أهمية أصول الفقه في تقرير مسائل الاعتقاد (2)
نستكمل ما بدأناه في الحديث عن أهمية أصول الفقه في تقرير مسائل الاعتقاد، دلالات الألفاظ نموذجًا؛ حيث ذكرنا أن تحديد منهجية الاستدلال يعدُّ من أهم الوسائل لإنتاج المعرفة اليقينية الصحيحة، كما أن ضبط هذه المنهجية وبناء مرجعية موحَّدة لها يجعلها ذاتية، ويحافظ على خصوصيتها في التصورات والأفكار، ويضع حدًّا للتأويلات الممكنة للنصوص الشرعية محل التطبيق أو الإشكال.
الألفاظ لها أهمية كبيرة في الوقوف عند مراد الشارع؛ فما تنازع الناس فيه من مسمى الإيمان والكفر والفسوق والعصيان كلها أمور راجعة إلى التحري في الألفاظ والنظر فيها نظرا شرعيًّا؛ فحين قصر المرجئة مسمى الإيمان على التصديق -وهو معناه لغة- أدى ذلك بهم إلى الدخول في مضايق شرعية بسبب إغفالهم للنصوص الشرعية، وقصرهم اللفظ على معناه اللغوي، وإغفالهم للمعنى الشرعي، وإعراضهم عن بيان الله وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فتأوَّلوا كل ما يخالف هواهم وتقريرهم؛ وذلك أن اللغة والعقل ليسا كافيين في فهم الوحي دون الرجوع إلى اصطلاح الشارع.
معرفة حدود ما أنزل الله
ومن ثم كان معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله متوقفة على معرفة معاني الألفاظ والوقوف عندها حسب ما حدده الشارع، يقول ابن القيم -رحمه الله-: «ومعلوم أن اللَّه -سبحانه- حَدَّ لعباده حدودَ الحلال والحرام بكلامه، وذمَّ مَنْ لم يعلم حدودَ ما أنزل اللَّه على رسوله صلى الله عليه وسلم ، الذي أنزله هو كلامه؛ فحدود ما أنزله اللَّه هو الوقوف عند حد الاسم الذي عَلَّق عليه الحِلَّ والحرمةَ؛ فإنه هو المنزلُ على رسوله وحده بما وُضع له لغة أو شرعًا؛ بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه، ولا يخرج منه شيء من موضوعه، ومن المعلوم أنَّ حد البُرِّ لا يتناول الخردل، وحد التمر لا يدخل فيه البلوط، وحد الذهب لا يتناول القطن، ولا يختلف الناس أن حدّ الشيء ما يمنع دخول غيره فيه، ويمنع خروجَ بعضه منه».
مسألة اللفظ وعلاقته بالمعنى
وهذا الكلام من ابن القيم -رحمه الله- يضبط مسألة اللفظ وعلاقته بالمعنى؛ إذ اللفظ هو الذي علّق به الحكم، وكيف يسلم الإنسان بوقوفه عند اللفظ والالتزام بحدوده ما لم يضبط معناه، وإن هذا التمسك باللفظ وبتمام معناه؟ هو الحد الشرعي الذي حده الله -عز وجل- لعباده في الحلال والحرام، والكفر والإيمان؛ فإن لكل لفظ معنى يختص به عن سائر الألفاظ، قد يخصصه الشارع به، وقد ينقله عنه، وقد يستخدمه في مجازه القريب أو الغالب، وهنا لا يسلم الشخص في تعامله مع ألفاظ الوحي وصرفها عن ظاهرها إلا بالتمسك بالآليات العلمية المتعبة عند العلماء في التعامل مع الألفاظ، وقد ذكر الشاطبي -رحمه الله- ضابطا للتفسير لا بأس بذكره قبل التمثيل؛ حيث يقول: «إذا كان الدليل على حقيقته في اللفظ لم يستدل به على المعنى المجازي، إلا على القول بتعميم اللفظ المشترك، بشرط أن يكون ذلك المعنى مستعملا عند العرب في مثل ذلك اللفظ، وإلا فلا.
