لماذا افترقت الأمة الإسلامية؟
بعث الله نبيه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وأنزل عليه كتابه العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، حمل النبي - صلى الله عليه وسلم - لواء الدعوة إلى دين الله -تعالى-؛ وأتم هذا الدين وأكمله {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3).
لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - صغيرة ولا كبيرة في هذا الدين إلا بينها بيانا شافيا لا لبس فيه، بل إنه أخبر بما سيحصل من فتن وافتراق وما السبيل للعصمة من ذلك كله؟ ثم جاء الصحابة من بعده فحملوا على عاتقهم نشر دين الله -تعالى-، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فكانوا مشعل هداية للبشرية جمعاء، وهذا هو دين الله العظيم آية من كتاب الله -سبحانه- حديث من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم فهم من الصحابة -رضي الله عنهم:
الدين قال الله قال رسوله قال
الصحابة هم أولو العرفان
ما الدين نصبك للخلاف سفاهة
بين الرسول وبين رأي فلان
شيع وأحزاب
وبعد انقراض عصر الصحابة والتابعين وأتباعهم وانقضاء القرون الثلاثة المفضلة افترقت الأمة إلى شيع وأحزاب، كل حزب بما لديهم فرحون، انتشرت البدع والضلالات في الأمة، وابتعد كثير من الناس عن مشكاة النبوة وهدي الصحابة الكرام؛ فحصل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من افتراق الأمة، ثبت في سنن أبي داود وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفَرَّقَتْ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلَهَا فِي النَّار إلَا وَاحِدَة»، قالوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: «الجماعة». وفي رواية: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي».
أكثر من افتراق اليهود والنصارى
نعم إن افتراق هذه الأمة أكثر من افتراق اليهود والنصارى، ولن تجتمع إلا بالرجوع إلى الأمر الأول ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ ولذا احتار كثير من المسلمين في هذا الزمان وتساءل لماذا هذا الافتراق والاختلاف؟ لماذا يقاتل المسلمون بعضهم بعضا؟ لماذا يكفر المسلمون بعضهم بعضا؟ لماذا افترق المسلمون إلى فرق وجماعات، وكل يدعي أنه على الحق وغيره على الباطل، وديننا واحد وإلهنا واحد، ورسولنا واحد.
إلا بما صلح أولها
والجواب أجاب عليه الإمام مالك -رحمه الله- بقوله: لن يُصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها، ما لم يكن يومئذ دينا فلا يمكن أن يكون اليوم دينا، لقد افترق المسلمون في هذا العصر إلى فرق وجماعات، كل جماعة لها مؤسس يأتمرون بأمره ولا يخرجون عن طاعته، ويشنعون ويحاربون من يخالفهم، فكأنهم أنشؤوا دينا جديدا ونبيا جديدا، وهذا والله هو الضلال بعينه: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:31-32).
واقعنا المعاصر
وانظروا في واقعنا المعاصر، في كل بلد طوائف وفرق وجماعات متناحرة، كلٌ يرى أنه على الحق وغيره على الباطل، فضعفت الأمة الإسلامية وأصبحت آخر الأمم، وكلما ذهبت إلى بلدان الإسلام تجد الإسلام ضعيفا:
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد
تجده كالطير مقصوصا جناحاه
تأملوا معي في أحوال المسلمين اليوم تجد المسلمين في ضعف شديد، لا حول لهم ولا قوة، ليس لهم ناصر ولا ولي إلا ربهم -سبحانه-. والله إن القلب ليتألم ويحزن لأحوال المسلمين اليوم.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان
تَدَاعي الْأُمَمُ
وهذا قد أخبر نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ثبت في سنن أبي داود عن ثوبان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا» قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ» قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ».
لماذا هذه الذلة والمهانة؟
إن المسلمين اليوم يمرون بذلة ما بعدها ذلة؛ فبعدما كانوا السادة على أهل الأرض بتمسكهم بدينهم، أصبحوا اليوم أذلاء مقهورين مغلوبا على أمرهم، تداس كرامتهم، بل إن دم المسلم أصبح أرخص دم على وجه الأرض، فلماذا هذه الذلة والمهانة في واقع المسلمين اليوم؟ إنه سبب واحد لا ثاني له: الابتعاد عن دين الله -عز وجل- الذي أعز الله به أمة الإسلام، كما صح عند أبي داود من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».
