من أهم الأمراض التي يواجهها، عقلية الترف والمترفين – الحج مواجهة ميدانية لآفات كل عصر
قال -تعالى-: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الإسراء:16)؛ فزيادة نسبة الترف والمترفين في أي واد هو نذير شؤم وهلاك. ولعل استراتيجية أهل الحق تتلخص في مدافعة مرض الترف وصناعة إنسان التقوى. ويكفي أن تعلم أن القرآن قد ذكر أن الترف كان سبب هلاك أصحاب الشمال -نعوذ بالله من مصيرهم- حين قال -تعالى- عنهم: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ (43) لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} (الواقعة:41-45).
الخلاصة الإجمالية
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} تقف الأقلام وتعجز الكلمات وتتعجب مراكز الأبحاث أمام هذه الخلاصة الإجمالية لوصف سبب رئيس من أسباب هلاك المجتمع؛ {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ}.
عقلية الترف
والمقصود في عرض هذه الفكرة بالطبع ليس الترف العقدي الذي وضحته الآية: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} (الواقعة:46)؛ وهو إنكار البعث، ولكن المقصود هو عقلية الترف الكافية لإهلاك أي مجتمع، وهذه العقلية المقصودة في قوله -تعالى-: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}؛ فمقاومة سريان الترف والمترفين وعقلية الترف بين جنبات المجتمع هي مهمة رئيسية لأجل الإصلاح في كل زمان ومكان.
والحج يقاوم هذه العقلية ويهدمها عن طريق المناسك التي تقدم نظاما عمليا ميدانيا لمقاومة عقلية الترف.
الصفات الخمس للمترف
فالصفات الخمس للمترف من خلال استقراء النصوص:
1- بطر النعمة وعدم شكرها، والمظهر الرئيس لعدم شكر النعمة هو استعمالها في الشرور والمعاصي لا في الخيرات والطاعات!
2- المترف قائده دنياه، وهي بوصلته وهمه ومراده وملهاه!
3- المترف عبد لهواه، وهو بوصلته وهمه ومراده حتى لو كان تدينا أو خلقا، فهو يفعل لهواه لا لمراد مولاه!
4- المترف أناني صاحب عقلية فردية بحتة، وهذه أخطر ما يحمله المترف من صفات نفسية؛ فالأناني على استعداد أن يحترق العالم كله من حوله في سبيل سعادته وإشباع رغباته وشهواته.
5- المترف يتعامل مع الحج بوصفه سلعة أو بضاعة كما يتعامل مع كل ما حوله!
مقاومة الترف والمترفين
ولعل من حكم الحج ومناسكه أن الله -عز وجل- شرعه لنا بهذه الكيفية والعقلية لمقاومة الترف والمترفين؛ وكأن الله قد جعل مناسك الحج كاشفة لك ذرة من ذرات الترف بداخلك، ثم يعطيك العلاج والدواء في صورة المناسك البدنية والمالية.
عقلية من يذهب ببدنه
وكم من الحجيج قد ذهب إلى الحج يبتغي حجا على هواه! حتى قال لي أحدهم: أريد أن أفعل كل الرخص في الحج وأترك كل ما يُجبر بدم! ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وهذه عقلية من يذهب ببدنه لا بقلبه، فأنى له الانتفاع بهذه العبادة العظيمة؟!
ومن عجيب القدر أني سمعت وأنا أكتب هذه الورقات أنه قد تم القبض على أحد المسؤولين الكبار لاتهامه بقضية رشوة تعدت الخمسة ملايين جنيها، ومع الرشوة رحلة حج فاخرة! وكأنه يخادع ربه -جلا وعلا.
الله لا يخادع
إن الله -عز وجل- لا يخادع؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (المؤمنون:51)، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (البقرة:172)، ثم ذكر الرجل «يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، أنى» يستجاب لذلك»؟
صاحب عقلية الحج
لكن صاحب عقلية الحج يضع هواه تحت قدميه وهو يطوف، يدوس على فرديته وأنانيته، يطوف بين الناس في مساواة واضحة صريحة بين الأبيض والأسود والأحمر من الناس.
يطوف بين الأعجمي والعربي، بين الفقير والغني؛ فالجميع سواء، لا فضل لأحد على أحد إلا بدينه وتقواه.
المترف فائض العمران.. والأعرابي فاقد العمران..
ولا يضبط العمران إلا الإيمان وأخلاق القرآن وإنسان التقوى صاحب الإيمان
يقول الرب -جلا وعلا-: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة:97).
قال ابن كثير: «لما في طباع الأعراب من الجفاء».
وقال -تبارك وتعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (سبأ:34).
مفهوم الترف
فالترف لا يعني التنعم؛ ولكن يعني التنعم القائد إلى الفسق وإلى الهوى، فالدول تسقط بالترف وليس فقط الأفراد أو المجتمعات.
خطورة الترف
وأخطر ما في الترف أنه مُذهب للعزم والهمم، ولا تقوم الرجال ولا الأمم إلا على أرضية وأساس من العزم؛ فإن الترف داء عضال ومرض مهلك، إن استشرى في أمة ذهب بعزمها، وأورثها تباطؤا وخمولا وكسلا ودعة، وعلقها بالحياة الدنيا وحببها إليها.
وإنسان التقوى صاحب عقلية الحج يضره ترفه في ماكينة حجه؛ لأنه يعلم أن العزم حرفة صاحب الإنجاز، وهو كان الحرم والبيت والكعبة وزمزم إلا بالعزم وطرد الترف.
تذكر ترفك وتنعمك في حجك فقاومه
أطرده وأنت في إحرامك تاركا للعطر وقص الأظافر.
تاركا للشهوات والنساء حتى لو كانت حلالا لك.
تاركا كل مخيط إلا من رداءين تضعهما على كتفك ووسطك، مثلك مثل بقية الناس، على أقدامك تطوف وتسعى وتهرول.
تحلق رأسك، وتؤدي فرضك، وتقيل ترفك.. تسعى إلى ذلك وتصمم عليه كما فعلت أمنا هاجر -عليها السلام- حين سعت بعزم وقوة.
ويا للعربة حين نتعلم الدرس في الخشونة والجلد والصبر والسعي والهرولة من امرأة.
الحج طارد للترف صانع لإنسان التقوى صاحب أركان الإيمان المتجددة والمبادئ العمرانية المنضبطة والأخلاق القرآنية المسددة.
لاتوجد تعليقات