رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات 6 أكتوبر، 2024 0 تعليق

التوازن  بين الأسباب والتوكّل – سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان

  • معرفة مفهوم الالتفات إلى الأسباب بطريقة صحيحة تتطلَّب منا أن نكون على علم بأن كل شيء في هذا الكون مقدَّر من قبل الله سبحانه وتعالى وأن الأسباب لا تملك قدرة حقيقية بذاتها
  • التوكل لا يعني الإهمال في التحضير والاستعداد بل يعني الثقة بأن كل شيء بيد الله وأنه هو المتصرف في كل شيء وأنه لم يأمر بالتوكل إلا بعد التحرز والأخذ بالأسباب
 

إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة، وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله بوصفه مفتاحا رئيسا لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان، وإن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات.

       والتوكل على الله -وهو عملٌ قلبيٌّ- يعدّ جزءًا أساسيًّا من المعادلة؛ فالإنسان بالرغم من جهوده وتخطيطه يجب أن يكون على يقين بأن النجاح لا يأتي إلا بإرادة الله وبركته، فمع أهمية الجدّ والاجتهاد، إلا أن التفوق والتميز يأتيان بإذن من الله وتوفيقه، والتوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله يعزّز الثقة بالنفس ويرسخ الإيمان ويجعل الإنسان يعيش حياة متوازنة ومطمئنة، فهو سرّ السعادة عند المسلم.

أهمية الأخذ بالأسباب

       لا يختلف أحد على أهمية الأخذ بالأسباب في تحقيق أي عمل، وهذا المفهوم هو الذي اعتمده الصحابة -رضوان الله عليهم- والتابعون لهم بإحسان، وكذلك أئمة الإسلام من الفقهاء والمشهورين وغيرهم -رحمهم الله-؛ فإنهم يرون أن القدر والشرع والحكمة جميعها من صنع الله، وأنه جعل لكل حادثة أسبابًا متعددة. وقد تعدّدت الأدلة الدالة على هذا المفهوم في الكتاب والسنة؛ فالإسلام يحثّ على العمل والاجتهاد، ويحثّ على استغلال الوسائل المتاحة لتحقيق الأهداف، وقد جعل الله للحوادث أسبابًا كثيرة، فأخبرنا -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم بأنه هو الذي أحيا الأرض بعد موتها؛ بسبب الماء الذي أنزله من السماء، فالماء هو المصدر الأساسي لحياة الكائنات على الأرض، وهو مفتاح الحياة والنمو والاستمرارية، قال -تعالى-: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 164). وأيضًا: بيّن الله -سبحانه- في كتابه الكريم أنه من عظمته وكمال قدرته أنزل الماء من السماء بسبب السحاب، وأخرج الثمر والنباتات الخضراء بفضل هذا الماء الذي ينزله على الأرض. ففي هذا الإشارة إلى عظمة الله وقدرته على الخلق وتدبير كل شيء في هذا الكون، وأنه جعل لكل شيء سببًا، قال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 57).

شروط العمل بالأسباب

للعمل بالأسباب جملةٌ من الشروط: (1) ألا يعتقد استقلاليتها تحدَّث أهل العلم عن شروط العمل بالأسباب وأهميتها، فأكّدوا أنه يجب على المؤمن أن يعمل بالأسباب، وألا يعتقد تأثير الأسباب على الاستقلال؛ فالأسباب الكونية خلقها الله -تعالى-، وهي بحاجة إلى أسباب أخرى تعاونها وتدفع موانع تعارضها، وهذا لا يقدر عليه إلا الله وحده، قال ابن تيمية: «وأهل السنة لا ينكرون وجودَ ما خلقه الله من الأسباب، ولا يجعلونها مستقله بالآثار، بل يعلمون أنه ما من سبب مخلوق إلا وحكمه متوقّف على سبب آخر، وله موانع تمنع حكمَه، كما أن الشمس سبب في الشعاع، وذلك موقوف على حصول الجسم القابل به، وله مانع كالسحاب والسقف، والله خالق الأسباب كلها، ودافع الموانع». (2) وجود صلة وثيقة بين السبب والنتيجة يعد الارتباط بين السبب والمسبَّب أمرًا أساسيًّا في حياتنا اليومية، فلا يمكننا إدراك العالم من حولنا دون فهم هذه العلاقة؛ إذ يجب أن يكون هناك ارتباط حقيقي بين السبب والنتيجة، وهذا ما يمكن للإنسان أن يدركه من خلال التجربة والملاحظة. فعلى سبيل المثال: عندما نتعرض لحروق الشمس ندرك أن السبب وراء ذلك هو التعرض المفرط لأشعة الشمس دون حماية، وهذا ما تثبته التجربة، كما أننا ندرك -من خلال العادات- أن هناك ارتباطًا بين تناول الطعام الصحيّ والحفاظ على الصحة؛ حيث يعد ذلك مسببًا للحصول على جسم سليم وصحي، وكما أننا أدركنا أهمية فهم هذا الارتباط بين السبب والنتيجة والتأكد من صحته من خلال التجربة والخبرة، فعلينا أيضًا أن ندرك صحة ذلك الارتباط بما ثبت لدينا من طريق شرعي. فمن أثبت شيئًا سببًا بلا علم أو يخالف الشرع كان مبطلًا، مثل أن يظن أن النذر سبب في الدفع البلاء وحصول النعماء، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر وقال: «إنَّه لا يَأْتي بخَيْرٍ، وإنَّما يُسْتَخْرَجُ به مِنَ البَخِيلِ». والخلاصة أن العلم بكون الشيء سببًا يحصل بطريقين: الأول: بطريق الشرع، والثاني: بطريق التجربة، وبناءً على ذلك، لو لبس الإنسان حلقة أو خيطًا على أنه سبب لرفع البلاء أو دفعه فقد أشرك شركًا أصغر؛ لأن الله -تعالى- لم يجعله سببًا شرعيًّا ولا قدريًّا كونيًّا، فيكون شارك الله -تعالى- في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب، والله -تعالى- لم يجعله سببًا. (3) عدم الاعتماد على الأسباب نُقل عن بعض العلماء أن الالتفات إلى الأسباب يعد شركًا في التوحيد، وأن محو الأسباب يعد نقصًا في العقل، وأن الانصراف عن الأسباب بالكلية يعد مخالفة للشرع، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الالتفات إلى السبب يعني اعتماد القلب عليه ورجاءه، وهذا لا يجوز في المخلوقات؛ لأنها ليست مستقلة بالتأثير، وإنما تحتاج إلى شركاء ومعاونين، ومع ذلك إذا لم يشأ مسبب الأسباب أن يحدث شيء فإنه لن يحدث؛ ما يؤكد أن الله هو رب كل شيء ومالكه؛ لذا يجب على المسلم أن يكون قلبه معتمدًا على الله، وليس على سبب من الأسباب، ومع ذلك، يُيسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة، وإذا كانت هذه الأسباب ممكنة له وهو مأمور بها فَعَلَها مع التوكل على الله. فعلى سبيل المثال: يجب على المؤمن أن يجاهد العدوّ ويحمل السلاح، دون أن يكتفي بالتوكّل على الله. فمن ترك الأسباب المأمور بها فهو عاجز مفرط مذموم. وقد لخّص ابن القيم هذا الموضوع تلخيصًا وافيًا ووضحه توضيحًا دقيقًا؛ إذ يقول معلقًا على عبارة: «الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد» بأن الالتفات إلى الأسباب يتضمَّن ضربين: الأول هو الشرك، والثاني هو العبودية والتوحيد. فالشرك هو أن يعتمد الإنسان على تلك الأسباب ويطمئنّ إليها، معتقدًا أنها هي المحصّلة لتحقيق المقصود بذاته، وبذلك يكون معرضًا عن المسبب الحقيقي، ويجعل نظره وتفكيره مقصورًا فقط على تلك الأسباب دون أن يلتفت إلى الفاعل الحقيقي والأسمى وهو الله -سبحانه وتعالى. أما الضرب الثاني من الالتفات إلى الأسباب فهو العبودية والتوحيد؛ حيث يكون الإنسان مدركًا بأن تلك الأسباب لا تملك قدرة حقيقية على تحقيق المصلحة أو دفع المضرة إلا بإذن من الله -سبحانه وتعالى-. وبذلك يكون توجُّهه وثقته متوجهان نحو الله وحده، معترفًا بأن كلَّ شيء بيده، وأن كلَّ سبب لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا بإذن من الخالق.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك