رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وائل رمضان 4 ديسمبر، 2024 0 تعليق

من محاسن الشريعة ومقاصدها – حق الحياة في الإسلام

  • ضمن الإسلام حق الحياة لكل إنسان بل لكل الموجودات المخلوقة التي يحمل وجودها معنى الحياة
  • أولت الشريعة حق الحياة عناية خاصة إذ جعلته مقصدًا ضروريا من مقاصدها كونه يرتبط بالإنسان الذي يعد محور الوجود والخليفة في أرض الله
  • حق الحياة في الإسلام مصون والاعتداء عليه جريمة ولذلك عدَّ الإسلام هذا الحق من أعظم الحقوق ومن الكليات الخمس التي هي أسمى ما يجب الحفاظ عليه
  • حرمت الشريعة قتل الإنسانِ لنفسِه للانتحار حماية للنفس فالحياة ليست في الحقيقة مِلكًا لصاحبها
  • حرمت الشريعة ترويع الإنسان سدًّا لذريعةِ الوصولِ ولو بطريقِ الخطأِ إلى قتله دون وجه حق
  • لم تكتف الشريعة بتأكيد حق الحياة بل دعت إلى المقومات التي تكفل هذا الحق وظلت تراعي مقومات حياة الإنسان في كل مراحلها حتى آخر مراحل عمره
  •  نظَّمت الشريعة حركة الحياة وبيَّنت الحلالَ من الحرام فإذا سار الإنسان وفق هذا المنهج ضمن لنفسه حياةً سعيدةً بعيدةً عن الفتن والمشكلات التي قد تودي بحياته
 

الحقُّ في الحياة من أهمّ حقوق الإنسان التي نادت بها الشريعة الإسلاميَّة، وحضَّت على حفظه، وشرَّعت التشريعات المحكمة لتأمينه، ومعاقبة المعتدي عليه، وسدَّت كلّ الطرق على ما يعترضه أو يتلِفه، ويأتي بعد هذا الحق سائر الحقوق؛ إذ لا معنى لجميع الحقوق مع انعدام هذا الحق، فقد ضمن الإسلام حق الحياة لكل إنسان بل لكل الموجودات المخلوقة التي يحمل وجودها معنى الحياة.

 أولاً: مفهوم الحق في الحياة

         حقَّ الحياة في الإسلام مصون، والاعتداء عليه جريمة؛ ولذلك عدَّ الإسلام هذا الحق من أعظم الحقوق، وجعله من الكليات الخمس التي هي أسمى ما يجب الحفاظ عليه في الشريعة الإسلامية، وجاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تنادي وتطالب بإقامة أسباب الحياة واستمرارها واحترامها، قال -تعالى-: {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأنما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأنما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، قال الشيخ السعدي: من أحيا نفسًا أي: استبقى أحدًا، فلم يقتله مع دعاء نفسه له إلى قتله، فمنعه خوف الله -تعالى- من قتله، فهذا كأنه أحيا الناس جميعًا؛ لأن ما معه من الخوف يمنعه من قتل من لا يستحق القتل، فاعتبرت الآية أن قتل نفس واحدة بغير حق هو جريمة بحق الإنسانية جمعاء، وإحياءها هو جميل للإنسانية جمعاء.

ثانيا: مقومات حق الحياة

        لم تكتف الشريعة بتأكيد حق الحياة، بل دعت إلى المقومات التي تكفل هذا الحق، فدعت إلى الاهتمام بالجنين في بطن أمه قبل ولادته، ودعا الإسلام إلى الاعتناء بالطفل ورضاعته وكسوته والإنفاق عليه {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْل كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف}، وإلى رعاية اللقيط واليتيم {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ}، وظلت الشريعة تراعي مقومات حياة الإنسان في كل مراحلها حتى آخر مراحل عمره «ليس منا من لم يعرف حق كبيرنا»، بل أعطته حقوقا بعد وفاته، فحرمت سبّه وإيذاءه والتمثيل به وغيرها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لئن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر»، وقال: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم».

