التنشئة التربوية بين الضبط الأسري والضبط الذاتي
- الأجدر والأصوب تربويا أن ننقل السلوكيات المنضبطة منّا إلى الأبناء تدريجيا حتى إذا ما تناصفوا مرحلة المراهقة يكون لديهم مراقبة ذاتية لأنفسهم
- لابد من تربية الأبناء على الانضباط الذاتي بمراقبة الله والخوف منه عزوجل والرغبة في إرضائه بالإقبال على الطاعات والامتناع عن المحرمات
- كم من جهود للوالدين أُهدرت في سبيل تعويد أبنائهم على الصلاة وهم غافلون عن أن قلوبهم خاوية من تقديس الله وتعظيم شأنه
عادة ما تكون بدايات تربيتنا لأبنائنا وبناتنا من خلال أدوارنا في تعويدهم على سلوكيات الصواب، وتدريبهم على تجنب فعل المشين من السلوكيات، هكذا هي البدايات في تنشئتنا للأبناء، وهذا هو الدور المنشود فعلا من الوالدين دوما في مراحل طفولة البنين والبنات؛ فنحن الذين نوجههم وندرّبهم ونعوّدهم ونقوّم تصرفاتهم، ونحن الذين نوضح لهم الحكمة من نهينا لهم عن فعل هذا وذاك من الأخطاء، ونحن في النهاية نراقب سلوكياتهم، وفي المحصّلة نحن الآباء والأمهات نقوم بأدوار الضبط الخارجي لسلوكيات أطفالنا في مراحل التنشئة الأولى، حتى يعتادوا الصواب فيفعلوه، وينبذوا الخطأ فيجتنبوه.
أعزائي الآباء وعزيزاتي الأمهات، تلك المراقبة التربوية والضبط الخارجي منّا لعيالنا، لا يصح الاستمرار به حتى مراحل شبيبتهم في مرحلة الفتوة (المراهقة)، ولا تصح منّا استمرارية تلك المراقبة الخارجية منّا عليهم وهم شباب في مراحل أعمارهم العشرينيّة.الأجدر والأصوب تربويا
فالأجدر والأصوب تربويا أن ننقل السلوكيات المنضبطة منّا إليهم تدريجيا شيئا فشيئا مع مرور الزمن التربوي لهم، حتى إذا ما تناصفوا مرحلة المراهقة، يكون لديهم مراقبة ذاتية لأنفسهم، فيقوّموها من ذواتهم بما امتلكوا من المقدرة التي نحن درّبناهم على امتلاكها، فمثلما ندرّبهم على القيم والمبادئ وثوابت الدين وترك الحرام وفعل الواجب، أيضا يلزمنا تدريبهم وتعويدهم حقا على ضبط أنفسهم بأنفسهم، وأن يراقبوا ذواتهم من خلال العقيدة التي من المفترض أنّ الآباء والأمهات قد اشتغلوا عليها ورسخوها سنين طوال ولا سيما العشر السنوات الأولى من أعمار أبنائهم. فمن المفترض أنّ الغرس متجذّر وعميق ومتأصّل في نفوس الأبناء، حتى إذا ما بلغوا عمر المراهقة ثم الشباب يصيرون إلى ضبط أنفسهم بشرع الله، بترك محرماته والإقبال من أنفسهم على واجباته، دون تذكير وإلحاح من الوالدين، ودون مراقبة منّا عليهم، فلا يصح أن نراقبهم كالبوليسية، صلّوا أم لم يصلّوا، ملتزمون أخلاقيا أم أنهم فقط أمامنا مثاليون! ومن ذوات أنفسهم يدركون ما اللباس الشرعي؟ وما حدوده وشروطه؟ ولا يحتاج الأبوان إلى مراقبة ما يلبسون خارج المنزل.الانتقال التدرجي
أعزائي القراء، هذا الانتقال التدريجي لضبط سلوكيات الأبناء لا يتحقق بين يوم وليلة، ولا بين عشيّة وضحاها، وإنما هو شغل وجهد وتعب مُضنٍ، تبذله الأم ويبذله الأب بالاتفاق بينهما، حتى يضمنا ابنا وابنة يقتصّان الحق من أنفسهما، ويكونان قادرين على تفعيل الإرادة القوية لمنع هوى النفس الجامح من أن يغلبهما.الانضباط الذاتي
وهذه المرحلة من الانضباط الذاتي بمراقبة الله والخوف منه -عزوجل-، والرغبة في إرضائه بالإقبال على الطاعات والامتناع عن المحرمات، فهذه المرحلة لن يصل لها الأبناء إلا بتغذية قلوبهم بعبادة الرحمن -عزوجل- حق العبادة، بغرس أعمال القلوب، وأن يتدربوا على كيفية عبادة الله قلبا، ولا نكتفي بتعوديهم على عبادة الجوارح فقط كالصلاة والصيام وفعل العبادات الظاهرية بالأركان، وإنما لابد من الانكباب على الجانب العقائدي المرتبط بأعمال القلوب التعبدية لله -تعالى. وينبغي أن يحظى الأبناء بقسط وافر من التدريب كيف هي ممارستها؟ إذ لابد من تعويدهم على المعرفة القلبية وليس فقط الذهنية بمن هو الله -جل جلاله؟ وتعريفهم قلبيا وذهنيا على أسمائه العظيمة وصفاته الجليلة حق المعرفة القلبية، ولا نكتفي بمعرفتهم إياها معرفة ذهنية نظرية.جهود مهدرة
أعزائي القراء، كم من جهود الوالدين أُهدرت في سبيل تعويد أبنائهم على الصلاة وقلوب البنين والبنات خاوية خرِبة من تقديس الله وتعظيم شأنه! وإلا لو كان الأولاد يعظّمون ربهم التعظيم المطلوب، ويعرفون من ربهم؟ لما تجرّؤوا على ترك الصلوات أو التقطع في أدائها، ونحن ندفعهم لها دفعًا وهم يتهربون منّا تهرّبا بل ويكذبون أنهم صلوّا ولم يصلّوا، وأنهم يصومون وفي الحقيقة هم لا يصومون، وأنهم لا يدخنون ولكنهم يدخّنون، وأنهم نظيفون أخلاقيا فلا علاقات محرمة مع البنات. وكذلك البنات مع الشباب تتظاهر بعضهن بالصلاح لتحظى بمساحة من الحرية من أمها لتسمح لها بزيارة صديقتها أو التسوق مع فتيات من عمرها، ناهيك عن الكذب والسرقة والتعنيف للآخر وغيرها من اللا أخلاقيات يمارسنها بعيدا عن أعين رقابة الأم والأب.أين الله في قلوبهم؟
أين الله في قلوبهم؟ وأين مكانة ربنا وعظمة الخوف منه في نفوسهم؟ إنهم ممتنعون ومثاليون أمام آبائهم وأمهاتهم، ولكن خلف الكواليس يفعلون ما يحلو لهم من محرمات، وكم من آباء وأمهات صُعِقوا وصُدموا وهم أسر متدينة ومحافظة وأبناؤهم ملتحقين بالمراكز الدينية وحلقات الذكر وحفظ القرآن، ظنا من الوالدين أنّ هذا الالتحاق يُغني عن أدوارهم في تعويد الأبناء وتدريبهم على العقيدة المنيعة المؤثرة التي تصدّهم عن الهوى والحرام، والأعجب منه حينما تُظْهِر لك الأم عجزها عن الإحكام التربوي على أبنائها وتسوغ لنفسها سبب عجزها، وتُلقي باللائمة على خالتها أم زوجها، أنها تخرّب جهدها، وتلقي باللائمة على الأب والدهم أنه ليس له دور، ثم ماذا؟ ماذا يعني ذلك؟ أنّ الكل يتنحّى عن القيام بأدواره الصحيحة؛ فينحدر الأبناء سلوكيا، ويعيشون بلا أخلاق وبلا دين وبلا عقيدة راسخة، هذا حال كثير من الأسر، ولكنّ الواقع مستور والغطاء ساتر في آن واحد.لكل دوره
أعزائي القراء، صحيح أنّ لكل دوره، ولكن في الأساس لابد من عامود تربوي لا نغفل عنه، لو أصّلناه في نفوس البنات والبنين لن نعجز معهم حينما يصيرون إلى سن البلوغ والتكليف، وذلك بأنهم يجب أنْ يعرفوا الله ربهم حق المعرفة قلبيا وذهنيا، ليتمكنوا من التعلق به -سبحانه- منذ صغرهم، ثم هم إذا شبّوا على هذا التجذّر والرسوخ العقدي، عندها مهما دفعهم هواهم الشقّي إلى الخطيئة والخطأ والمعصية فإنّ نفوسهم تأبى الحرام وتستنكفه وتبغضه؛ لأنّ قدرتهم على التمييز بين الحرام والواجب والمسموح والمحظور بات جليّا واضحا بحكم ارتباطهم بالاعتبارات الدينية التي يملكون تجاهها البصيرة التي تُريهم ما يُرضي الله والذي يُغضبه -عز وجل-، وليس لنا خيار في أن نربيهم على غير هذا النهج، وإلاّ فالركاكة العقدية في انتظارهم، والانتكاس هو مصيرهم، ثم نندم حينما لا يكون للندم مكان بعد الفوات البائس في حياة الأسر المحافظة.
لاتوجد تعليقات