رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 4 نوفمبر، 2024 0 تعليق

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في النُّزُول بمَكّة للحَج

-  ضَرَبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفْسِه المثلَ الأكمَلَ في كلِّ العِباداتِ والتعامُلاتِ ومِن ذلك: أحكامُ التَّوارُثِ بيْن المسلِمِ والكافرِ وبيانُ عدَمِ التَّوارُثِ بيْنهما  

عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟» وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ شَيْئًا، لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/984) باب: النّزولُ بمكة للحَاج، وتوريث دورهما، ورواه البخاري في الحج (1588) باب: توريث دور مكة وبيعها وشرائها، وأنّ الناس في المسجد الحرام سواء خاصة؛ لقوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج:25)، البادي: الطّاري، مَعكوفاً: محبوسًا، فالحديث متفق عليه.

        يَرْوي أسامةُ بنُ زيدٍ - رضي الله عنه - في هذا الحَديثِ فيقول: أنَّه سَأَلَ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-، وذلك عندَ فتْحِ مكَّةَ كما في الرواية الأخرى لمسلم، وهي في السَّنةِ الثامنةِ مِن الهِجرةِ، فقال له: أينَ سَيَنزِلُ ويُقيمُ غدا؟ هل في دُورِه التي تَرَكَها قبْلَ الهِجرةِ في مكَّةَ؟ فقال له: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ له - صلى الله عليه وسلم-: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟» والرَّباع بفتح الراء، جمع ربع: وهو المَنْزل المُشْتمل على أبيات، وقيل: هو الدار. أي: بَيِّن له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- أنَّه لا مَكانَ له في دُورِ أبي طالِبٍ، ولا غَيرِه مِن قَومِه في مَكَّةَ؛ وذلك لأنَّ المُؤمِنَ لا يَرِثُ الكافر.

لا يرث المُؤمن الكافر

        وكان عقيلُ قد ورث أبا طالب، هو وطالب، ولمْ يَرثه جعفر ولا عليّ - رضي الله عنه - شيئًا؛ لأنّهما كانا مُسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين، ولا يرث المُؤمن الكافر، وقد فسَّر الرَّاوي -ولعلَّه أسامةُ رضي الله عنه - أنَّه لَمَّا مات أبو طالِبٍ عمُّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَرِثَه ابناهُ الكافرانِ: عَقيلٌ وطالبٌ، وحازا كلَّ مُمتلكاتِه المُشتملةِ على عِدَّةِ بُيوتٍ، ولم يَرِثْه جَعْفَرٌ وعَلِيٌّ المؤمنانِ، ولو كانا وارثَين؛ لنَزَلَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في دُورِهما، وكانت كأنَّها مِلكُه؛ لِعلمِه بإيثارِهِما إيَّاه على أنفُسِهما. وفي رواية البخاري: فكان عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - يقولُ: لا يَرِثُ المُؤمِنُ الكافِرَ. والمرادُ أنَّه كان يقولُ ذلك؛ بِناءً على ما أقَرَّه - صلى الله عليه وسلم- مِن عدَمِ وِراثةِ علِيٍّ وجَعفرٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- مِن أبي طالبٍ.

ولاية الميراث

        وقالَ ابنُ شِهَابٍ الزُّهريُّ كما في رواية البخاري: إنهم كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَولَ اللهِ -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (الأنفال: 72)، فيُفسِّرون الوِلايةَ في هذه الآيةِ: بوِلايةِ المِيراثِ، وتَتمَّتُها: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}(الأنفال: 72-73). والمعنى: إنَّ الذين آمَنوا باللهِ ولم يُهاجِروا مِن بَلَدِ الكفْرِ إلى بَلَدِ الإسلامِ، ليس عليكمْ -أيُّها المؤمِنون- أنْ تَنصُروهم وتَحمُوهم حتَّى يُهاجِروا في سَبيلِ اللهِ، وإنْ ظَلَمَهم الكفَّارُ، فطَلَبوا منْكم النَّصرَ؛ فانْصُروهم على عَدُوِّهم، إلَّا إذا كان بيْنكم وبيْن عَدُوِّهم عَهْدٌ لم يَنقُضوه، واللهُ بما تَعمَلون بَصيرٌ، لا يَخْفَى عليه شَيءٌ مِن أعمالِكم، وسيُجازيكم عليها. والذين كَفَروا باللهِ يَجمَعُهم الكفْرُ، فيُناصِرُ بَعضُهم بَعضًا، فلا يُواليهم مُؤمنٌ، إنْ لم تُوالُوا المؤمنين وتُعادُوا الكافرينَ تَحدُثْ فِتنةٌ للمُؤمنينَ؛ حيث لم يَجِدوا مَن يُناصِرُهم مِن إخوانِهم في الدِّينِ، ويَحدُثْ فَسادٌ في الأرضِ عَظيمٌ بالصَّدِّ عن سَبيلِ اللهِ.