ثالثا: مظاهرُ حمايةِ الشريعة للحقِّ في الحياةِ

هناك مظاهرُ عديدة نصت عليها شريعتنا الغراء- بل وسائر الشرائع- تحمي الحقَّ في الحياةِ وتحفظ النفس ومن ذلك ما يلي:

1     الحث على التَّكاثر والتَّناسل

        حثت الشريعة الإسلامية على التناسل والتكاثر وإيجاد النفوس لِتَعْمُرَ العالَم، وتُشَكِّل بذرة الحياة الإنسانية في الجيل الخالف، فشُرِع الزواج على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم - في قوله: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأُمَمَ»، وقد نوَّه الإسلامُ بالعلاقة المُقدسة بين الزوجين وعدها آيةً من آيات الله، في قوله -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21)، فالزواج يعد سببًا لتكاثر الجنس الإنساني وبقاء حياته استنادًا لقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}، وفي ذلك خلود للأثر، كما أن الله -سبحانه- استخلف الإنسان على هذه الأرض لبث الحياة فيها، وبنائها، وهذا الاستخلاف لا يحدث بفرد واحد، فكان لا بد من الزواج لتوالد النوع الإنساني واستمراره.

2    بيان الحلال والحرام

         قد يسأل سائل: ما العلاقة بين التحليل والتحريم وبين الحفاظ على الحياة؟ والجواب واضِحٌ لا لَبْسَ فيه، فالشريعة نظَّمت حركة الحياة، ويسَّرت سُبل المعيشة، وسهَّلت على الإنسان حياته، بأنْ بيَّنت له الحلالَ من الحرام، فإذا سار وفق هذا المنهج فقد ضمن لنفسه حياةً سعيدةً، بعيدةً عن الفتن والمشكلات التي قد تودي بحياته، وبيَّن الله -تعالى على لسان نبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم - الحلالَ المحض، الذي نفعُه بَيِّن، والحرامَ المحض، الذي ضررُه بيِّن ليكون معلومًا للناس بالضَّرورة، وجعل بينهما أمورًا مشتبهات لا يعلمهنَّ كثير من الناس، فقال -صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ».

3     قتل النفس من السبع الموبقات

حرمت الشريعة قتل النفس بغير حقّ، وجعلته من الكبائر المهلِكة، كما جاء في الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ...»، وفي الحديث: «لَا يزَال ‌الْمُسلم ‌فِي ‌فسحة من دينه مَا لم يصب دَمًا حَرَامًا».

4        النهيُ عن ترويعِ المسلم

      حرمت الشريعة ترويع الإنسان سدًّا لذريعةِ الوصولِ ولو بطريقِ الخطأِ إلى قتله والقضاء على حياته بغيرِ وجهِ حقٍّ، وفي ذلك يقولُ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا»، وفي رواية: «مَنْ أَشَارَ إلى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى يَدَعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ».

        تحريم الإجهاض

       من شدة عناية الاسلام بحق الإنسان في الحياة أنه حرم إسقاط الجنين بعد أن تدبّ الحياة فيه، إلا إذا كان هناك سببٌ حقيقيّ يوجب إسقاطه، كالخوف على أمه من الموت ونحو ذلك، وأوجب في إسقاطه بغير حق غرة، حتى ولو كان مخَلَّقًا من ماء الزنا، فقد جاء التوجيه النبوي بتركه حتى يولد ثم يرضع حتى يطعم الطعام، عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه: أن ماعز بن مالك الأسلمي - رضي الله عنه - أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - … الحديث وفيه: «جَاءَتِ (الغامدية) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وَإِنَّهُ رَدَّهَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَ تَرُدُّنِي؟ لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللهِ إِنِّي لَحُبْلَى، قَالَ: «فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي»، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ، قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ، قَالَ: «اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ»، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللهِ قَدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إلى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إلى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوها، فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ، فَرَمَى رَأْسَها فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّها، فَسَمِعَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَبَّهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ: «مَهْلًا يَا خَالِدُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَها صاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ»، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْها، وَدُفِنَتْ». ففي الحديث دليلٌ على أنه إذا وجبت على الحامل عقوبة لا تقام عليها ما لم تضَع الحمل؛ لأنَّ في معاقبتها قبل الوضع إهلاك البريء بسبب المجرم، سواء كانت العقوبة لله -سبحانه وتعالى- أو للعباد.

    تحريم الانتحار

        حرمت الشريعة قتلِ الإنسانِ لنفسِه، ومن ذلك تحريم الإسلام للانتحار حماية للنفس، ولأنه اعتداء عليها؛ إذ الحياة ليست في الحقيقة مِلكًا لصاحبها، بل هي هبة من الله -تعالى- في يد صاحبها، فلا يحل له الاعتداء عليها، وقرر أبو إسحاق الشاطبي -رحمه الله- أن نفس المكلف أيضا داخلة في هذا الحق أي: حق الله -تعالى-؛ إذ ليس له التسلّط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف. فلهذا عد الإسلام الانتحار جريمة شنيعة، وأن لصاحبه أشد الإثم والعقاب في الآخرة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم، يتردى فيها خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسَّى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحسّاه في نار جهنم خالدًا مخلدا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا»، قال ابن دقيق العيد: هذا من باب ‌مجانسة ‌العقوبات ‌الأخروية ‌للجنايات ‌الدنيوية. ويؤخذ منه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم؛ لأن نفسه ليست مِلكا له، وإنما هي ملك لله -تعالى-، فلا يتصرَّف فيها إلا إذا أذن له فيها.

7       تشريع القصاص

        تشريع القصاص راعت فيه الشريعة حقَّ الحياة وحفظ النفوس، فالله -تعالى- يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179)، وكون القصاص حياةً يرجع إلى أنه إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر، مخافة أن يُقتصّ منه، فحييا بذلك معا، كما قررت أن الحياة هي المطلوبة بالذات، وأن القصاص وسيلة من وسائلها؛ لأن من علم أنه إذا قتل نفسًا يُقتل بها يرتدِع عن القتل، فيحفظ الحياة على من أراد قتله وعلى نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كلّ أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع، فإن من الناس من يبذل المال الكثير لأجل الإيقاع بعدوه، وفي الآية من براعة العبارة وبلاغة القول ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح في العقوبة، ويوطِّن النفوس على قبول حكم المساواة؛ إذ لم يسم العقوبة قتلا أو إعداما، بل سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم، ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، أو نوع من الحياة، وهو الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل، لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل.

8        تشريع العفو والدية

         لم يترك الإسلام تشريع القصاص هكذا دون مخرج شرعي؛ فليس الهدف القتل في حد ذاته بل هو رادع لتلك الجريمة، فلذلك شرع الإسلام العفو والدِّية التي فيهما حفظٌ للنفس أيضًا، فإذا كانت هناك نفسٌ قد أُزهِقَت، فقد جعل الخالقُ -سبحانه- مخرجًا لنفس القاتل ألاَّ تُزهق، بشرط الرضا من قِبَلِ وليِّ المقتول، وهذا التشريعُ فيه سعةٌ ويُسر، وجبرٌ لخاطر أهل المقتول، وحقنٌ للدماء، وحِفظٌ للأنفس، وصِيانةٌ لها من الموت والهلاك.

   تشريع الرُخصّ

         شرع الله سبحانه و-تعالى- بعض الرخَص للحفاظ على حياة الإنسان، ورفعًا للحرج عن المكلَّف، ذلك أن حفظ النفس هو أحد مقاصد الشريعة الخمس، والضرورة هي ما يرجع إلى المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل، ولا شريعة من الشرائع، وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فيصبح المحظور في حق المضطر واجبًا كأكل الميتة إذا لم يجد ما يغنيه عنها لقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، وقوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، ومن هذه الرخَص: أن الشارع رخص للمريض مرضًا شديدًا الفطر، فإن أدى امتناعه عن الفطر إلى إهلاك نفسه فإنه يكون قد ألقى بنفسه إلى التهلكة، والله -سبحانه- قد أمره بألا يلقي بنفسه إلى التهلكة، وقد كان قادرًا على إحياء نفسه بما أحله الله له، أما إن امتنع فإنه يأثم، وليس في دين الله ولا شريعته إلزام الإنسان بالصوم على وجه يوجب هلاكه، ومنها ترخيص الفطر للمرأة الحامل الذي يؤثر الصيام على صحتها ويضعفها ويلحق بها الضرر، وذلك حرصًا على حياة جنينها.

10         تجنب كل ما يضر بالحياة

         أوجبت الشريعة على الإنسان أن يتجنب كل ما يؤدِّي إلى الإضرارِ بالنفس، كالمخدراتِ والتدخينِ وغيرِ ذلك؛ حيثُ إنَّ حياةَ البشرِ ليستْ ملكًا لهم، إنَّما هي هبةٌ وهبها اللهُ إياهم، وهو سائلهم عنها، ولذلك أَوجَبت الشريعة على الإنسان أنْ يمد نفسه بوسائل الإبقاء على حياته، من تناولٍ للطعام والشراب، وتوفير اللباس، والمسكن، فيحرم على المسلم أن يمتنع عن هذه الضَّروريات إلى الحدِّ الذي يهدد بقاء حياته، كما اعتبرت الحصول على هذه الضروريات هو الحد الأدنى الذي يلزم المجتمع مُمثَّلًا في الأفراد من جهة، بما أوجبه عليهم من حقٍّ معلومٍ في أموالهم يُرَدُّ على فقرائهم، وفي الدولة من جهةٍ أُخرى مُمثَّلةً في أجهزتها وأنظمتها بتوفير هذا الحدِّ الأدنى الضروري للأفراد العاجزين عن توفيره لأنفسهم، بل أوجب على الإنسان -إذا وجد نفسه مُهدَّدة- أنْ يَدفع عن نفسه الهلاك بأكل الميتة بقدر الضرورة.

خلاصة القول

        أولت الشريعة الإسلامية الغراء حق الحياة عناية خاصة واهتماما بالغا؛ إذ جعلته مقصدًا ضروريا من مقاصدها، وشددت على ضرورة صونه وحمايته، كونه يرتبط بالإنسان الذي يعد محور الوجود وخليفة الله في أرضه، وحقُّ الحياة هو الحق الأول للإنسان، وبهِ تبدأ سائر الحقوق، وعند وجوده تُطبَّق بقيَّة الحقوق، وعند انتهائه تنعدم معظم الحقوق، وحق الإنسان في الحياة منحةٌ من الله، وكلُّ اعتداء عليه يعد جريمة في نظر الإسلام، ويجب على سائر الأفراد والمجتمعات والدول حماية هذا الحق من كل اعتداء، وينبني على ذلك حرمة الاعتداء البدني والمعنوي.    

حق الحياة مقيد بالغاية من الخلق

حق الحياة ليس حقًّا خالصًا للفرد يتصرف فيه كيف يشاء، بل هو مقيَّد بالغاية التي من أجلها وجد الإنسان، وهي عبادة الله وعمارة الكون، وتنظيم الحياة فيه على مقتضى من النظر الشرعي، وهو تشريع لم تأخذ به معظَم القوانين الحديثة في العالم.  

حق الحياة في القرآن والسنة

          تناولت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية حق الحياة، وجعلته أساس جميع الحقوق، ولم يحظَ أي حق من الحقوق الأخرى في القرآن الكريم ولا في السُنَّة النبويَّة بمثل ما حظي به حق الحياة من اهتمام، ويؤكدان بحرص شديد على أهمية المحافظة على الحياة، ولو تأملنا تلك النصوص لما وجدنا ذنبًا وجرمًا أعظم في الإسلام من إزهاق النفوس، ويبدو ذلك واضحًا لمن يطّلع على النصوص الواردة في الكتاب والسنة ولا سيما في باب القصاص.  

لكل ذي حياة حقُّ في الحياة

        بينت نصوص القرآن والسنة أن حق الحياة في الإسلام لا يقف عند حق الإنسان فقط، بل جعل لكل ذي حياة حقا في الحياة، فضَمن حق الحياة للحيوان والنبات وسائر المخلوقات الحية الأخرى، كما أوجب الإسلام حق الحياة للكافر، وجاءت أحاديث صحيحة توجب النار لمن قتله، روى البخاري عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد في مسيرة أربعين عامًا» هذا بالنسبة للكافر فما بالكم بالمؤمن؟!      

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك