أعظم المطلوبات، وأفضل الواجبات توحيد الله -تعالى- وإفراده بالعبادة، والتوحيد أساس صحة الأعمال، وشرط قبول الطاعات؛ ولهذا قدمه الله -تعالى- على بقية الواجبات في هذه الآية الكريمة، وأمثالها من الآيات الجامعة، قال البقاعي مبينا المناسبة بين هذه المطلوبات العظيمة: ولما كان الدين إنما هو الأدب مع الخالق والخلق، ذكر المعاهد عليه من ذلك مرتباً له على الأحق فالأحق؛ فقال ذاكراً له في صيغة الخبر مريداً به النهي والأمر، وهو أبلغ؛ من حيث إنه كأنه وقع امتثاله ومضى ودل على إرادة ذلك بعطف {وقولوا} عليه: {لا تعبدون إلا الله} المنعم الأول الذي له الأمر كله لتكونوا محسنين بذلك إحساناً هو الإحسان كله».

 

     وقال ابن كثير: فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَبِهَذَا أَمَرَ جَمِيعَ خَلْقِهِ؛ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الْأَنْبِيَاءِ: 25)، وَقَالَ -تَعَالَى-:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}(النَّحْلِ: 36)، وَهَذَا هُوَ أَعْلَى الْحُقُوقِ وَأَعْظَمُهَا، وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ -تَعَالَى-، أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ».

 

وجوب الإحسان إلى الوالدين

     بعد أن أمر الله -تعالى- بأعظم الحقوق، وهو حق الخالق، ذكر أعظم حقوق الخلق وهو حق الوالدين، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لُقْمَانَ: 14)، وَقَالَ -تَعَالَى-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (الْإِسْرَاءِ: 23)، قال القرطبي: وَقَرَنَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ بِالتَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ النَّشْأَةَ الْأُولَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالنَّشْءَ الثَّانِيَ- وَهُوَ التَّرْبِيَةُ- مِنْ جِهَةِ الْوَالِدَيْنِ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ -تَعَالَى- الشُّكْرَ لَهُمَا بِشُكْرِهِ؛ فَقَالَ:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ}.

 

     والوجوب مأخوذ من الفعل المضمر في المصدر كما قال القرطبي: قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً}أَيْ: وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا»، والإحسان كلمة عامة تشمل إيصال كل خير، وكف كل أذى بحسب الإمكان، كما قال القرطبي: وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ: مُعَاشَرَتُهُمَا بِالْمَعْرُوفِ، وَالتَّوَاضُعُ لَهُمَا، وَامْتِثَالُ أَمْرِهِمَا، وَالدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ بَعْدَ مَمَاتِهِمَا، وَصِلَةُ أَهْلِ وُدِّهِمَا.

 

     وقال الشيخ ابن عثيمين: والإحسان يكون بالقول ويكون بالفعل؛ فالإحسان بالقول معناه: أن يلين الإنسان لهما قوله، وأن يكون قولا كريما طيبا سمحا، والإحسان بالفعل: يكون ببذل المال، وبخدمة البدن، وغير ذلك مما يكون إحسانا، وقال مبينا ضد الإحسان: وضده أمران: أحدهما: أن يسيء إليهما، والثاني: ألا يحسن ولا يسيء، وكلاهما تقصير في حق الوالدين مناف لبرهما، وفي الإساءة زيادة الاعتداء».

 

الإحسان إلى ذوي القربى

     الأقربون: هم أقرباء المكلف على اختلاف طبقاتهم، الأقرب؛ فالأقرب، قال القرطبي: أَيْ: وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْقَرَابَاتِ بِصِلَةِ أَرْحَامِهِمْ، أما كيفية الإحسان إليهم؛ فيكون بإيصال الخير، وكف الأذى، كما قال الشيخ ابن عثيمين: والإحسان إليهم يكون كالإحسان إلى الوالدين أي: بالقول وبالفعل، ولكن الإحسان إلى الوالدين أوكد وأعظم؛ لأنهم أقربى إليك، وقال: يجب أن نعلم أن الإحسان يتفاوت؛ فكل من من كان أقرب فهو أولى بالإحسان؛ لأن الحكم إذا علق بوصف قوي بحسب قوة ذلك الوصف؛ فمثلا يجب عليك من صلة العم أكثر مما يجب عليك من صلة أولاد العم.

 

الإحسان إلى اليتامى

     اليتامى: هم الصغار الذين لا كاسب لهم فهم مظنة الحاجة، جمع يتيم وهو كل من فقد أباه قبل الحلم؛ فإذا بلغه خرج عن اليتم، لقوله صلى الله عليه وسلم : «لا يتم بعد احتلام»، وقد وردت نصوص تحث على الإحسان إلى اليتامى وتنهى عن الإساءة إليهم، منها قوله -تعالى-: {فأما اليتيم فلا تقهر}(الضحى :9)، وقال -تعالى-: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا}(النساء :10)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن هذا المال خضرة حلوة ؛ فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل« (أخرجه البخاري كتاب الزكاة باب الصدقة على اليتامى حديث: 1465)، وقال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى، (أخرجه البخاري كتاب الأدب باب فضل من يعول يتيما حديث: 6005)، ومن الإحسان إلى اليتيم، حسن تربيته، وتعاهده بالأخلاق الكريمة، وإن كان لليتيم مال؛ فعلى الولي أن يحفظ ماله، وينفق عليه من ماله بالمعروف، ويخرج زكاته إن وجبت، وينمي ماله بآمن طريقة استحبابا، ولا يتصرف الولي بمال اليتيم، إلا بما فيه مصلحته، فلا يجوز التصرف الضار، كالتبرعات بلا عوض، أو الإقراض؛ فإن فعل ضمن.

 

الإحسان إلى المساكين

     المساكين: هم المحاويج من ذوي الحاجات، وأرباب الضرورات الذين أسكنتهم الحاجة، ولا يجدون من يقوم بكفايتهم؛ فأمر الله -تعالى- بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم، قال القرطبي: أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَسْكَنَتْهُمُ الْحَاجَةُ وَأَذَلَّتْهُمْ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْحَضَّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْمُؤَاسَاةِ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِ الْمَسَاكِينِ وَالضُّعَفَاءِ، رَوَى مُسْلِمٌ أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ».

 

القول الحسن

     لما كان حسن الخلق قسمين؛ خلق مع الله -تعالى-، وخلق مع الناس، والناس على نوعين، أقارب للإنسان وأباعد؛ فبعد أن بيّن الله -تعالى- الخلق مع الأقارب بيّن أن حسن الخلق مع عامة الناس -وإن تعذر بالمال-؛ فهو متيسر بالمقال؛ وذلك ببذل المعروف، وكف الأذى، وأن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك كما قال صلى الله عليه وسلم : «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة؛ فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت الناس الذي يحب أن يؤتى إليه»، وقال السعدي: ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموما؛ فقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، ومن القول الحسن، أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة، وغير ذلك من كل كلام طيب.

 

من أدب الإنسان

     ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده، أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله، غير فاحش ولا بذيء، ولا شاتم، ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق، واسع الحلم، مجاملا لكل أحد، صبورا على ما يناله من أذى الخلق، امتثالا لأمر الله، ورجاء لثوابه»، ثم أمرهم الله -تعالى- بأعظم العبادات وهي الصلاة، وأمرهم بإيتاء الزكاة؛ لما فيها من نفع الخلق بمواساة المحتاجين؛ فهذه الآية الكريمة اشتملت على مكارم الأخلاق الربانية، ومحاسن الأفعال الإيمانية بما فيها من عبودية للخالق، وإحسان للخلق.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك