يَومٌ رَمضَانِيٌّ مَعَ السَّلَف
أظلَّنا رمضان سيدُ الشُّهور، بحلوله يبتهج الفؤاد ويحلّ السرور، فأيامه شامة في جبين الدهور، ولياليه غُرَّة في العصور، فبالقرآن يزهو وتؤوب النفوس فيه وتحور، وبالصوم يزدان، وأُعْطيات الخير تدور، ويُدحض الشيطان وأهل الباطل والزور، والناس فيه بين عكوفٍ في المساجد ومرور، وحتى مطاعمه بركات ما بين فطور وسحور، بيد أن في أفئدة الأوابين تشوُّف يحور ويدور، كيف كان السلف في ليله والبكُور؟ فدونك حال السلف يا قارئ هذه السطور.
لنبدأ أوَّلا بما قبل الفجر، وهو وقت السَّحر، فلو قلَّبنا النظر إلى السلف في ذلك الوقت رأيناهم منشغلين بأعمالٍ جليلة، فقد كانوا لا يتركون أكلة السَّحر، وكيف يتركونها والنبي - صلى الله عليه وسلم- يقول فيها: «تسحَّروا فإن في السحور بركة»، وكذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحضُّ أصحابه إليه ويقول لهم: «هلمُّوا إلى الغداء المبارك»، وفي يوم من الأيام دخل رجل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتسحَّر، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- «إنها بركةٌ أعطاكم الله إياها، فلا تدَعوه»، فقمِنٌ بالمسلمين أن يقتفوا آثارهم.
سحورهم قبيل الفجر
وكان سحورهم قبيل الفجر كما ورد ذلك عن أنس بن مالك أن زيد بن ثابتٍ حدَّثه: «أنهم تسحروا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قاموا إلى الصلاة، قلت: كم بينهما؟ قال: قدر خمسين أو ستين»، يعني آية، وخير السحور هو التمر كما روى أبو هريرة -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «نعم سحور المؤمن التمر».
وإن كان التسحُّر بالتمر من السنة المطهَّرة إلا أنَّ السحور مشروع بأي طعام مطلقًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «السّحور أكلة بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن اللّه وملائِكته يصلّون على المتسحِّرِين»، ثم لا يكادون ينتهون منه حتى يبادروا إلى مسجدهم يلجؤون إلى ربِّهم ويدعون، كيف لا؟ وربُّهم ينزل إلى السماء الدنيا في تلك اللحظات الفاضلة ويناديهم، «فيقول: هل من مستغفرٍ؟ هل من تائبٍ؟ هل من سائلٍ؟ هل من داعٍ؟ حتى ينفجر الفجر»، وكانوا على كل أحيانهم لا يتركون الذكر والدُّعاء ولاسيما في رمضان؛ حيث تكثر فيه الرحمات وأوقات الإجابات؛ سواء عند الإفطار أم في الأسحار وبين الأذان والإقامة.
ماذا لو انبلج الفجر؟
فإذا انبلج الفجر، وأذَّن المؤذِّن: حيَّ على الصلاة، هبُّوا وانطلقوا يلبُّون نداء الرحمن، ويقتدون بنبيِّهم ويركعون نافلة الفجر في حجورهم، تلك النافلة التي قالت عائشة فيها رضي الله عنها: «لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- على شيء من النوافل أشد منه تعاهدًا على ركعتي الفجر»، ثم ينطلقون ويؤدون صلاة الفجر ويقيمونها كما أمر الله -تعالى.
الجلوس حتى تطلع الشمس
وبعد صلاة الفجر كانوا يجلسون في مصلَّاهم حتى تطلع الشمس مُقتفين في ذلك أثر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث «كان إذا صلى الغداة -أي الفجر- جلس في مصلَّاه حتى تطلع الشمس»، وكيف لا يحرصون على ذلك؟ وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة»؛ ولما فيه من التعجُّب أتبعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بقوله: «تامة تامة تامة»، فكانوا يفتتحون يومهم بالصَّلاة والصَّوم والذكر وقراءة القرآن والمكث في المساجد.
فضائل الصيام
وفضائل الصيام مشهورة ولكن حسبنا من الحديث عن الصيام أن الله -سبحانه وتعالى- تكفَّل بجزائه كما في الحديث القدسي: «قال الله -عزَّ وجل-: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به»، وكانوا لا يؤثرون أزمان رمضان لشيءٍ كما يؤثرونه للقرآن، فقد كانوا يكثرون فيه من قراءة القرآن، وكيف لا يُكثرون منه وهو الشهر الذي أنزل فيه! وكيف لا يُكثرون منه وجبريل كان يدارس فيه النبي -صلى الله عليه وسلم - القرآن في كل ليلة! وكان الزهري -رحمه الله- إذا دخل رمضان يقول: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام، وكان مالك والثوري رحمهما الله إذا دخل رمضان تركا جميع العبادة وأقبلا على قراءة القرآن، وكان منهم من يختم في كل يوم كعثمان بن عفَّان رضي الله عنه، وسعيد بن جبير والإمام الشافعي -رحمهما الله وغيرهما-، ناهيك عمَّن كان يختم في كل يومين أو ثلاث أو كل أسبوع.
قراءة القرآن لدى السلف
وليست قراءة القرآن لدى السلف مقتصرة على النهار كما يظن بعض المسلمين! بل للَّيل حظُّه ونصيبه؛ فقد كانت مدارسةُ جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم - ليليَّة ولم تكن نهاريَّة ومنه ومن قول الله -تعالى-: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} (المزمل: 6) أخذَ العلماء استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلًا؛ إذ الليل تنقطع فيه الشواغل، وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر.
فإذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا أفطر الصائم منهم، وكانوا يفطرون على الرطب والتمر والماء كما ورد ذلك عن الصادق المصدوق عليه -الصلاة والسلام.
أجر إفطار الصائمين
وكانوا يغتنمون أجر إفطار الصائمين وإطعام الطعام؛ فكثير من السلف كان لا يُفطر إلا مع اليتامى والمحتاجين، ومنهم من عُرف عنه أنه لا يفطر على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه، وكان ذوو السعة والخير منهم من يطعم ويجود على الناس في رمضان خاصة، فيفطِّر المئات والألوف من الناس؛ كحماد ابن أبي سليمان الذي ورد أنه كان يفطِّر في شهر رمضان خمسمائة إنسان.
فإطعام الطعام له مكانة لدى السَّلف في رمضان؛ ولذا كانوا يقولون: «إذا دخل رمضان: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام»، وكيف لا يكون للإطعام مكانته وهو من الصدقة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجوَد ما يكون بها في رمضان!
التأهب للقيام
ثم إذا دخل وقت العشاء تأهَّبوا للقيام، وكفاهم فيه مرغِّبًا قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه»، وقد كان خير قدوة وأُسوة؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يطيل القيام في الليل، وقد صلَّى معه حذيفة -رضي الله عنه - ليلة فوصف حاله، فقال: «صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوُّذ تعوَّذ، ثم ركع، فجعل يقول: «سبحان ربي العظيم»، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده»، ثم قام طويلًا قريبًا مما ركع، ثم سجد، فقال: «سبحان ربي الأعلى»، فكان سجوده قريبًا من قيامه.
وكان الصحابة أحرص ما يكونون على قيام الليل والإطالة فيه؛ ففي إحدى ليالي رمضان قام بهم النبي - صلى الله عليه وسلم- حتى شطر الليل، فقال الصحابة: يا رسول الله، لو نفَّلْتنا قيامَ هذه الليلة، فقال: «إن الرجُلَ إذا صَلَّى مع الإمام حتى يَنصِرِفَ حُسِبَ له قيامُ ليلة»، وهذا من منن الله الكريم -سبحانه وتعالى- أن المسلم يُكتب له قيام ليلة إذا قام مع الإمام حتى ينصرف؛ فحريٌّ بنا -نحن المسلمين- أن نغتنمَ هذه الفرصة.
ما حادُوا
والسلف -رضوان الله عليهم- ما حادُوا عن هذا حتى بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم-؛ فقد أمر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - أُبيَّ بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا في فروع الفجر.
إطالتهم للقيام
ومن إطالتهم للقيام لا يكادون ينصرفون حتى يستعجل الخدم بالطعام مخافة الفجر، وقد يقوم أحدهم بسورة البقرة في اثنتي عشرة ركعة فيرى الناس أنه قد خفّف عنهم، وكان كثير منهم يصلي مع الناس العشاء، ثم يرجع إلى بيته فيصلي فيه القيام ثم يخرج إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فلا يغادره حتى يصلي فيه الصبح.
هكذا كان يوم رمضان عند السلف، مضمارًا للتنافس في الطاعات، والمسارعة إلى الخيرات، وحرصا على اللحظات، وخوف الحرمان والفوات، فلنُشمِّر عن سواعدنا ولنقْفُ آثارهم قبل الآهات والحسرات.
لاتوجد تعليقات