مثال تطبيقي
فمثال ذلك مع وجود الشرط: قوله -تعالى-: {يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ الميِّتِ وَيُخْرِجُ الميِّتَ مِنَ الحَيِّ} (يونس: 31) ؛ فذهب جماعة إلى أنَّ المراد بالحياة والموت ما هو حقيقيٌّ، كإخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة وبالعكس، وأشباه ذلك مما يرجع إلى معناه، وذهب قوم إلى تفسير الآية بالموت والحياة المجازيين المستعملين في مثل قوله -تعالى-: {أَوَمَن كَانَ مَيتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}(الأنعام: 122)، وربما ادَّعى قوم أن الجميع مراد بناء على القول بتعميم اللفظ المشترك واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ ولهذا الأصل أمثلة كثيرة.
ما تخلَّف فيه الشرط
ومثال ما تخلَّف فيه الشرط: قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (النساء: 43)؛ فالمفسِّرون هنا على أن المراد بالسكر ما هو الحقيقة، أو سكر النوم وهو مجاز فيه مستعمل، وأن الجنابة والغسل منها على حقيقته؛ فلو فسر على أن السكر هو سكر الغفلة والشهوة وحب الدنيا المانع من قبول العبادة في اعتبار التقوى، كما منع سكر الشراب من الجواز في صلب الفقه، وأن الجنابة المراد بها التضمّخ بدنس الذنوب، والاغتسال هو التوبة؛ لكان هذا التفسير غير معتبر؛ لأن العرب لم تستعمل مثله في مثل هذا الموضع، ولا عهد لها به؛ لأنها لا تفهم من الجنابة والاغتسال إلا الحقيقة، ومثله قول من زعم أن النعلين في قوله -تعالى-: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ}(طه: 12)، إشارة إلى خلق الكونين؛ فهذا على ظاهره لا تعرفه العرب، لا في حقائقها المستعملة ولا في مجازاتها، وربما نقل في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : «تداووا؛ فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء»، أن فيه إشارةً إلى التداوي بالتوبة من أمراض الذنوب، وكل ذلك غير معتبر؛ فلا يصح استعمال الأدلة الشرعية في مثله، وأول قاطع فيه أن القرآن أنزل عربيًّا وبلسان العرب، وكذلك السنة إنما جاءت على ما هو معهود لهم، وهذا الاستعمال خارج عنه.
المعهود عند العرب
فمن التمسُّك بالألفاظ ودلالتها ألا تحمل على غير المعهود عند العرب، ولاسيما عند المخاطبين بالوحي ابتداء؛ فالعرف المعتبر، واللغة المعتبرة في خطاب القرآني، لا يخرجان عما كان سائدًا في عصر نزول الوحي؛ فلا عبرة بالعرف الطارئ، ولا بالمعنى الْمُوَلَّد، وهذا هو سر إنكار السلف على المتكلمين تأويل الوحي وصرفه عن ظاهره من أجل معان مولدة، أو حادثة بعد السلف، أو قرائن عقلية، لكنها ليست بدهية ولا معلومة للمخاطب وقت نزول الخطاب؛ فحملوا كلام الله على الجوهر والعرض، وصرفوا الألفاظ عن معانيها بحجة معارضتها للقواطع العقلية، ومعلوم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمة -رحمه الله-: «أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله على عادات حدثت بعده في الخطاب لم تكن معروفة في خطابه وخطاب أصحابه، كما يفعله كثير من الناس وقد لا يعرفون انتفاء ذلك في زمانه؛ ولهذا كان استعمال القياس في اللغة وإن جاز في الاستعمال؛ فإنه لا يجوز في الاستدلال؛ فإنه قد يجوز للإنسان أن يستعمل هو اللفظ في نظير المعنى الذي استعملوه فيه مع بيان ذلك على ما فيه من النزاع، لكن لا يجوز أن يعمد إلى ألفاظ قد عرف استعمالها في معان؛ فيحملها على غير تلك المعاني ويقول: إنهم أرادوا هذه بالقياس على تلك، بل هذا تبديل وتحريف»، وقال أيضا: «فبتلك اللغة والعادة والعرف خاطبهم الله ورسوله، لا بما حدث بعد ذلك».
