القرآن ومنهجية الإحسان
منَّ الله علينا بكلامه الذي هو أصل الأصول كلها، وقاعدة أساسات الحياة كلها، وبه صلاح أمور الدين والدنيا والآخرة كلها؛ فالقرآن منهج حياة يزكي به العبدُ نفسَه إن قام به في محراب الصلاة، ويُصلح به العبدُ مجتمعَه إن طبق تعاليمه في محراب الحياة، وقد جاءت الوصايا فيه متتابعة لتوقظ القلوب وتحرك الأبدان وتصلح الأحوال.
ومن تلك الوصايا القرآنية الجامعة تلك الوصية التي جاءت بسورة النساء، واشتملت على بيان منهج الإسلام في مراعاة الحقوق الربانية والواجبات المجتمعية مع ما فيها من ملامح تنموية للشخصية المسلمة الواعدة، فقد قال الله -تعالى- موصيًا عباده المؤمنين: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (النساء 36).
ملامح المجتمع المسلم
حيث بينت الآية الكريمة ملامح المجتمع المسلم وقواعده وما فيه من حقوق واجبة للخالق وللمخلوق، ففيها: قوله -تعالى-: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا...}، وهي فاتحة تلك الوصية الربانية التي تدعو إلى على التوحيد الخالص لله وحده والترقي في مراتب العبودية له -سبحانه وتعالى-؛ فصحة التوحيد الأساس الذي إن صلح صلح ما بعده وإن فسد فسد ما بعده.
أصل الأصول
فالتوحيد أصل الأصول وأول الواجبات على العبيد كما جاء في حديث مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - حين قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ. قَالَ: فَقَالَ: يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ وما حقُّ العبادِ عَلَى الله؟ قَالَ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللّهِ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَلاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً».
الإحسان للخلق
ثم جاء الأمر بالإحسان للخلق {وبالوالدين إحسانا...} تابعًا للأمر بالعبودية الخالصة لله -سبحانه وتعالى- تبيانا لحقيقة هذا الدين المتين الذي يربط كل مظاهر السلوك وكل العلاقات في المجتمع بالعقيدة والعبودية، «فكلما ترقى المسلم في مراتب العبودية: كان أحرص على أداء الحقوق للخلق جميعهم، وكلما نقص مقياس العبودية في قلب العبد: فرط في أداء تلك الحقوق»، وهذا هو الفارق بين المناهج الأرضية ومنهج الإسلام؛ فالعبودية تتضمن كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة؛ فهي شاملة لجميع مظاهر الحياة عند المسلمين.
أعلى درجة
لذلك جاء الأمر بالإحسان -الذي هو أعلى درجة في أداء الحقوق - بعد الأمر بالعبودية الخالصة لله ترسيخا لمعني الحرص على إرضاء الله وحده، وبيان لحقيقة مهمة من أن المتمسك بأصول الدين وصحة التوحيد هو أكثر الناس حرصا على الإحسان للخلق أجمعين، وأن من يدعو الناس إلى تمييع الدين والتهوين من مظاهر التمسك بالتوحيد وأصول الدين هو في الحقيقة من يغرس في الناس تضييع حقوق الآخرين.
فالإحسان الذي هو أن تعبد الله كأنك تراه هو الذي يجعل كل حركاتك وسكناتك وبذلك وعطائك لغيرك يكون بلا طلبٍ لمعاوضة دنيوية، بل يكون من أجل إرضائه وحده -سبحانه وتعالى- وتحصيل محبته وحده فـ {الله يحب المحسنين}، ومن أحبه الله فقد حاز -على الحقيقة- كل العِّوَض.
الوصية الربانية
بينت تلك الوصية الربانية في الآية الكريمة أن المسلم مأمور بالإحسان إلى الخلق كلٌ حسب مرتبته ورابطته الإنسانية، فقد بين الله -تعالى- في هذه الآية كل الروابط الممكنة بين البشر وعددها في قوله -سبحانه وتعالى-: {..وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ ايمانكم..}، فقوله -تعالى-: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} يشمل الإحسان للأبوين والأقارب والأرحام قربوا أم بعدوا، فتلك رابطة نسب ودم، وقوله -تعالى-: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}، يشمل الإحسان للذين فقدوا آباءهم وهم صغار، والذين أسكنتهم الحاجة والفقر فتلك رابطة حال سواء معنوية أيتام، أم مادية مساكين.
الإحسان لكل من له حق
وقوله -تعالى-: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} يشمل الإحسان لكل من كان له حق جوار سواء كان مسلماً أم غير مسلم قريباً كان أم بعيداً، فتلك رابطة مكان وجوار وأرض، وقوله -تعالى-: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}، يشمل الإحسان للصاحب فى السفر – الذي تكون العلاقة معه محكومة بزمن قصير هو زمن السفر - أو للزوجة التي تمتد العلاقة معها غالباً لفترات زمنية أطول من العقد إلى الفراق، فتلك رابطة زمان مؤقتة أو دائمة.
الإحسان للغريب
وقوله -تعالى-: {وَابْنِ السَّبِيلِ}، يشمل الإحسان للغريب الذي هو في بلد الغربة سواء كان له حاجة أم لا، فتلك رابطة حال مؤقتة، وقوله -تعالى-: {ومَا مَلَكَتْ أيمانكم}، يشمل الإحسان إلى كل ما هو تحت سلطانك من الآدميين بل ومن البهائم غير الآدميين - أعزنا الله وإياكم - كما جاء في تفسير الرازي: «وقال بعضهم: كل حيوان فهو مملوك، والإحسان إلى الكل بما يليق به طاعة عظيمة»، فشمل ذلك أيضاً حق المملوكين من الآدميين وغير الآدميين في الإحسان إليهم.
كمال الشريعة
فانظر إلى تلك الروابط المذكورة (رابطة نسب - رابطة مكان - رابطة زمان - رابطة حال معنوية أو مادية - روابط مؤقتة أو دائمة) فستجد أنها شملت أنواع البشر كلهم؛ ما يمكِّن للمسلم أن يتعامل معهم في حياته، وانظر إلى الأمر بالإحسان الذي هو عطاء بلا عوض دنيوي والمتعلق بهذه الروابط جميعًا، وستعلم حينئذ عظم هذا الدين وكمال تلك الشريعة الإسلامية الغراء؛ فليس هناك دين حق في الأرض الأن كدين الإسلام كما قال الله -تعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}؛ وليس هناك شريعة كشريعة الإسلام تحترم حقوق الإنسان بل والحيوان وتأمر أتباعها بمثل هذا الإحسان للجميع بعيدا عن الهوية والعرقية والطائفية والحزبية.
دين الإحسان وليس دين الإرهاب
أين مواثيق تلك الأمم المتحدة وهذه المنظمات المجتمعية المدنية الحقوقية الإنسانية -التي لا تتحرك على الحقيقة إلا طبقا للمصالح السياسية والنعرات الطائفية- من تلك الوصايا الحقوقية الربانية؟! لا وجه للمقارنة على الحقيقة وإن ادعوا المثالية والحيادية.
صمت القبور
وانظر إن شئت إلى صمت القبور الذي تتبناه هذه المنظمات حاليا مع ما يحدث للمسلمين من قتل وسحل وتهجير في كل مكان، كما في كشمير وبورما والآجور، لتعلم ما يمارس على الحقيقة في العالم من تضليل، فالإسلام دين الإحسان وليس دين الإرهاب كما يدعي عليه الحاقدون، والمواثيق الربانية الإسلامية هي أعلى في الحقيقة من كل المفاهيم الإنسانية في العالمانية العالمية أو حتى الدينية المحرفة.
تحذير رباني
وختم الله -سبحانه وتعالى- الآية بقوله -تعالى-: {إن الله لا يحب كل مختال فخور}، كتحذير رباني لعباده المؤمنين من تلك الصفات والأمراض القلبية الإنسانية التي تصيب الإنسان من كبر وعجب ورؤية للنفس وغرور؛ فتكون سببا لعدم الإحسان في أداء الحقوق والواجبات، بل هو بيان -في الحقيقة- عام لأسباب الاجتراء الإنساني علي التعدي والعدوان علي غيره من بني الإنسان ومنع الخير عنه فالمختال: هو المتكبر على الناس المعجب بنفسه الذي يرى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُمْ، والفخور: هو من يَفْخَرُ عَلَى النَّاسِ بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ نِعَمِهِ في الدنيا، وهو قليل الشكر لله علي ذلك، والله -سبحانه وتعالى- لا يحب كل مختال فخور.
لاتوجد تعليقات