كيف النصر؟
فكيف النصر؟ هل النصر بالنحيب والبكاء؟ هل النصر بالندم والحسرة؟ هل النصر بالكلام وسب الكفار ولعنهم، والقلب خاو من الإيمان، والمعاصي منتشرة في كل مكان، ودين الله محارب في بلاد المسلمين؟!
كيف يكون النصر وشرع الله معطل في بلاد المسلمين؟ كيف يكون النصر والشرك الأكبر منتشر في بلاد المسلمين والقبور والأضرحة تعبد من دون الله؟ كيف يكون النصر والبدع والضلالات والافتراق على أشده في بلاد المسلمين؟
الربا يؤكل ليلا ونهارا! وكثير من المسلمين لا يعرف الصلاة ولا الزكاة، والخلافات على أشدها بين المسلمين، ثم بعد ذلك لا نعترف بذلك، ونلقي اللوم على أعداء المسلمين والمؤامرات التي يحيكونها للمسلمين!
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
ما الحل؟
وبعد هذا الاعتراف بالواقع الأليم للأمة الإسلامية يتبادر السؤال المعروف: ما الحل؟ وكيف ترجع الأمة إلى سابق عهدها وقوتها؟ يكون ذلك بأمور:
توحيد الله -سبحانه
- أولًا : الاهتمام بتوحيد الله -سبحانه-، ومحاربة الشرك، انظر إلى بلاد المسلمين اليوم ستجد في غالب بلاد المسلمين قبورا وأضرحة تعبد من دون الله، يطاف بها، ويقدم لها النذور والقرابين، ويطلب الرزق والنفع منها! والشرك أعظم ذنب، ولا ذنب أعظم منه، ولا نصر أبدا للأمة إذا لم تحارب الشرك، وتأمل معي أخي الكريم إلى كلام أحكم الحاكمين -سبحانه- ومن أصدق من الله قيلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 55)، فاشترط -سبحانه- للاستخلاف والتمكين في الأرض: عبادته وعدم الشرك به، فأين المسلمون اليوم، وأين المفكرون وأصحاب الفرق والجماعات من هذا التوجيه الإلهي؟
تطبيق شرع الله
- ثانيًا : تطبيق شرع الله في الأرض: حكاماً ومحكومين، يجب على الرجل أن يطبق شرع الله في بيته وبين أهله وأولاده، فيبذل جهده في تربيتهم التربية الشرعية الأخلاقية، يدخل كل ما فيه خير في بيته، ويخرج كل ما فيه شر من بيته، يجب على الوزير والنائب والمدير أن يطبق شرع الله فيمن يديرهم، فيكون خير قدوة في الأمانة والصدق والعدل، وإعطاء الناس حقوقهم كاملة.
الرجوع إلى دين الله -تعالى
- ثالثًا : الرجوع إلى دين الله -تعالى-، والدخول في شرائع الإسلام بحسب الاستطاعة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة: 208). على المسلم أن يتقي الله في نفسه؛ فيأتمر بأوامر الله -تعالى- ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويجتنب ما نهى الله -تعالى- ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويحث أهله وأولاده على ذلك، ويبلغ دين الله لجيرانه وأصحابه في المدرسة، وفي العمل، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينشر الخير والصلاح في المجتمع.
وهذا يحتاج إلى وقت وصبر طويل، وعند ذلك يصلح المجتمع، ويقوى بدين الله، وببذل الأسباب يأتي النصر من عند الله، أما الاستعجال والتهور، وتقديم العاطفة والحماس على شرع الله والحكمة والفقه في الدين فهذا الذي جر على الأمة الويلات، والعاقل اللبيب الذي يرى بعين الشرع والعقل والواقع يعرف صدق هذا الكلام.
لاتوجد تعليقات