ولا شك أن التمسك بالألفاظ وبدلالتها، هو الأصل في التعامل مع النصوص الشرعية، ومن هنا عصم به السلف من الزلل في الألفاظ جميعها، سواء في حد الإيمان والكفر والمعصية وغيرها من الأمور التي تنازع الناس فيها، وكذلك في الأمور العملية.
جمع النصوص
وكما أنه لابد من التمسك باللفظ وبدلالته؛ فإنه لابد أيضًا من جمع النصوص بعضها إلى بعض، والنظر في السياق؛ فوضع الكلمة كما مر ليس كافيا في معرفة معناها ولا مدلولها، بل لابد من النظر في القرائن والأحوال المحيطة بالكلمة، التي تجعل مدلولها قطعيًّا، أو مبنيًّا على غلبة الظن، وإن كان اللفظ في نفسه محتملًا؛ فلا يمكن المعارضة بين أجزاء الكلام؛ إذ الكلام في التركيب هو بمثابة الاسم المركب، لا يكون اسما دالا على المراد إلا بتركيبه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «والفرق بين القرينة اللفظية المتصلة باللفظ الدالة بالوضع، وبين الألفاظ المنفصلة معلوم يقينًا من لغة العرب والعجم، ومع هذا فلا ريب عند أحد من العقلاء أن الكلام إنما يتم بآخره، وأن دلالته إنما تستفاد بعد تمامه وكماله، وأنه لا يجوز أن يكون أوله دالًّا دون آخره، سواء سمي أوله حقيقة أو مجازًا، ولا أن يقال: إن أوله يعارض آخره؛ فإن التعارض إنما يكون بين دليلين مستقلين، والكلام المتصل كله دليل واحد؛ فالمعارضة بين أبعاضه كالمعارضة بين أبعاض الأسماء المركبة.
الألفاظ لم تقصد لذواتها
وأهم شيء في هذا الباب أن يعلم أن الألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما لتبيين مراد المتكلم؛ فإذا تبين فلا عبرة باللفظ أصالة؛ لأن مراد المتكلم قد يتبين بغير الكلام، ومن هنا كانت ضرورة مراعاة التركيب أهم من مراعاة اللفظ، وقد فصل ابن القيم في هذه المسألة وبين أهميتها؛ فقال: «والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم؛ فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو بإيماءة، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يخل بها، أو من مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته، وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته، وأنه يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه، وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره ومشبهه، فيقطع العارف به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا، ويكره هذا، ويحب هذا ويبغض هذا. وأنت تجد من له اعتناء شديد بمذهب رجل وأقواله كيف يفهم مراده من تصرفه ومذاهبه، ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا ويقوله، وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه، لما لا يوجد في كلامه صريحًا».
اللفظ العام
فاللفظ العام لابد أن ينظر في مخصصه، والمطلق لابد أن ينظر في مقيده؛ إذ قد يكون كلا المعنيين غير مراد؛ فالعجلة في تبني معاني النصوص قبل التأني في مقيداتها هي التي توقع في البدع والمخالفة، وجميع مخالفات أهل البدع لأهل السنة في باب الاعتقاد راجعة إلى الخطأ في التعامل مع اللفظ ودلالته، ودونك مثال على ذلك:
آيات الصفات وأحاديثها
زعم بعضهم أن آيات الصفات وأحاديثها لا يعقل منها إلا التشبيه، ومن ثم لزم تأويلها، ونحن نذكر هذا التأويل ونردّه، وإن كنا نعلم أنه قد وقع فيه بعض الأفاضل ممن لا يشتركون مع أهل البدع في أصل النِّحلة؛ فمن المعلوم تأويل المتكلمين لصفة اليد لله -عز وجل-، ودعواهم أنها القدرة والنعمة، بدليل أن هذا الاستعمال موجود عند العرب، وقد تنبه ابن بطال -رحمه الله- لخطأ هذا التأويل، وتجاوزه للمعنى الذي يدل عليه السياق؛ فقد قال في قوله -تعالى-: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين} (ص: 75): استدلاله (أي: البخاري) من قوله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، وسائر أحاديث الباب على إثبات يدين لله هما صفتان من صفات ذاته، ليستا بجارحتين، بخلاف قول المجسمة المثبتة أنهما جارحتان، وخلاف قول القدرية النفاة لصفات ذاته، ثم إذا لم يجز أن يقال: إنهما جارحتان، لم يجز أن يقال: إنهما قدرتان، ولا إنهما نعمتان؛ لأنهما لو كانتا قدرتين لفسد ذلك من وجهين:
- أحدهما: أن الأمة أجمعت من بين نافٍ لصفات ذاته، وبين مثبت لها أن الله -تعالى- ليس له قدرتان، بل له قدرة واحدة في قول المثبتة، ولا قدرة له في قول النافية لصفاته؛ لأنهم يعتقدون كونه قادرًا لنفسه لا بقدرة.
- والوجه الآخر: أن الله -تعالى- قال لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}، قال إبليس مجيبًا له: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}، فأخبر بالعلة التي من أجلها لم يسجد، وأخبره -تعالى- بالعلة التي لها أوجب عليه السجود، وهو أن خلقه بيديه؛ فلو كانت اليد القدرة التي خلق آدم بها، وبها خلق إبليس لم يكن لاحتجاجه -تعالى- عليه بأن خلقه بما يوجب عليه السجود معنى؛ إذ إبليس مشارك لآدم فيما خلقه به -تعالى- من قدرته، ولم يعجز إبليس بأن يقول له: أيْ رب، وأيُّ فضل له عليّ وأنا خلقتني بقدرتك كما خلقته؟! ولم يعدل إبليس عن هذا الجواب إلى أن يقول: أنا خير منه؛ لأنه خلقه من نار وخلق آدم من طين؛ فعدول إبليس عن هذا الاحتجاج مع وضوحه دليل على أن آدم خصه الله -تعالى- من خلقه بيديه بما لم يخص به إبليس.
موقف القدرية
وكيف يسوغ للقدرية القول بأن اليد هنا القدرة مع نفيهم للقدرة؟! وظاهر الآية مع هذا يقتضي يدَين؛ فينبغي على الظاهر إثبات قدرتين، وذلك خلاف الأمة. ولا يجوز أن يكون المراد باليدين نعمتين لاستحالة خلق المخلوق بمخلوق مثله؛ لأن النعم مخلوقة كلها، وإذا استحال كونهما جارحتين وكونهما نعمتين وكونهما قدرتين، ثبت أنهما يدان صفتان لا كالأيدي والجوارح المعروفة عندنا، اختص آدم بأن خلقه بهما من بين سائر خلقه تكريمًا له وتشريفًا.
وقال ابن التين: قوله: «وبيده الأخرى الميزان»، يدفع تأويل اليد هنا بالقدرة، وكذا قوله في حديث ابن عباس رفعه: «أول ما خلق الله القلم؛ فأخذه بيمينه، وكلتا يديه يمين» الحديث.
وقال ابن حجر: «واليد في اللغة تطلق لمعان كثيرة، اجتمع لنا منها خمسة وعشرون معنى ما بين حقيقة ومجاز»، ثم أتى بتلك المعاني التي استعملتها العرب لكلمة اليد، وواحد منها هو المراد؛ لأنه هو الذي يسمح به السياق، ولا يتعارض مع النصوص الأخرى.
لاتوجد تعليقات