رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: مركز ابن خلدون للدراسات الإستراتيجية 18 نوفمبر، 2019 0 تعليق

التغريب والعلمنة وأثرهما على المجتمعات المسلمة (8) الاستشراق وأثره في تغريب المجتمعات المسلمة

 

مركز ابن خلدون للدراسات الإستراتيجية - البحث الفائز بالمركز الأول في المسابقة البحثية الأولى للمركز

 

عقد مركز ابن خلدون للدراسات الإستراتيجية المسابقة البحثية الأولى، وكانت تحت عنوان: (التغريب والعلمنة وأثرهما على المجتمعات المسلمة)، وقد فاز بالمركز الأول البحث المقدم من الباحث رامي عيد مكي بحبح من جمهورية مصر العربية، وتعميمًا للنفع تنشر مجلة (الفرقان) هذا البحث على حلقات، واليوم الاستشراق وأثره في تغريب المجتمعات المسلمة.

     الاستشراق مدرسة فكرية ذات خصائص ودوافع وغايات, وليس من اليسير الإحاطة بأسرارها, أو كشف  خطواتها, أو الإلمام بأهدافها؛ لأنها وليدة صراع طويل بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية, وهي نتاج تجربة حية من تناقض وتباين بين عقيدتين وثقافتين وحضارتين؛ لذلك نتطرق بإيجاز إلى الاستشراق التقليدي ببيان غايته وآثاره, ثم نتناول بشيء من التفصيل الاستشراق في صورته المعاصرة؛ وذلك من خلال المطلبين الآتيين:

الاستشراق التقليدي

تعدَّدت تعريفات الاستشراق, ومنها:

- اتجاه فكري يُعنى بدراسة الحياة الحضارية للأمم الشرقية عموما, ودراسة حضارة الإسلام والعرب خصوصا.

- حركة دراسة الأدب والحضارة والثقافة الإسلامية, بهدف معرفة أفكار المسلمين واتجاهاتهم, وأسباب قوتهم, والسبيل إلى تَفَرُّقِهم.

- محاولة غربية لدراسة العقلية العربية الإسلامية والنفس العربية الإسلامية، بقصد الانتفاع بذلك في التعامل معها, والسيطرة عليها, وتدمير مقوماتها التي أعطتها القدرة على التماسك والصمود.

وتدور التعريفات الثلاثة حول المعنى نفسه, ولكن التعريف الثالث أشمل في بيان وسيلة الاستشراق وهدفه.

غايات الاستشراق

لكي يتمكن الاستشراق من استكشاف طبيعة الحضارة الإسلامية, كان مطالباً بأن يدرس ثقافة هذه الحضارة ومكوناتها؛ وذلك لتحقيق غايتين هما:

- الغاية الأولى: تفسيرية، ذلك عن طريق الكشف عن مقومات الحضارة الإسلامية؛ من حيث قدرتها على التكوين الاجتماعي والسيطرة على مسار المجتمعات, وصياغة رؤية فكرية متميزة.

- الغاية الثانية: توجيهية، وذلك بفرض التحكم في مسار الشعوب الإسلامية عن طريق معرفة التناقضات القومية والطائفية والإقليمية؛ بحيث تكون المعرفة الناتجة عن الدراسات الاستشراقية أداة تحكمية توجه الأحداث, وترسم معالم الحركة المناسبة, وتحكم قبضتها على الشعوب الإسلامية من خلال إمساكها بمفاتيح الأسرار التي تفجر الأزمات في الزمان والمكان الملائمين.

نشأة الاستشراق

     إنَّ أوَّل من قال بفكرة الاستشراق هو الراهب الفرنسي (جريردي أولياك) 938م–1003م، وهو أول من اشتغل بالعلوم الدينية الإسلامية؛ حيث انتقل من فرنسا إلى الأندلس؛ فتعلم فيها اللغة العربية وعلوم الرياضيات والطب والكيمياء والفلسفة مع العلوم الإسلامية، ثم انتقل إلى روما، وهناك انتخب (بابا) باسم (سلفستر الثاني) 999م - 1003م, واستطاع من خلال منصبه الجديد أن ينشئ ثلاث مدارس لتدريس اللغة العربية وعلومها, واحدة في روما مقر البابوية, والثانية في وطنه الأصلي (دايمس), والثالثة تسمى مدرسة (شارتر), وترجم العديد من الكتب العربية؛ ولقد تبعه العديد من الأوروبيين الذين رحلوا إلى الأندلس، ثم عادوا إلى بلادهم لنشر علوم المسلمين, وهكذا نشأت هذه الطبقة من الأوربيين الذين عرفوا بعد ذلك باسم (المستشرقين)، وهم أهم وأعظم طبقة تمخضت عنها اليقظة الأوروبية، ثم تطور الأمر وأنشأت الحكومات الأوروبية أقساماً لتدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية.  

آثار الفكر الاستشراقي

     يُعد الاستشراق أقوى تيارات التغريب في العالم الإسلامي؛ حيث إن الفكر الاستشراقي يمثل في معظمه حركة فكرية مضادة للإسلام وللمسلمين، وقد ترك هذا الفكر آثاراً تغريبية كثيرة في الفكر الإسلامي، تظهر بصماتها واضحة في المجتمعات الإسلامية, ويمكن بيانها فيما يأتي:

الأثر الديني

     تعددت آثار الاستشراق على الدين الإسلامي، ومنها: إثارةُ الشكوك في العقيدة, وتشويهُ صورة الإسلام في الغرب, والتعظيمُ من شأن الفرق الدينية, والتمكينُ للصهيونية في المجتمعات الإسلامية, وتيسيرُ أمر التنصير في بلاد المسلمين, وإحياؤه لخلافات فكرية قديمة، أفسدت فكر المسلمين ومزقتهم شيعًا, وبعثُه للحركات الهدامة والطوائف الضالة وتضخيم أدوارهم, كالباطنية بفروعها المتعددة من الإسماعيلية والقرامطة والعبيديين والدروز, هذا غير الفرق التي أُحدثت للغرض نفسه كالقاديانية والبهائية وغيرهم.

الأثر السياسي

     تعدَّدَت الآثار السياسية للاستشراق، ومنها: التمكينُ للاستعمار في العالم الإسلاميّ, وبعث القوميات, والمساهمة في إسقاط الخلافة الإسلاميَّة وتجزئة العالم الإسلامي, ونشر النظم السياسيَّة الغربيَّة في المجتمعات الإسلاميّة؛ فمن أمثلة ذلك كان أحد المستشرقين يطوف هو وزوجته على البلدان العربية مرتدياً الزي العربي، يدعو إلى القومية العربية, وإلى إنشاء خلافة عربية, بغية تحطيم الرابطة الإسلامية.

الأثر الاجتماعي

     تعدّدت الآثار الاجتماعية للاستشراق، ومنها: إثارة الشبهات حول الحياة الإسلامية, واتّهام الدين الإسلامي بأنه سبب تخلُّف المسلمين الاجتماعي في العصر الحديث، وتقديم المجتمع الغربيِّ بديلا للمسلمين، والربط بين الحياة الغربية والتقدم الاجتماعي, وَعَدُّت القيم الإسلامية قيماً بالية لا تصلح للعصر الحديث, والتأكيد على استبدال قيم اجتماعية غريبة بها.

ونظراً لأن الأسرة هي أساس المجتمع المسلم؛ فقد عالجت الدراسات الاستشراقية الاجتماعية الأسرة, وانتقدت القيم المتحكمة في العلاقات الأسرية, وعمدت إلى تغريبها. 

الأثر الاقتصادي

عمد الاستشراق إلى إعلاء الرأسمالية ونُظُمِهَا وسِياسَتِها النقدية؛ فانتشرت البنوك الربوية، واستحل المسلمون الربا تحت أسماء وهمية، كالفائدة والأرباح.

الأثر الفكري

تعدَّدت الآثار الثقافية والفكريّة للاستشراق، ومنها: نشر القيم والأفكار الغربية, وتشتيت الجهود الفكرية والثقافية للمسلمين.

الأثر العلمي

تعدَّدت آثار الاستشراق في المجال العلمي، ومنها: التشكيك في مصادر العلوم الإسلامية, وفي أصالة الفكر الإسلامي، والشريعة، والفقه، والنحو، والأدب العربي, وفي قدرة اللغة العربية في العصر الحديث.

 كما يعد من أخطر آثارهم في الجانب العلمي وضع منهج لا ديني للبحث العلمي، سار عليه المسلمون حتى وقتنا المعاصر.

     كما يعد من آثار الاستشراق العلمية جمعهم لأكثر الكتب والمخطوطات العلمية الإسلامية, وسطوهم على كتب التراث الإسلامية، ونهبهم للمكتبات العامة في العالم الإسلامي, ولاسيما في أوقات الاستعمار؛ فتجمَّع لديهم عشرات الآلاف من الكتب والمخطوطات الإسلامية النادرة, وَإِنَّ فهارس المخطوطات بالمتحف البريطانيِّ تُبَيِّن أن كثيراً من تراثنا الإسلامي تحت أيديهم, وفي هذا خطر كبير؛ حيث إن إحياء هذا التراث أصبح يجري على النحو الذي يختاره لنا أعداؤنا المستشرقون.

مهما اختلف الباحثون بشأن الاستشراق والمستشرقين؛ فإنهم غالباً ما يلتقون عند بعض النقاط بالغة الأهمية, التي يمكن إيجازها فيما يأتي:

-  كان الاستشراق في نشأته الأولى في الزمن البعيد صادراً عن أغراضٍ ودوافعَ دينيةٍ وتبشيريةٍ كَنَسيَّةٍ.

- إن خدمة الاستعمارو كانت وراء انطلاقة الاستشراق النشطة في القرن الثامن عشر وما تلاه.

- أَثَّر المستشرقون أعمق تأثير وأخطره في صياغة التصورات الغربية عن الإسلام, ومن ثَمَّ كانت لهم اليدُ الطُّولى في تكوين موقف الغرب إزاء الإسلام والمسلمين على مدى قرون عديدة وحتى اليوم.

- يثبت الواقع أن للمؤسسة الاستشراقية تأثيراتها العميقة الفاعلة في الفكر الإسلامي الحديث؛ حيث أثر المستشرقون في بعض العقول الإسلامية النشيطة, وعمدوا إلى صياغة الرؤى الشاذَّة للإسلام, مع التمكين لهذه الرؤى وإذاعة فكرها ونشرها على أوسع نطاق.

5- هنالك علاقة تبادل فريدة وعجيبة، بين فهم الاستشراق من ناحية, وفهم العلاقات التاريخية بين الغرب والشرق من ناحية.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك