التغريب والعلمنة وأثرهما على المجتمعات المسلمة (4) السبب الرئيس للتغريب
مركز ابن خلدون للدراسات الإستراتيجية
البحث الفائز بالمركز الأول في المسابقة البحثية الأولى للمركز
عقد مركز ابن خلدون للدراسات الإستراتيجية المسابقة البحثية الأولى، وكانت تحت عنوان: (التغريب والعلمنة وأثرهما على المجتمعات المسلمة)، وقد فاز بالمركز الأول البحث المقدم من الباحث رامي عيد مكي بحبح من جمهورية مصر العربية، وتعميمًا للنفع تنشر مجلة الفرقان هذا البحث على حلقات، واليوم نتكلم عن السبب الرئيس للتغريب.
لظهور أي اتجاه جديد أسبابه الداخلية والخارجية، وقد ينظر بعض الناس إلى أن أهم أسباب التغريب الضعف السياسي والاقتصادي والعسكري والعلمي الذي لحق بالأمة الإسلامية في العصور الأخيرة، ولكن هذه ليست أسبابا؛ إنما هي أعراض المرض الحقيقي الذي أصاب العالم الإسلامي الذي يتمثل في الانحرافات العقدية التي عانتاها الأمة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين.
أنواع الانحرافات
وتتمثل هذه الانحرافات في ضعف العقيدة الصحيحة وغربتها ومحاربتها واتساع الفكر الإرجائي، وتفشي الشرك الأكبر بعبادة الأولياء وبناء الأضرحة والقباب، وهيمنة الصوفية بطرقها وطقوسها المبتدعة على حياة الناس، وازدياد نشاط الفرق الباطنية وغيرها في حرب المسلمين والتآمر عليهم مع أعدائهم من اليهود والنصارى والوثنيين، مع تفاقم حدة التعصب المذهبي وجمود المناهج التعليمية وغلق باب الاجتهاد، ويمكن إيجاز بعض هذه الانحرافات في النقاط التالية:
الانحراف في مفهوم القدر
فقد استسلم المسلمون لنوم طويل محتجين بمفاهيم خطأ عن القدر، ولم يستيقظوا إلا على هدير الحضارة الغربية وهي تدك معاقلهم، وتقتحم حصونهم، وكانت المفاجأة المذهلة التي زعزعت إيمان الأمة بدينها، وقد ظهر الانحراف في مفهوم القدر بعدة صور منها: الزهد في الدنيا، والاستسلام الخانع للذل والفقر، وهما ما تطوعت به الطرق الصوفية، وشجعته البيئة الجاهلة، وأدى إلى تقهقر الحضارة الإسلامية، إنهم بمفاهيمهم الخطأ عن القدر جعلوا النتائج السببية التي تأتيهم بأسباب منهم كالمصائب الربانية التي يبتلي الله بها عباده، فأساؤوا إلى عقيدة القضاء والقدر، ووضعوا الأمور في غير نصابها.
الفكر الصوفي المنحرف
انتشار الفكر الصوفي المنحرف الذي يتجه إلى الأوراد والأذكار والانعزال مع اتباع الخرافات والشعوذة، ومن الأخطار الأساسية لهذا الفكر النظرة العدائية إلى الحياة الدنيا، وكأنهم يفصلون الدين عن الحياة بعلم أو بغير علم، إنهم يقصرون العبادة على الصوم والصلاة و...، وهذا جهل بحقيقة العبادة في الإسلام وغاية الوجود الإنساني على الأرض، وهذا الانحراف وقع قبل احتكاك الغرب اللاديني بالشرق، بل قبل قيام الدولة العثمانية.
تطور الانحرافات الصوفية
وعندما سيطر العثمانيون ازداد الأمر سوءًا، وتطورت الانحرافات الصوفية حتى توهم الناس أن العبادة نفسها هي ما يأمر به المشايخ والأولياء من البدع، ووقعت الأمة في شرك حقيقي بما كان يقع فيه السذج والجهلة بل وبعض العلماء، وما يمارسونه من بدع عند الأضرحة والمشاهد والمزارات وتقديس الموتى والاعتماد عليهم في جلب النفع ودفع الضرر، ووصل الأمر إلى حالة مزرية جداً حين كانت جيوش الغرب تدك الحصون الإسلامية والمسلمون يستصرخون السيد أو الولي الذي كان قد مضى على وفاته مئات السنين.
ومن أمثلة ذلك بعد هزيمة الجيش المصري أمام نابليون بالإسكندرية وفرار الجنود إلى القاهرة للاستعداد؛ اجتمع مشايخ الصوفية الأحمدية والرفاعية والبراهمة والقادرية والسعدية وغيرهم من الطوائف وأرباب الطرق وأطفال المكاتب يذكرون اسم الله اللطيف!، وهذا تواكل ينفر الناس من الدين، تواكل يجعل الدين قاصرًا عن التفاعل مع الحياة، كأن الدين ينافي الأخذ بالأسباب وبالعلوم العصرية وأسباب القوة، ولو كان الدين كذلك ما كان الصحابة وتابعوهم وشيوخ الإسلام كابن تيمية والعز بن عبد السلام في مقدمة صفوف المجاهدين، ومن أدلة تغلغل الصوفية في ذلك الوقت في المجتمعات الإسلامية تحول مئات الأربطة والثغور التي بنيت أساساً للجهاد ومقارعة الكفار إلى زوايا وتكايا للصوفية.
الشهوات والترف
كذلك من صور الانحراف الواضحة انغماس الكثير من المسلمين في الشهوات والترف والانصراف عن الاهتمام بالأمور الأخروية.
غلق باب الاجتهاد
حيث عارض بعض علماء الدولة العثمانية وخلفائها فتح باب الاجتهاد، أو تقييدهم له في دائرة التراث المأثور عن فقهاء الحنفيين فقط!، وفي الوقت الذي تم تعطيل الاجتهاد فيه كانت الحياة جارية متطورة بسرعة، وبذلك حدث لأول مرة في تاريخ المسلمين أن ضاقت دائرة الفقه عن الإحاطة بأحداث الحياة كلها، والمشكلة الكبرى أنه عند استشعار الكارثة ومعرفة السبب؛ فبدلاً من فتح باب الاجتهاد أستورد وأُقتبس كل ما هو غربي كأن الحلول لا تأتي إلا منهم.
الانحراف عن فهم الإسلام
إن انحرف المسلمين عن فهم الإسلام، وانحسار فهمهم له في معان ضيقة ومدلولات محدودة أدى إلى العديد من الأحداث الجسام والمخاطر الجمة التي اجتاحت الدولة الإسلامية من أقصاها إلى أدناها، ومنها على سبيل المثال:
الركود العلمي
الركود العلمي العام الذي هيمن على الحياة الإسلامية في عصر كانت أوروبا فيه تنفض غبار الماضي وتحث الخطى على طريق العلم والاكتشاف، فالقاهرة التي كانت إحدى عواصم الدنيا العلمية، أصبحت بعيدة كل البعد عن ذلك، ومن الأدلة على ذلك ما يقصه أحد المؤرخين المعاصرين للاحتلال الفرنسي على مصر، بأن الاحتلال أقام مكاناً لدراسة العلوم كالفلك والرياضيات واللغات وغيرها من العلوم، وأنه ذهب بنفسه إلى هذا المكان فانبهر بما عندهم من الكتب والعلوم من طب وتشريح وهندسة وفيزياء وكيمياء والفلك وآلاته، حتى إنه في حكايته عن التجارب الكيميائية يحكي عنها وكأنها شيء خارق لم يره من قبل بل ولم يسمع عنه أيضاً، فيقول: من أغرب ما رأيته أن بعضهم أخذ زجاجة فصب منها شيئاً في كأس، ثم صب عليها شيئاً من زجاجة أخرى فعلا الماء وصعد منه دخان ملون حتى انقطع وجف ما في الكأس وصار حجراً أصفر اللون يابساً، ثم فعل ذلك بمياه أخرى فجمد حجراً أزرق، وبثالثة فجمد حجراً أحمر ياقوتاً و...، يصف ما رآه من تجارب علمية كان يقوم بها المسلمون قبل ذلك بمئات السنين، على أنها شيء عجيب لم يره من قبل، وإن ذلك ليدل على التخلف العلمي الذي وصل إليه المسلمون في هذا الزمان.
الضعف المادي
الضعف المادي والمعنوي الذي جعل البلاد الإسلامية لقمة سائغة للدول الغربية؛ حيث كانت هزيمة العثمانيين في (سان جونار) وهزيمة المماليك السريعة أمام نابليون مؤشراً واضحاً على الركود العلمي والضعف المادي والمعنوي للمسلمين، وبداية خطيرة لنهاية الزعامة الإسلامية ليس على العالم بل حتى على أرض الإسلام، وكان هذا هو السبب الرئيس لانتشار التيار التغريبي في العالم الإسلامي.
لاتوجد تعليقات