ترك النبي - صلى الله عليه وسلم-  لتصرفات الجاهلية

         قال الحافظُ ابن حجر: وأخرج هذا الحديث الفاكهي من طريق محمد بن أبي حفصة، وقال في آخره: ويقال إنّ الدار التي أشار إليها؛ كانت دار هاشم بن عبد مناف، ثم صارت لعبدالمطلب ابنه، فقسمها بين ولده حين عمر، فمِن ثَمَّ صار للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم- حقّ أبيه عبد الله، وفيها وُلد النّبي - صلى الله عليه وسلم . ثم قال: محصل هذا أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر؛ اسْتولى عقيل وطالب على الدار كلّها، باعتبار ما ورثاه منْ أبيهما، لكونهما كانا لمْ يُسلما، وباعتبار ترك النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لحقّه منها بالهِجْرة، وفقد طالب ببدر، فباع عقيل الدار كلّها. وقال الداودي وغيره: كان مَنْ هاجر مِنَ المؤمنين؛ باع قريبه الكافر داره، وأمْضى النبيّ - صلى الله عليه وسلم- تصرُّفات الجاهلية؛ تأليفًا لقُلوب مَنْ أسلم منهم». الفتح (3/452).

المقصود بالمسجد في الآية

          وقوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25)، قال القاضي إسماعيل: ظاهر القرآن يدلّ على أنّ المراد به: المسجد الذي يكون فيه النُّسُك والصّلاة، لا سائر دُور مكة، وقال ابن خزيمة: لو كان المراد بقوله -تعالى-: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (الحج: 25)، جميع الحَرَم، وأنّ اسم المَسْجد الحرام واقعٌ على جميع الحَرم؟ لما جاز حفرُ بئرٍ ولا قبر، ولا التّغوّط ولا البول، ولا إلقاء الجِيَف والنتن، قال: ولا نعلم عالِماً منع من ذلك، ولا كرِه لحائضٍ ولا لِجُنب دُخُول الحرم، ولا الجِماع فيه، ولو كان كذلك، لجازَ الاعتكاف في دُور مكة وحَوانيتها، ولا يقول بذلك أحد، والله أعلم؛ انتهى. «الفتح» (3/451)، واحتج الشافعي بحديث أسامة هذا؛ على جواز بيع دُور مكة وتِجارتها؛ قال الحافظ: وبالجواز قال الجمهور. الفتح (3/ 450).

من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم

        قول عمر - رضي الله عنه -: «لا يرث المؤمن الكافر»، هو من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم-، رواه البخاري في كتاب الفرائض بلفظ: «لا يَرثُ المُسْلمُ الكافر، ولا الكافرُ المسلم». وللنسائي: «لا يَتَوارَثُ أهلُ مِلتين»، وحملها الجمهور على أن المراد بإحدى الملتين الإسلام، وبالأخرى الكفر. قال الحافظ: «وهو أَولى مِنْ حملها على ظاهر عمومها، حتى يمتنع على اليهودي مثلًا أنْ يَرثَ مِنَ النصراني، والأصح عند الشافعية أنّ الكافرَ يرث الكافر، وهو قول الحنفية والأكثر». الفتح (12/51). وقال البخاري: باب لا يرثُ المُسلمُ الكافر، ولا الكافرُ المُسلم، وإذا أسلمَ قبل أنْ يُقْسم الميراث؛ فلا ميراثَ له. البخاري (8/194). قال الحافظ: أشار إلى أنّ عُمُومه يتناول هذه الصورة، فمن قيَّد عدم التوارث بالقسمة احتاج إلى دليل؛ قال ابن المنيِّر: صورة المسالة إذا مات مسلم وله ولدان مثلًا مسلم وكافر، فأسلم الكافر قبل قسمة المال، قال ابن المنذر: ذهبَ الجُمْهور إلى الأخذ بما دلّ عليه عُمُوم حديث أسامة. انتهى. والحديث دليل على انقطاع التوارث بين المُسْلم والكافر، قال الموفق ابن قدامة: مَنْ لمْ يرث لمعنى فيه، كالمُخَالف في الدّين، والرّقيق، والقَاتل، فهذا لا يَحْجبُ غيره، في قول عامّة أهلِ العلم. ولا يَرثُ المُسْلم الكافر، ولا الكافر المسلم، لا بالنّسَب، ولا بالولاء، في قول جمهور العلماء، وهو رواية عن أحمد. «المغني» (14/94).

فوائد الحديث

1- ضَرَبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- بنفْسِه المثلَ الأكمَلَ في كلِّ العِباداتِ والتعامُلاتِ، ومِن ذلك: أحكامُ التَّوارُثِ بيْن المسلِمِ والكافرِ، وبيانُ عدَمِ التَّوارُثِ بيْنهما. 2- وفيه: مَشروعيَّةُ تَوريثِ دُورِ مكَّةَ ومَنازلِها، وكذا بيعها وشِراؤها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك