الأسباب الجالبة لمحبة الله -عز وجل
محبة الله -عز وجل- هي الغاية مِن العبادات، وكمال العبودية في كمال الحب وتمام الذل لله -عز وجل-، وقد ذكر العلماء للوصول إلى هذه الغاية أسبابًا، نذكر بعضاً منها في هذا المقال.
قراءة القرآن بالتدبر
قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه، قال -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال:2)، وقال -تعالى-: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (التوبة:124)، وكلما ازداد إيمانه بأنه تنزيل الله -عز وجل-، وقصصه، ووعده ووعيده، ازداد حبًّا لله -عز وجل.
كثرة النوافل
ومن ذلك التقرب إلى الله بكثرة النوافل بعد استكمال الفرائض؛ لقوله -عز وجل- في الحديث القدسي: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» (رواه البخاري)؛ فبداية طريق المحبة في استكمال الفرائض أولًا؛ فأفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وحسن النية فيما عند الله -عز وجل-، وبعد أن يستكمل العبد الفرائض، يفتح على نفسه أبواب النوافل، وهي كثيرة متنوعة، لاختلاف استعدادات الناس وقوابلهم، والنوافل: ما عدا الفرائض من أجناس الطاعات، قال العلماء: فما بال النوافل كانت السبب إلى محبة الله دون الاقتصار على الفرائض؟! وأجاب بعضهم: بأن العبد يفعل الفريضة مخافة العقوبة ورجاء الأجر، أما النوافل كانت هي السبب الموصل إلى محبة الله -عز وجل- دون الفرائض.
كثرة ذكر الله -عز وجل
كثرة ذكر الله -عز وجل-؛ فالذكر هو قوت القلوب، وهو الباب المفتوح بين العبد وربه، ما لم يغلقه العبد بغفلته، قال الحسن البصري: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وفي تلاوة القرآن؛ فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق، وفي كل جارحة من الجوارح عبادة مؤقتة، والذكر هو عبودية القلب واللسان، وهو غير مؤقته، بل أمروا بذكر معبودهم ومحبوبهم، قيامًا، وقعودًا، وعلى جنوبهم، قالوا: المحب طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إلى الله -عز وجل- بكل سبيل يقدر عليه من الوسائل والنوافل حبًّا وشوقًا، وقالوا: المحب لا يجد للدنيا لذة، ولا يفتر لسانه عن ذكر الله -عز وجل.
إيثار محابه
إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، أي: تقديم محاب الله -عز وجل- على ما يحبه العبد؛ فإذا كان العبد في طريق، وأمامه نساء متبرجات فنفسه وهواه يدعوانه إلى النظر بمقتضى الهوى والشهوة، والله -عز وجل- يأمره بغض البصر: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور:30)؛ فإذا قدم العبد ما يحبه الرب -عز وجل- على مراد نفسه وهواه؛ فإن هذا مما يزداد به العبد حبًّا لله، والله يرزقه حلاوة إيمان عوضًا عن الشهوة المحرمة، وكذا إذا كان في مجلس يخوض الناس فيه في الأعراض، فإما أن يوافقهم حتى لا يستقلوه، أو يقول لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (الأحزاب:70)، وأضعف الإيمان أن يترك هذا المجلس حتى لا يكون شريكًا لهم، وهكذا كلما قدم العبد محاب الله على محابه، ازداد حبه لله -عز وجل.
مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته
مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها؛ فمهما تعرف العبد على ربه الجليل -عز وجل- ازداد حبًّا له، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً» (متفق عليه)؛ فكلما ازداد العلم ازدادت الخشية، وازدادت المحبة، وازداد التوكل والرجاء، وغير ذلك، قيل للإمام الشعبي: يا عالم فقال: «إنما العالم مَن يخشى الله»، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: «كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله -عز وجل- جهلًا»، والله -عز وجل- خلق الخلق مِن أجل أن يعرفوه -عز وجل-، كما قال ابن عباس في قوله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56)، قال: «إلا ليعرفون»، وهذه المعرفة بربوبية الله -عز وجل- وأسمائه وصفاته تستلزم منهم إفراد الله -عز وجل- بالعبادة.
مشاهدة بره وإحسانه
مشاهدة بره وإحسانه، ونعمه الظاهرة والباطنة، قال -تعالى-: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه}(النحل:53)؛ فكل النعم مصدرها واحد، كلها مِن الله -عز وجل-، وقال -تعالى-: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (النحل:18)؛ فالعباد عاجزون عن إحصاء نعم الله -عز وجل- عليهم، فضلًا عن أداء شكر هذه النعم؛ لذا قال بعضهم: «حق الله أثقل مِن أن يقوم به العباد، ونعم الله أكثر مِن أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين»، والقلوب جُبلت على حب مَن أحسن إليها، وبغض مَن أساء إليها؛ فكلما تدبر العبد نعم الله -عز وجل- عليه، ازداد حبه لله -عز وجل.
انكسار القلب
انكسار القلب بكليته بين يدي الله -عز وجل-، قال ابن القيم -رحمه الله-: «وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات»، وكأنه يشير -رحمه الله- إلى أن ذلك يستشعره العبد بقلبه ِمن الافتقار إلى الله -عز وجل- والاضطرار إليه، وأن الأسماء والعبارات لا تكفي في تصوير ذلك، وإن كنا لا نملك إلا الأسماء والعبارات؛ فنسأل الله -تعالى- أن يجعلنا أفقر خلقه إليه، وأغنى خلقه به.
الخلوة به في وقت النزول الإلهي
فإذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا -عز وجل- إلى سماء الدنيا، فيقول: «لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي» (رواه ابن حبان، وصححه الألباني)، وفي رواية يقول: «أَنَا المَلِكُ أَنَا المَلِكُ» (متفق عليه)، وفي رواية: «مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ، وَلَا ظَلُومٍ» (رواه مسلم)، ويقول: “هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من مستغفر؟»؛ فالموفق مَن يقوم في هذا الوقت يدعو ربه -عز وجل-، ويتوب إليه، والملوك لا يسمحون بالدخول عليهم والخلوة بهم إلا أهل الإخلاص في معاملتهم؛ فليس كل أحد يدخل على الملك، ولكن هذا وقت الإذن العام؛ فنسأل الله -تعالى- أن يوفقنا للقيام في هذا الوقت الشريف للصلاة، والدعاء والاستغفار.
مجالسة المحبين الصادقين
مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيدًا لحالك أو منفعة لغيرك، قال بعضهم: «مجالسة أهل الصلاح تسكب في القلب»، وقالوا: «ليس شيء أنفع للعبد مِن مجالسة الصالحين، والنظر إلى أفعالهم، وليس شيء أضر على العبد من مجالسة الفاسقين، والنظر إلى أفعالهم»، ومَن أراد أن يحب أحدًا جالس أحبابه؛ فيذكرون من صفاته وأعماله ما يدعو قلبه إلى محبته.
عزلة أهل الشر والفساد
وأضيف إلى هذا السبب: عزلة أهل الشر والفساد؛ فاعتزال العامة مروءة تامة، قال -عز وجل- عن خليله إبراهيم: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} (مريم:49)، وقالوا: «الاستئناس بالناس مِن علامات الإفلاس»، والعبد إذا كان فاضلا في نفسه أحب الخلوة، وإذا خلا أنس بالله -عز وجل-، واستغنى بحبه عن حب مَن سواه، وبذكره عن ذكر مَن سواه، وبخدمته عن خدمة من سواه، مثل: «طوبى لمن استوحش من الناس، وكان الله أنيسه»، وقيل لبعضهم: «ألا تستوحش وحدك؟ فقال: كيف ذلك وهو يقول: أنا جليس من ذكرني».
الابتعاد عن الأسباب المانعة
مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله -عز وجل-؛ فكل سبب يحول بين القلب وبين الله -عز وجل- شؤم على صاحبه؛ فمَن وجد ربه -عز وجل-؛ فقد وجد كل شيء، ومَن فاته ربه -عز وجل-؛ فقد فاته كل شيء؛ فينبغي على العبد أن يضحي بكل ما يحول بينه وبين الله مِن منصب، أو شهرة أو شهوة، أو صديق.
الشبكة العنكبوتية
وأنا أحذِّر بهذه المناسبة من الشبكة العنكبوتية، وكذا القنوات الفضائية التي تبث الإباحية؛ فينبغي على الشاب إذا استشعر خطرها أن يغلق هذه الأبواب، فدرء المفاسد أولى مِن جلب المصالح؛ فإذا كان يشاهد مقاطع إسلامية في الشبكة، ولكنه كذلك يرى صورًا عارية؛ فالمقاطع الإسلامية يمكن أن يستمع إليها في أماكن أخرى، بعيدًا عن الشبكة العنكبوتية، قال -تعالى-: {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء:28)، قال العلماء: «أمام شهوته»؛ ولذا جعل الشرع بين العبد وبين المعصية أبوابًا كثيرة ومغلقة؛ فحرم النظر إلى الأجنبية، ومصافحتها، والخلوة بها، والسفر معها، والدخول على المغيبات، حتى يكون المسلم بعيدًا عن المعصية، نسأل الله -تعالى- العافية في الدنيا والآخرة؛ فالشبكة العنكبوتية والقنوات الفضائية غير الإسلامية مثلها كمثل الخمر والميسر {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة:219).
لاتوجد تعليقات