رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: راشد سعد العليمي 20 نوفمبر، 2024 0 تعليق

التفكك الأ سري . .  الأسباب والآثار والمعالجات

  • الأسرة في الإسلام لها شأن عظيم فهي الأساس الذي بقدر ما يكون راسخًا متينًا يكون صرح المجتمع وبناؤه شامخًا منيعًا
  • ظلت الأسرة المسلمة قلعة شامخة وحصنًا منيعًا حينما كان قوامها الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقًا وظلت تمثل صمام أمان ضد الأخطار وجميع محاولات التذويب وطمس الهوية
  • السنة النبوية وضعت خططًا واضحة لتقوية العلاقة الأسرية ورعايتها من التفكك ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»
  • منظمة الأسرة آية من آيات الله المباركة المبثوثة أمامنا ومن دلالة أهميتها ألا سعادة للأفراد ولا قوام للمجتمعات بحضارتها المستمرة إلا بالمحافظة على هذه المنظومة العظيمة
  • علم فقه الأسرة وفهم قضاياه وأحكامه والنظر في جوانبه من الناحية الشرعية والقانونية والاجتماعية أصبح من المطالب الواجب نشرها بين الناس ولاسيما بين المقبلين على الزواج
 

يكاد لا يتنازع أحد في أن الخوف على الأسرة من التفكك، أصبح واقعيا من القضايا المعاصرة المزعجة في كيان أي مجتمع، سواء المسلمون وغير المسلمين، وهو نذير خطر يجب الانتباه إليه، والنظر في معرفة أسباب حدوثه في الأسرة ابتداءً، مع تلمس آثاره السيئة على المجتمع ثانيًا، ومن ثم دراستها دراسة واعية لمعرفة المعالجات المناسبة لها للتقليل من انتشارها في المجتمع، وفي هذه الأسطر الموجزة تبيان لبعض من الأسباب المفضية إلى وقوع التفكك الأسري.

أهمية الترابط الأسري

        إن الأسرة في الإسلام لها شأن عظيم؛ فهي الأساس الذي بقدر ما يكون راسخًا متينًا، يكون صرح المجتمع وبناؤه شامخًا منيعًا، لما يختزنه من عوامل القوة والحيوية والنماء، ومن ثم كانت عناية الإسلام بمؤسسة الأسرة عناية بالغة وفي غاية الدقة والشمول؛ لأن الأسرة ليست مجرد إطار عادي، يتصرف فيه كل عضو بمحض حريته وإرادته، بل هي إطار تحكمه ضوابط وتسيجه أحكام الشرع الحكيم التي ترتب على الزوجين وظائف مقدسة، تتمحور حول غاية سامية كبرى، هي الحفاظ على استمرار وجود الأمة الإسلامية متماسكًا قويا، قادرًا على أداء رسالته الحضارية العظمى، التي هي نشر دين الله في أرضه، قال -تعالى-: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}  (البقرة: 228).

دعائم الأسرة المسلمة

         ولتؤدي الأسرة وظائفها وتضطلع برسالتها، لابد أن تقوم على دعائم غابت عنها أصبحت كيانًا مهزوزًا قابلًا للنقض في أي وقت، ولقد ظلت الأسرة المسلمة قلعة شامخة وحصنًا منيعًا حينما كان قوامها الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقًا، وظلت الأسرة المسلمة تمثل صمام أمان ضد الأخطار وجميع محاولات تذويب كيان الأمة وطمس هويتها، وإلغاء تميزها وشهوديتها، حينما كانت تعتصم بحبل الله المتين، ولكن هذه الأسرة هي نفسها التي أصبحت مدخلًا للهدم ونسف بنيان الأمة، حينما وقعت فريسة بين أيدي الأعداء، فقد أيقن هؤلاء ألا مطمع لهم في إضعاف الأمة والإجهاز عليها، إلا بالتسلل إلى حمى الأسرة لنقض عراها ونسف بنيانها، وكان ذلك مكرًا كبارًا من جانب قوى الشر والإفساد في العالم.

الأسرة قلب المجتمع

        وعلى هذا يمكن القول بأن الأسرة في المجتمع بمثابة القلب من الجسد، إذا صلحت صلح الجسد كله، وعلى وجه الخصوص الوالدان هما بمثابة القلب الذي إذا أدى وظائفه الحيوية في تغذية شرايين جسم الأسرة، وضخ دماء العافية والطهر والنقاء فيه وحسن التربية، التي فيها قيم الفضيلة والعفة والحياء، وبث روح التضامن والمسؤولية والإخاء، كانت الأسرة أسلم ما تكون، وقال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} (الفرقان:54)، وجاءت السنة لتضع خططًا واضحة على تقوية العلاقة الأسرية ورعاية لهذه العلاقة من التفكك، ومن تلك التوجيهات النبوية: عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»، رواه الترمذي.

أسباب مفضية للتفكك الأسري

لعل من الأسباب المفضية للتفكك الأسري كثيرة، وكل متكلم ينظر لها من زاوية تخصصه وما يراه حوله، ولو نظرنا لتلك الأسباب من الناحية الشرعية والاجتماعية لأمكن ذكر بعضها بما يتيسر:

(1)  تهميش حق القوامة في الأسرة

         القوامة ضرورة تفرضها سنن الله، وأوجبها الله على الزوج، وأصبح حقا للزوجة، قال -تعالى-: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء:34)، ومع الاعتراض على هذا المبدأ أو تهميش أهميته حل محل أسرة الوئام والود والاحترام، أسرة النزاع والانقسام؛ وما ذلك إلا بسبب فكرة الصراع التي زرعت في عقول بعض النساء، وتحولت بسببها طائفة من الأسر إلى حلبة للحرب والشقاق، فلقد قيل للنساء بأن مبدأ القوامة مبدأ ظالم ومجحف غير منصف في حق المرأة، وكان ذلك اعتراضًا شيطانيا ماكرًا زج بالنساء في أتون معركة خاسرة كان ضحيتها الكبرى، شمل الأسرة الذي مزق شر ممزق، وأمن المجتمع الذي زعزعت دعائمه وتصدعت أركانه. والحقيقة أن مبدأ القوامة ضرورة تفرضها سنن الله في الاجتماع والعمران، بل إظهار لتمكين المرأة في بيتها وهي على عرش المملكة الكريمة يقوم الرجل على رعايتها بأوجه النفقة المتنوعة، وفيها تهيئة المسكن والكسوة والإطعام، فما من مؤسسة إلا ولها قائد أو رئيس فهل يريد هؤلاء المفسدون أن تكون مؤسسة الأسرة استثناء من القاعدة وانحرافًا عن سنة ثابتة فتصبح هملًا دون راع؟ (2) الانشغالات الحياتية عن الأسرة نسمع كثيرًا أن الحياة تتطلب المزيد من العمل، لزيادة الدخل المالي مع قدوم الأولاد، ولتوفير لقمة طيبة وكريمة للأسرة، وهذا قد يضطر الأب أو الأم للعمل نهارًا ثم ليلًا لأجل تحقيق ما يصبو إليه كل واحد منهما لأفراد الأسرة، وحينما نلتفت إلى التوجيه الرباني لأروع النساء وهن زوجات النبي بالأمر الكريم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}   (الأحزاب: 33)، لم يكن إلا صونًا ورعاية وإكرامًا لهنّ من مكدرات الدنيا الخارجية، وراحة للنفس من متاعب متحققة خارج جدران البيت، لكن ذاك اللهث بالجري خلف متطلبات الأسرة، الذي في غالبه يدخل في النظر إلى الكماليات، وليس الحاجيات الأساسية لم ينظر إليه الوالدان بنظرة واعية فاحصة لها علاقة بمقدار تأثر تعلقهما بالأسرة أو لا، وهل يا ترى سيقود الانشغال الكبير منهما جميعًا إلى تفكك العلاقة مع الأسرة بأكملها؟ ولا غضاضة ولا لوم لو انشغل أحد الأفراد في العمل طيلة اليوم وأكثر الليل، لكن من الأهمية بمكان النظر إلى وجود الطرف الآخر في الأسرة، لرأب صدع التفكك لو قدم على بنيان الأسرة المباركة.

(3) المقارنات المخالفة لقانون العدل الرباني

        مع تزاحم الحياة المعيشية بوسائل كمالية كثيرة في شتى أمور الشراء، حيث اقتحمت كيان الأسرة المالي والمعيشي، أصبح من الأهمية بمكان النظر إلى هذا الداء الذي له سبب في تفكك بينان الأسرة من الناحية المالية، بل وفيه اعتراض غير مباشر على ما قدره الله بعلم منه وحكمه من مال مناسب لوجود كل فرد منا، حيث قال ربنا: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (الشورى (27)، وهذا يعلم الفرد منا أن يرضى بما قسمه الله له، حذرًا من أن تشرف النفس تطلعًا وفكرًا لماذا لا يكون عندي مثل ما عند فلان، ولو كان بأي وسيلة؟ وجاءت الشريعة لقصم هذه الأفكار الشيطانية المدمرة للأسرة؛ حيث ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ». رواه الترمذي في سننه، وإذا لم يستوعب الزوجان هذه المنظومة الشرعية المباركة في توزيع الأرزاق بين الناس، فإن المنازعات بينهما ستظهر بقوة مع كثرة المطالبات للمعيشة، مثل معيشة فلان أو فلانة، وإذا لم يتحقق لأحدهما ما يريد فسوف يلجأ إلى وسائل لا تفضي به إلا إلى الانفكاك عن الطرف الآخر.

(4) ضعف التأهيل للثقافة الزوجية

        مما لا شك فيه أن علم فقه الأسرة وفهم قضاياه وأحكامه، والنظر في جوانبه من الناحية الشرعية والقانونية والاجتماعية أصبح من المطالب الواجب نشرها بين الناس، وتحديدًا للمقبلين على هذا المشروع الحياتي العظيم، فلا يتصور أن يقدم شاب أو فتاة إلى هذا الارتباط وفق مفاهيم قديمة غير مناسبة لفهم الطرف الآخر، أو ينساق خلف مفاهيم وأحوال أجنبية داعية إلى فهم منظومة العلاقة الأسرية وفق معلومات لا تمت للإسلام بصلة، وهي في الحقيقة بدأت تدب حاليا على حياة الكثير منّا من خلال دورات تعزز الذات أو كيفية إخراج المارد في داخلك، أو بإظهار قوة الوعي، وكلها داعية شر بقوة إلى فك عقدة الزواج الكريمة.

 (5) المطالبات الحقوقية الجائرة

        مع الدعوة الصادقة لرعاية حقوق الأنثى أو الرجل وفق ما شرعه لهما ربنا -سبحانه-، انبرت علينا منذ سنوات دعوات صارخة كاذبة متوجهة إلى استقلالية المرأة عن قيود الأسرة -وفق ما يدعون- لإثبات وجودها بطريقة بعيدة عن تكوين أسرة مترابطة سعيدة، ولكن لتعزيز الفردية لها مع الإهمال للتربية الوالدية الصحيحة، مخالفة للسنة الشرعية الربانية المباركة التي أخبرنا بها ربنا الحكيم العليم بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم (21). إننا لا نجانب الصواب إذا قلنا بأن حركة المطالبة بحقوق المرأة ما هي إلا معول لهدم الأسرة، وذريعة لنشر الفساد، وزعزعة أمن المجتمع، فهي حركة ظاهرها فيه الرحمة والإنصاف، وباطنها من قبله العذاب، ودالة على عدم فهم للحقوق الكثيرة التي غنمتها المرأة في الإسلام من بعد عصور بائسة عاشتها في ظلم أحكام جاهلية. فتزعمت هذه المطالبات طائفة ناشئة حديثة أطلقت على أنفسها حركة النسوية للمطالبة بالحقوق، ونشأت في دول لم تعطِ للأنثى أي حق إلا المساواة الجائرة مع الذكر، واللهث خلف سيادة سقيمة للمرأة، وسن قوانين لها أولها الفرحة بالنصر لكسبها، ثم البكاء والندم بعد فرضها على المجتمع الأنثوي، ومن ذلك ساعات العمل الطويلة أو وجودها في مواضع عمل شاقة لا تليق بها، أو بفرض ساعات عمل طويلة تحرم الأنثى من بعدها من رعاية أطفالها، أو امتهان لجسدها وذاتها في الإعلانات القبيحة.

من الآثار المترتبة على التفكك الأسري

الناظر إلى ما سلف تبيانه من أسباب خطيرة تجلب علينا التفكك الأسري، بمقدوره بداهة التوقع إلى الآثار المترتبة على ما تم ذكره على الأسرة ومن ذلك: (1)  تكون العلاقة بين الزوجين باهتة: وذلك مع تبلد الأحاسيس بالاهتمام والرعاية الصحيحة، ولربما تصل إلى مراحل باردة لا دفء أسري فيها، وقد لا يجد أي طرف في الآخر إلا العبء الحياتي والثقل على النفس، ولا يجد فيه إلا كل عيب مع نسيان الفضل بينهم، وهذا ما حذرنا ربنا من الوقوع فيه: {وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}  (البقرة). (2)  انشغال كل طرف بما يحلو ويرغب به: وعدم الانتباه إلى أهمية سد حاجة الطرف الآخر من جهة رئيسة وهي الحاجة النفسية، وهذا سيؤول مستقبلًا إلى وجود الرغبة بالانفكاك عن الذي لا يشعر معه أحدهما بالأمان والاحتياج الحياتي والرعاية الذاتية. (3) ضياع بوصلة الأولويات في حياة كل فرد: حيث تم تأخير الاهتمام بحاجيات الأسرة عن موضعها الصحيح وحالها المناسب فيصبح البيت مأوى للجسد وليس سكنًا للروح، وطمأنينة للقلب، ولا يتحقق لهما {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} (النحل: 80). (4)  تبدل الأدوار الأسرية عن موضعها الصحيح: فتكون القوامة واجبة على المرأة لابتعاد الرجل عنها بطريقة غير مشروعة، مع تزاحم مسؤوليات الحياة على الزوجة، مما يثقل كاهلها هذا الأمر، وقد تلجأ إلى الانفكاك عن الذي أهمل دوره الزوجي. (5)  ظهور الأخلاقيات السيئة بين الطرفين: وذلك نتيجة لفقد قيم حياتية كثيرة بينهما، منها التفاهم، والاحترام، وحسن التنازل، وكريم الرعاية، فيظهر مكانها القسوة والفظاظة وتبلد المشاعر وتصيد الزلات، والتعيير بينهما. (6)  تلاشي الانتباه مع كثرة النزاع بين الزوجين: قولًا وأحيانًا فعلًا، وعندها هناك من يتعلم منهما تعليمًا سيئًا بطريق غير مباشر، ألا وهم الأولاد، فسينهلون منهما ما يدمر المشاعر والأحاسيس تجاههما، ويغرس فيهما العنف وتعلم الكلمات البذيئة.  

د. راشد سعد العليمي

(عضو  هيئة التدريس في التعليم التطبيقي)

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك