التربية الأخلاقية في مرحلة الطفولة(1)
من مسؤولية الوالدين التي جعلها الله في أعناقهما، وسيسألان عنها، أن يُربيا أولادهما على الأخلاق والآداب الإسلامية؛ ليتم صرح البناء الإنساني الشامخ للطفل المسلم، ومما ينبغي أن يعلمه الوالدان الكريمان في هذا المنحى التربوى أن الخُلق نوعان: جِبلِّىٌّ ومكتسب، وكلٌّ بقدر.
والخُلُق لغة: الدين والطبع والسجية، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأشج عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة». رواه مسلم، أي: حليم عاقل، متأنٍ غير متعجل، وفي شرح السنة للبغوي روي عن المنذر الأشج أنه قال: «يا رسول الله، أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: «بل الله جبلك عليهما» قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله». مرقاة المفاتيح8/316، وهذا دليل صريح على أن الأخلاق منها ما هو جِبلّى جُبل عليه الإنسان، فإنه قد حمد الله -تعالى- على أن جبله على خلقين يحبهما الله ورسوله.
الخُلُق سجية
قال ابن فارس: «الخُلُق: السجية؛ لأن صاحبه قد قُدِّر عليه»، أي وهو في بطن أمه؛ فعن عائشة -رضي الله عنها-عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن الله -تبارك وتعالى- حين يريد أن يخلق الخلق يبعث ملكاً فيدخل الرحم فيقول: يا رب ماذا؟ فيقول: غلام أو جارية أو ما أراد أن يخلق في الرحم، فيقول: يا رب شقي أم سعيد؟ فيقول: شقي وسعيد، فيقول: يا رب ما أجله؟ ما خلائقه؟ فيقول: كذا وكذا. فيقول: يا رب ما رزقه؟ فيقول: كذا وكذا فيقول: يا رب ما خلقه؟ ما خلائقه؟ فما من شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم». قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله ثقات.
الأخلاق المكتسبة
ومن الأخلاق ما هو كسبي، يكتسبه الإنسان من التنشئة والتربية، ويتمرسه حتى يصير سجية فيه، ونحن مأمورون بذلك، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ». رواه الخطيب في تاريخه وحسنه الألباني في الصحيحة 342، (التعلم، التحلم) على وزن التفعل, وهو وزن يدل على تربية وتمرس مرة بعد مرة، ومنه: التخلُّق أو اكتساب الخُلُق.
وهذا يجعل المسؤولية على الأبوين كبيرة في أن يُطبعا أولادهما بالأخلاق الإسلامية بالتعليم والممارسة والدربة مرة بعد مرة حتى يصير طبعاً وسجية تصدر عنهما أفعال الطفل دون روية أو فكر، قال الغزالي -رحمه الله- في تعريف الخُلُق: «الخُلُق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تَصدُر الأفعال بسهولةٍ ويُسرٍ من غير حاجة إلى فِكْر ورويَّة» أهـ الإحياء (3/53).
منزلة الأخلاق في الإسلام
الخُلُق صورة الإنسان الباطنة كما أن خَلْقه صورته الظاهرة، (لسان العرب)، والتربية الأخلاقية هي تربية القلب الذي هو سيد الأعضاء، الذي إن صلح صلحت سائر أعضاء الإنسان، وإن فسد فسدت، وهذا مما يُعظم المسؤولية.
الأخلاق في الإسلام
والأخلاق في الإسلام هي الدين كله، قال ابن القيم -رحمه الله-: «الدين كله خُلق، فمن زاد عليك في الخُلق، زاد عليك في الدين» مدارج السالكين 2/320، وصدق -رحمه الله- قال - صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً» رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح، وقد أثنى الله -تعالى- على أخلاق رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم أمرنا بالاقتداء به؛ فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم} القلم:4، أي: على أدب ودين عظيم.
قال الطبري - رحمه الله -: «يقول - تعالى - ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: وإنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذى أدبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه، ثم روي بسنده عن جُبير ابن نُفَير قال: حججت فدخلت على عائشة، فسألتها عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: «كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن». أ.هـ من التفسير.
ما قال لي: «أف» قط
كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي: «أف قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته؟ وكان - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً، ولا مسست خزاً، ولا حريراً، ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شممت مسكًا ولا عطراً كان أطيب من عرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»، وعن البراء قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وجهاً، وأحسن الناس خلقاً، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير...» رواه البخاري.
الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وطاعته
هذا وقد أمرنا الله - تعالى - بالاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وطاعته، ولا شك أن الاقتداء بمن مدحه الله هذا المدح العظيم هو الكمال الخُلقى الذى يمدح عليه أيّ إنسان، قال الله -تعالى-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} الأحزاب:21، وقال -تعالى-: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} الآية. النور:54، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء» رواه الترمذى وقال حسن صحيح، وبه يدرك المؤمن درجة الصائم القائم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» رواه الترمذى وصححه الألباني.
القرب من النبي - صلى الله عليه وسلم
وبه ينال قُرْب المجلس من الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، قال - صلى الله عليه وسلم - «إن من أحبكم إليّ، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً»، رواه الترمذي وحسنه الألباني في الصحيحة 71.
والأدلة في ذلك كثيرة تدل على أن ديننا دين شامل لكل منحى من مناحي الحياة، ومنهاج حياة، من نهجه واتبعه سعد في الدنيا، وفاز وأفلح في الآخرة.
وسائل اكتساب الأخلاق الإيمان
المؤمن يؤمن بما أخبره الله -تعالى- به، ويمتثل ما أمره به، ويتقرب به إليه، وكلما زاد إيمان العبدُ زاد امتثاله، وكان القرآن خُلُقاً له يمشى به في الناس؛ لذلك على الأبوين أن يحرصا على تربية الإيمان في نفس أولادهما.
القدوة الحسنة
لابد وأن يكون الوالدان قدوة حسنة لأولادهما في إيمانهما وأخلاقهما؛ فإن نَظَر الطفل معقود بوالديه، فالحسن عنده ما حسنوه، والقبيح عنده ما قبحوه، وقال عتبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده: «ليكن أول إصلاحك لولدى إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بك، الحسن عندهم ما فعلت، والسيئ عندهم ما تركت».
الصحبة الصالحة
قال - صلى الله عليه وسلم -: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل». حسن. صحيح أبي داود: 4833، أي على عادة وطريقة صاحبه، إما أن تكون عادة خير أو عادة شر، والصاحب ساحب، إما أن يسحبك إلى خير أو إلى شر، والطبع سرّاق، فإما أن تسرق منه طبعاً حسناً أو طبعاً سيئاً، قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: «إذا خالطت فخالط حسن الخلق؛ فإنه لا يدعو إلا إلى خير، وصاحبه منه في راحة» أ.هـ، وهذا يجعل الوالدين في حرص شديد على انتقاء من يخالطهم طفلهم في كل مرحلة من مراحل التربية.
التعاهد التعاهد
فالنفس كالطفل إن أُهملت شبَّ على حب الرضاع وإن تفطم ينفطم، فالتربية تحتاج إلى صبر وعدم ملال، ومعاهدة، وتوجيه بعد توجيه من آنٍ إلى آخر، واعلم أن الخطأ ملازم للإنسان، والنسيان عارض، وعدم التنفيذ وارد، فتجاوز عن نسيانه، وصوّب له خطأه، وحُضّه على طاعتك التي هي من طاعة الله - تعالى.
الدعاء
فالدعاء هو العبادة، والله يحب من عباده أن يدعوه ويتضرعوا إليه، وخير ما يدعو به الإنسان ربه، أن يرزقه الله -تعالى- ولداً صالحًا، قال الله -تعالى- في صفة عباد الرحمن: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} الفرقان:74، وقال الله -تعالى- عن دعاء زكريا - عليه السلام -: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}. الآية: آل عمران: 38، وقال -سبحانه- عن دعاء إبراهيم -عليه السلام-: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}. إبراهيم:41، فيدعون ربهم -تعالى-، ويلّحون في الدعاء أن يصلح لهم أولادهم - خاصة - أوقات الإجابة.
الترغيب والترهيب
إن الله -تعالى- قد جبل نفوسنا على حب الثناء والمدح إذا أحسنتَ، لذلك كان الإخلاص صعباً على النفوس؛ لأنه لا حظ لها فيه. والطفل يعجبه الثناء، ويفجّر مكنون طاقاته الحسنة، فعلى الوالدين إذا أحسن ولدهما أن يكافآه بمكافأة مناسبة، مع استخدام عبارات المدح والتشجيع، والحذر من عبارات الإحباط والتثبيط، واحذر ثم احذر أن تقول له كلمة فاشل وأخواتها؛ فإنها تقعد بالإنسان عن طلب المعالى بل والتكاسل والخمول، وإن أساء فلابد من نصح متتابع، وإن لم ينزجر إلا بالزجر زُجر؛ رحمة به، وخوفاً عليه، مع تهيئة الفرصة للرجوع، وهكذا التربية فيها معاناة، ولكن إذا عرفت شرف ما تطلب هان عليك ما تبذل. إنه الولد الصالح الذى نسأل الله أن يرزقنا إياه.
لاتوجد تعليقات