المسجد الأقصى وفلسطين في حياة الصحابة (١)
- مدينة القدس كانت محطة محورية للصحابة رضوان الله عليهم فقد قصدوها مجاهدين وفاتحين ومعلمين وعبّادا
- إن المكانة الرفيعة لفلسطين في قلوب الصحابة رضي الله عنهم باعتبارها جزءاً من معتقدهم الديني الوثيق جعل هذه البقعة المباركة مهوى أفئدتهم ومطمع نفوسهم
لا شك أن مدينة القدس كانت محطة محورية للصحابة -رضوان الله عليهم-؛ فقد قصدوها مجاهدين وفاتحين، أو معلمين وعبّادا، وقد تجلت أهميتها لديهم في العصر الإسلامي الأول، واستمرت بالتزايد مع تطور الحضارة الإسلامية، وانتشار العلوم الإسلامية، وظهور العديد من العلماء في مختلف الأقطار الإسلامية.
مرتكزات ثلاثة رئيسة
ويستمد بيت المقدس مكانته في الإسلام من مرتكزات ثلاثة رئيسة:- الأول: أن بيت المقدس هو ثاني المساجد التي وضعها الله -سبحانه وتعالى- في الأرض، وتعاهد الأنبياء في بنائه وتجديد عمارته، وهو محل دعوة الأنبياء الذين سبقوا نبيّنا محمداً - صلى الله عليه وسلم -، والذين عاش أكثرهم في بيت المقدس وما حوله.
- الثاني: بيت المقدس هو القبلة الأولى التي اتجه إليها المسلمون في الصلاة قبل أن يأمرهم الله بالتوجه نحو الكعبة.
- الثالث: أن بيت المقدس هو المكان الذي أسري بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إليه، ومنه كان معراجه.
من ارتبط بفلسطين من الصحابة
الصحابة الذين توافدوا على الشام زمن الفتوح وما بعدها كثيرون، ولا يكادون يحصون، ويمكن القول للاستدلال على ذلك مثالاً: إن كثيراً ممن شارك في معركة اليرموك دخلوا أرض فلسطين؛ ولاسيما أنه شهد اليرموك، -وهي على حدود فلسطين الشمالية الشرقية- ألف من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيهم نحو من مائة من أهل بدر. ومما يدل على كثرة من شهد فتوح بيت المقدس مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما ورد: أنه لما فرغ عمر من كتاب الصلح بينه وبين أهل بيت المقدس قال لبطريقها: دُلّني على مسجد داود، قال: نعم، وخرج عمر مقلّداً بسيفه في أربعة آلاف من الصحابة الذين قدموا معه متقلدين بسيوفهم وطائفة ممن كان عليها ليس عليهم من السلاح إلا السيوف. ومن الشواهد الجامعة التي تؤكد كثرة من وفد إلى فلسطين من الصحابة بعد الفتح ما رواه أبو داود بسنده عن يعلى بن شداد بن أوس قال: شهدت مع معاوية بيت المقدس، فجمّع بنا فنظرت فإِذا جُلُّ مَنْ في المسجد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأيتهم محتبين والإِمام يخطب، ومن الشواهد على سكن الصحابة في بعض مدن فلسطين ما ذكره ياقوت الحموي من أن عسقلان نزلها جماعة من الصحابة والتابعين، وعند البحث لا نكاد نجد سوى اسمين أو ثلاثة ممن نزلوها؛ ما يدل على غياب أسماء عديدين ممن نزل هذه المدينة.أسباب ارتباط الصحابة بفلسطين
إن المكانة الرفيعة لفلسطين في قلوب الصحابة رضي الله عنهم - باعتبارها جزءاً من معتقدهم الديني الوثيق- جعل هذه البقعة المباركة مهوى أفئدتهم ومطمع نفوسهم؛ فهي القبلة الأولى للمسلمين؛ حيث توجه لها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه نحواً من ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، كما شهدت تلك البقعة معراج النبي - صلى الله عليه وسلم -إلى السموات العلا، كما ارتبطت بأعظم فرائض الإسلام وشعائره، ألا وهي الصلاة، التي يزداد أجر من صلاها في المسجد الأقصى، ولا تعدّ كغيرها من الصلوات في المساجد الأخرى، خلا البيت الحرام والمسجد النبوي، كما أنها شهدت إعلان وراثة هذا الدين للأديان السابقة من خلال إمامة النبي -صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء في المسجد الأقصى. كما ارتبطت بالخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي شهد فتح بيت المقدس بنفسه مع كبار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، بعد معارك طاحنة صعبة مع الإمبراطورية الرومانية وحلفائها العرب وغيرهم، وقد أفاض العلماء في سرد مكانة هذه البقعة في مؤلفات ضخمة كثيرة جرى الاصطلاح على تسميتها بكتب الفضائل، التي ازداد الاهتمام بها مع الغزو الصليبي الإفرنجي لبلاد الشام وفلسطين.مجالات ارتباط الصحابة بفلسطين
يقول مؤرخ بيت المقدس مجير الدين الحنبلي العُليمي عمن دخل بيت المقدس من الصحابة: «هم خلق كثير لا يحصيهم إلا الله»، ومن دوافع الارتباط بأرض فلسطين: أولاً: الجهاد كان الجهاد أحد أهم بواعث التطلّع تلقاء بيت المقدس في فلسطين، وقد روت دماء كثير من الصحابة أرض فلسطين في معارك أجنادين وفِحْل بيسان وقيسارية، وقد خصصنا لذلك فصلاً خاصا، وقد عقد كبار الأئمة العلماء فصولاً في كتبهم تتحدث عن بشائر النبي - صلى الله عليه وسلم - بافتتاح بيت المقدس خاصة؛ حيث عقد الحافظ ابن حبان البُستي باباً في ذكر الإخبار عن فتح المسلمين بيت المقدس بعده -صلى الله عليه وسلم - ثم روى الحديث المشهور: عن عوف بن مالك الأشجعي قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وهو في خِباء من أَدَم فجلست في فناء الخباء فسلمتُ فردّ، ثم قال: «يا عوف، احفظ خِلالاً ستاً بين يدي الساعة: ... ثم قال: فتح بيت المقدس....»، لذلك لا نجد الأمر مستغرباً عندما يندفع الصحابة لتحقيق نبوءة النبي -صلى الله عليه وسلم - بفتح بيت المقدس، والرغبة في أن يكونوا في جيش الفتح. ومما يدل على شدة تعلقهم بهذه البقعة وتلهفهم إلى فتحها وضمها إلى رقعة الدولة الإسلامية ما ذكره ابن المرجّى بإسناده عن عروة، أنه كان في كتاب أبي بكر إلى خالد بن الوليد وهو بالعراق:»أن اعجَلْ إلى إخوانكم بالشام، فوالله لقريةٌ من قرى بيت المقدس يفتتحها الله أحب إلّي من رستاق عظيم من رساتيق العراق». ثانيًا: الإقامة كان بعض الصحابة الذين وفدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما انتشر الدين وتوسع نفوذ الدولة الإسلامية الوليدة إلى الشمال وقبيل فتح فلسطين وبيت المقدس- كانوا من أرض فلسطين كوفد الداريين تميم بن أوس وإخوته وأبناء عمومته، وبعض الجذاميين، وكان بعضهم ممن طاب لهم المقام في أرض فلسطين بعد استقرار الأوضاع الإدارية والأمنية عند انتهاء حروب الفتح، إما لأنهم كُلفوا بمناصب إدارية أو سياسية أو تعليمية، كعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو بن العاص، أو أنهم استطابوا العيش هناك كأبي قرصافة الذي عاش في فلسطين أكثر من عشرين عاماً وله فيها ذرية متعلمة ولاسيما من بناته، أو أنهم استقروا هناك ضمن سياسة توطين المسلمين المقاتلين في الثغور ومناطق الفتح في هذه المناطق. قال مؤرخ فلسطين موسى بن سهل النيسابوري الرملي: أسامي أصحاب رسول الله -[- الذين كانوا بأرض فلسطين ممن سكنها - منهم من أعقب ومنهم من لم يعقب - الذين كانوا ببيت المقدس: عبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وأبو أبيّ ابن أم حرام، وشمعون حليف حضرموت، وأبو ريحانة، وسلامة بن قيصر، وفيروز الديلمي، وذو الأصابع، وأبو محمد النجّاري، هؤلاء من أهل بيت المقدس ماتوا بها؛ والذين أعقب منهم: عبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وسلامة بن قيصر، وفيروز الديلمي، هؤلاء أعقبوا وأولادهم ببيت المقدس وقبورهم بها، والذين لم يعقبوا: أبو ريحانة، وذو الأصابع، وأبو محمد النجاري. ثالثًا: التعبّد ثَبَتَ فيِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ إلىَ ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحْرَامِ وَالمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا»، وَهُوَ حَدِيثٌ مُسْتَفِيضٌ مُتَلَقًّى بِالْقَبُولِ، أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَلَقِّيه بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ المُسْلِمِينَ عَلَى اسْتِحْبَابِ السَّفَرِ إلىَ بَيْتِ المَقْدِسِ لِلْعِبَادَةِ المْشْرُوعَةِ فِيهِ: كَالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالاعْتِكَافِ، والتعبد يكون بقصد الصلاة بها، كما سنرى في عرضنا للصحابة المقيمين بأرض بيت المقدس كأبي جمعة الذي قدم إلى بيت المقدس ليصلي بها، وشداد بن أوس وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم.
لاتوجد تعليقات